يوسف.. سجيناً مرة أخرى/ محمد بيطاري
من حارات الشام التي اختلط هواؤها برائحة الدماء، تخرج روشاك أحمد وبيدها كاميرا لتسجّل يوميات يوسف عبدلكي في فيلم وثائقي (16:46 دقيقة) بدعم من مؤسسة «بدايات». تبدأ روشاك فيلمها بمشهد عام للشام التي ارتبط بها تاريخ عبدلكي، وما زالت شاهدةً على ما اقترفه النظام بحق هذا الفنان. ثم يطل عبدلكي في حوار إيمائي مع غراب اقتناه. يظهر اقتناءه للطائر الذي يرمز إلى الشام، كما لو أنه تكسير لهذه الرمزية. ربما هو ذاته الغراب الذي يظهر مقتولاً في لوحته التي تحتوي على سكين مغروز في الخشب دون دماء….
يتكلم عبدلــكي في الفيــلم عن رؤيــته وأحلامه وهواجسه. يتنقل بين الفن والحياة والحرية والخسارة، وعن السياسة التي يتــمنى الفــكاك منــها، للتــفرغ للرســم فقــط. لم يستطع عبدلكي الانفصال عن السياسة يوماً، رسومه التي توصّفُ الواقع السوري بإحساسٍ فريــد ومرهـــف خــير دليــل على ذلك. انخراط دفع ثمنـه مجدداً بعد أن اعتقلته قوات النظام قبل أسابيع، للمرة الثانية في حياته، بعد نحو ربع قرن أمضاه في المنفى.
تعتبر روشاك أحمد أن هذا الفيلم «تجربتها الأولى»، على الرغم من أنها نفذت أعمالا أخرى مع مؤسسة «الشارع» و«كياني». أعمال تناولت فيها مواضيع متعددة وحساسة في المجتمع السوري خلال الثورة، كان أهمها بحسب رأيها «نساء الزبداني» و«عنب بلدي» وتناولت فيهما دور المرأة السورية في الثورة، وآخر بعنوان «يبرود: وسقط الأسد»، تحدثت فيه عن أهمية استمرار الكفاح السلمي والمدني.
بدا واضحاً أن علاقة صداقة تربط روشاك بالفنان المعتقل، ما مكنّها من الوصول إلى روح عبدلكي الإنسان البسيط. تقول: «أحببت أن يرى الناس في هذا الفيلم «عبدلكي الإنسان» بعيداً عن السياسة، إلا أن عبدلكي عرج في حديثه عن علاقته بالسياسة سريعاً خلال الفيلم، مؤكداً بذلك شخصية المناضل والفنان».
تعبّر روشاك عن حزنها لأنها لم تتمكن من تصوير علاقة عبدلكي مع أهالي الحي، مع البائع، والأطفال، مع من يَمُرُّ به، مع سائق التاكسي. تشبهه بلوحاته «البيضاء والسوداء». تلوم نفسها: «كان يجب أن أتكلم عن يوسف أكثر بكثير». إلا أن العقبات التي واجهتها خطيرة جداً، فمن الصعب خلال الفترة التي صوَرتْ بها الفيلم (قبل 8 أشهر) أن تتحرك بسهولة مع الكاميرا. آلة بدأت تشكل رعباً هائلاً للنظام، وهي الأداة التي إن وجدت بيدي أحدهم على أحد الحواجز الأمنية المنتشرة في قلب العاصمة دمشق، فستسبب له الاعتقال، وهو أخف المصائب وأقلها سطوة في ممارسة الفعل التوثيقي والإعلامي في سوريا.
نتيجة لذلك، حاولت روشاك أن تنهي التصوير خلال 3 أيام متواصلة، حصلت فيها على شهادات مصورة ليوسف انتقت منها ما أرادت، وبقيت منها شهادات كثيرة لم تجد لها مساحة في الفيلم.
كان الحَمَام العنصر الثاني بعد يوسف في الفيلم، حيث يتجلى واضحــاً علاقــته بهــا، وهي ذاتــها العلاقــة مع الحــرية والأفــق، يوسف الذي أحب الحرّية وقدسها وعرف معناها جيداً، لا يستطيع أن يغلق أبواب الأقفاص على الحَمَام، وكلاهما يراقب الآخر، كأنهما أصدقاء منذ الأزل وشريكان في عشق السماء.
شكّل الحمام عنصراً مهماً في المعالجة البصرية التي اتبعتها روشاك في مكان ضيق: «مرسم عبدلكي»، المساحة التي يمارس فيها طقوسه. مساحة صغيرة تفضي إلى المطلق، إنها المساحة المكثفة، عبرت عنها روشاك بقولها: «فكرة التضييق التي استخدمتها جَعَلَها يوسف كبيرة بعوالمه التي يعيشها في ذات المكان».
أفصح عبدلكي في الفيلم عما يجول في داخله من رغبات، يتمنى أن يحققها، عبّر عن رغبته في العمل على نصوص شعرية، كما يتــوق أيــضاً لتنفــيذ أفكــار لوحــات وأعــمال قـد دوّنها في 80 دفتراً، وبضحكته التي عهدناها يقول إنه «يحتاج إلى 200 عام للانتهاء من تنفيذها». الرغبة مع المستحيل عنصران يجتمعان في عبدلكي، ويصفهما بلسانه: انه العبث. لكن في الحقــيقة العــبث هو أن يُعتَــقل عبدلكــي خوفــاً من ريشته الحرة. كيف يمكن لنظام أن يعتقل شخصاً كهذا؟ أما روشاك التي أطلقت وعداً له بأن تُريه الفيلم قبل العرض، فتبقى في حالة انتظار. تقول: «لن يكتمل الفيلم إلا بحرية عبدلكي».
السفير