يوسف عبدلكي أو العالم كما ينبغي أن يكون/ موليم العروسي
لا أدري أين التقيته لأول مرة؟ ولا في أية سنة؟ هل كان ذلك بباريس أيام الدراسة أم بالمغرب عندما أصبح زائرا لملتقيات فنية وثقافية؟ كل مرة كنا نلتقي فيها كنا وكأننا نتعارف منذ زمن بعيد وكأن لنا لقاءات يومية. قد تمر سنوات طويلة دون أن نلتقي. التقيته مثلا سنة 2004 بأصيلا ولم التقه بعدها إلا سنة 2010 بدمشق.
كنت بأصيلا ذات صيف خارج أيام المهرجان وبينما أنا أتجول رفقة شريكة حياتي الفنانة التشكيلية كنزة بنجلون قادتنا خطانا إلى محترف الحفر هناك. دخلنا وكان الصمت يلف المكان وكأن الأمر يتعلق بوقت صلاة في معبد والناس في خشوعهم غارقون. مع اقترابنا من المحترف لم نكن نسمع إلا همهمات غير مفهومة وحركات لم نتبينها بالوضوح الكافي. عند الباب رأيت جماعة من الناس يلبسون الأبيض الملطخ بالمداد وكلهم معتكفون متحلقون حول طاولة بالمستطيل. عندما احسوا بوجودنا رفع شيخهم رأسه فرأيت الشارب الأبيض الذي أعرفه وكأنه لوغو أوعلامة مميزة لماركة معينة، كان شنب يوسف عبدلكي.
وطبعا ككل المرات التي التقينا فيها هكذا وبالصدفة نسلم على بعضنا البعض وكأننا التقينا يوما أو يومين فقط من قبل. وفعلا وكأن الأمر حيك بأياد غريبة، كنت أكتب نصا بطلب من أصدقاء في بيروت حول قرن من الفن التشكيلي العربي وذكرت إسم يوسف عبدلكي مما جعلني أعود لكتب وكاتالوكات قديمة لأعاود مشاهدة أعماله. لم نكثر من السلام بل دعانا كنزة وأنا لنتفرج على أعماله الموجودة بالمحترف قبل أن ينتقل بنا إلى طاولة صغيرة في زاوية من المحترف ويفتح ملفاته لنتعرف على ما أنجزه عبر مراحل مختلفة وكان يظن أننا لم تتح لنا الفرصة لمشاهدته. هي فرص لكي نعمق تفكيرنا سوية ونقوم بتحديث معلوماتنا حول مفاهيم الفن والجمال والسياسة. لكن كل هذه الفرص التي التقينا فيها كانت سريعة وكنا كل مرة نعلق نقاشنا على أن نستأنفه بعد ذلك.
– خذ كارتي في المرة القادمة بباريس سوف تكون فرص اللقاء متاحة لنا أكثر.
– نعم من المفروض أن أكون بباريس بداية اكتوبر القادم.
وفعلا أصل إلى باريس لكن الأصدقاء المشتركين يخبرونني أنه سافر بشكل مفاجئ إلى الوجهة كذا أو إلى مكان معين داخل أوروبا، فيتأجل اللقاء وننتظر. كان حينها يرتب العودة إلى دمشق أو كان عاد بصفة نهائية لا أدري.
بين 2004 و2010 مسافة زمنية طويلة ومساحة من الوقت كبيرة. لكن وأنا ألقي مداخلتي في لقاء خلال شهر أكتوبر رأيته يدخل القاعة. لم أكن أعرف أنه موجود بدمشق. صديقي منير الشعراني الفنان التشكيلي السوري الذي كان عاد إلى بلده من سنتين بعد إقامة قهرية بمصر دامت لسنوات لم يخبرني بذلك. كانت فرحتي كبيرة بلقائه ولقاء صديقنا المشترك منير بالشام. ومرة أخرى أتيحت لي فرصة الحلول في محترفه وفي حضرة أعماله.
تتغير مواضيعه وتتغير طرائق تناولها لكن فلسفته التي تنهل من مبادئه في الحياة لا تتبدل. كنا مجموعة من النقاد العرب الذين حلوا ضيوفا على السيدة رفيا قضماني في ندوة الفن والمجتمع: فاروق يوسف ومحمد بنحمودة والفنان التشكيلي عادل السيوي. رحت إلى محترفه وأخذت أدقق في أعماله التي مثلث بالنسبة لي على الدوام لغزا فنيا وفلسفيا خاصا. أتساءل باستمرار عن هذا الهوس بالواقع وبأدق تفاصيله، حاولت دائما أن افهم ما الذي يبحث عنه يوسف في تلك الأشياء التافهة؟ ما الذي يمكن لسكين أن يمنحنا إياه على المستوى الفني؟ وسمكة وحذاء…وأواني عادية؟ هذه الأشياء في تفاصيلها وفي دقة تجاعيدها وثناياها هل تفيد الفن في شيء؟ كان سؤالي هذا يدفعني إلى طرح سؤال آخر أكثر دقة وربما أكثر استفزازا: هل العمل الفني يشتغل للفن فقط أم لشيء آخر؟ ما الذي نتوخاه من الفن ونطالب الفنان به أو يطالب هو نفسه به؟ هل نحن نطور الفن فقط للفن نفسه أو نطور آلياتنا وتعبيراتنا الفنية لشيء آخر لم نسمه لحد الآن؟ هذه الأسئلة وغيرها هي التي كنت حاولت بلورتها في الندوة التي التقيت فيها يوسف عبدلكي ومنير الشعراني بدمشق والتي كان محورها الفن والمجتمع. كنت حددت فيها مفهومي للفن على الشكل التالي:
“أما مفهومي للفن فاحدده بشكل أساسي انطلاقا من المراحل التي مر بها التصوير بصفة عامة، أي مهنة المصور الذي يحاول أن يقبض على الواقع أو على الخيال ويضعه على سند مادي ملموس يمكن أن يصبح موضوعا للرؤية..، وقد مر هذا التصوير بمراحل متعددة ، والمرحلة التي نتحدث عنها غالبا ونطلق عليها اسم الفن هي مرحلة قصيرة جدا ، تبدأ من القرن السابع عشر تقريبا إلى تاريخنا الحاضر وهي ترتبط بما يسمى بفترة الحداثة، وهي الفترة التي بدأنا نتحدث خلالها عن الإنسان المبدع، حيث لم نكن نتحدث قبل القرن السابع عشر عن الإنسان المبدع، ونقول هذا إبداع و عمله إبداعي، بل كنا نقول انه يتقن صنعته أو انه حرفي ممتاز، و لم نكن نعطيه هذه القيمة المضافة وهي الإبداع، كما بدأنا نتحدث عن أشياء أخرى مفادها أن إبداعه لا يأتيه من إلهام من خارج نفسه أي من قوة مفارقة خارجة عن ذاته أو عن العالم بل هو الهام من داخل نفسه لأنه خلاصة حياته و نفسيته .. الخ، وأصبحنا نسحب نفس التعريف حتى على الشاعر و على الموسيقي. ولكن هذا المفهوم بقي يحمل في عمقه رؤية دينية تتمثل في فكرة الإبداع نفسها. أما اليوم فإن الفن الذي لا نغمس في اليومي وفي المادي ويحاول تحويله يبقى جبيس الفكرة الرومانسية التي نجحت في الإعلاء من شأن الفرد لكنها لم تفلح في إزاحة فكرة المبدع الأول والمحرك الأول”
إذا كان هذا هوالفنان فهل ينطبق على يوسف عبدلكي وعند ذاك من أين يستلهم يوسف إبداعه؟ من نفسه فقط أو من أشياء خارجة عنه أو من فلسفة خاصة؟ لا أريد أن أسحب عليه تعريفا أو تعريفات من خارج فنه بل أريد أن أركز على عمله بالضبط وأن لا أبتعد عن الأعمال التي صرت أعرفها وكأنني أشاهدها كل يوم. يبدو لي أن يوسف لا يؤمن بتراتبية العالم كما صورتها الديانات أو الإيديولوجيات. لا يرتب العالم بين أشياء وأعمال تافهة وأخرى ذات قيمة عالية. ينظر إلى العالم في وحدته على أساس أنه كل متكامل وينظر إلى التكامل على اساس أنه دينامية غير مرئية تحرك الناس والأشياء نحو الأفضل. السكين والحذاء والسمكة والصحن والناس كلها مكونات هذا العالم المعقد ولكل منها دور لا يقل أهمية عن الأدوار الأخرى. ليس هناك مركز أو محور أو محرك أول أو أساسي كما يعتقد الفكر الذي لم يتخلص بعد من اللاهوت والميتافزيقا. لا نعرف للعالم مركزا لذا نهتم بكل الأشياء حتى تلك التي نظن أنها تافهة أو ننساها بحكم الاستعمال اليومي. ليست الأشياء زينة فقط كما يحاول الفكر البورجوازي إيهامنا، بل كائنات مواطنة تعيش معنا وتتقاسم معنا نفس الفضاء ونفس العالم.
هذا ما أحسسته وأنا أتجول وأتحدث مع يوسف عبدلكي في محترفه في أواخر شهر اكتوبر 2010 أسابيع قليلة قبل الشرارة التي سوف يطلقها البوعزيزي من سيدي بوزيد بتونس والتي لا زالت متقدة بفضل هبة المناضلين الذين يؤدون الثمن غاليا ومنهم يوسف عبدلكي.
كاتب وناقد فني مغربي
خاص – صفحات سورية –