يوسف عبدلكي يرسمُ وطناً في جدارٍ آخر/ داؤود بهجت سعيد
ليست هي المرة الأولى التي ينزل فيها الفنان السوري يوسف عبدلكي دهاليز أجهزة الأمن السورية
وأقبية مخابراتها، ففي أواخر سبعينيات القرن الماضي سجن “ابن القامشلي” بعيد تخرجه من كلية الفنون الجميلة لعامين.. أكثر من ربع قرن قضاها بعدها في فرنسا ليعود منذ سنوات إلى سوريا، ومرة أخرى يكون نزيلا بالسجون السورية بعد اعتقاله مؤخرا في طرطوس.
لا يخاف الاستبداد أكثر من صوت المثقف الحر وقلمه وريشة فنان من طينة عبدلكي، الذي حقق في منفاه الباريسي شهرة وانتشارا وطور أدوات اشتغاله ومواقفه. لم يكن لفنان مناضل أن يرسم الجمال والحرية ويدافع عن القبح والقمع، فكانت أعماله منحازة إلى الناس والحرية، وصوتّ احتجاج وانتماء إلى الأرض.
بعد رحلة مع الغربة خارج دمشق والقامشلي ومدن سوريا التي اتسعت بالجمال وضاقت بالسلطة، عاد عبدلكي قبل سنوات إلى سوريا وافتتح مرسما يعبّ منه هواء المدينة العتيقة في دمشق. تساءل محبوه وأصدقاؤه ومريدوه آنذاك: كيف يتنفس فنان ومناضل ضد الدكتاتورية هواء هو نفسه يدرك أنه عطن برائحة الاستبداد؟
الريشة أيضا تتعب حين ترسم طويلا خارج الوطن، والكلمات قد تفقد جدواها خارج حدودها المبتغاة، وعبدلكي الذي رفض طلب الجنسية الفرنسية ولا يتبنى خيار العيش بشكل دائم في الغرب، شعر رغم كل شيء بالارتواء بأجواء دمشق التي غادرها لسنوات، ولم يكن يفطن كثيرا إلى أنه ممنوع من السفر.
هو من هؤلاء الذين يرون أنه إذا اشتعل حريق في بيتك فعليك أن تبقى فيه لإطفاء النيران. حريق الوطن قد يستعصي على الإطفاء مع زيوت كثيرة تصب، وإرث ربما لا يترك للتصالح حيلة أو مكانا أو بعض أمل كان الفنان من المؤمنين به حتى آخر لحظة.
“كان عبدلكي أحد اثنين لم يغادرا سوريا أو يختبئا فيها بين 70 شخصية وقعت إعلانا يطالب برحيل الرئيس بشار الأسد وكبار مساعديه من أجل حل سياسي يحافظ على سوريا كلها، ويؤكد “أن خلاص سوريا من محنتها يقتضي إسقاطه بجميع رموزه”.
خاض عبدلكي بنفسه حملات على مدى عقود لإطلاق سراح سجناء سياسيين في سوريا وغيرها، واليوم تداعى مئات المثقفين والفنانين العرب للمطالبة بإطلاق سراح “روح الوطن وضميره”، إذ إن اعتقال عبدلكي الفنان والمثقف بخطابه غير “المتطرف” المنادي بالسلم والحوار يفتح جراحا أخطر في الجسد السوري كما يرى العديد من المراقبين.
وسط خيارات كثيرة اتخذ الفنان التشكيلي العالمي “قرارا بمقاومة أن يترك سوريا مرة أخرى”، كما تقول زوجته ورفيقة دربه السينمائية هالة عبد الله، ليبقى “أفضل صوت في الثقافة الوطنية الحقيقية الباقية في المكان والمؤمنة بوحدة المجتمع السوري ومدنيته وحقه في الحرية والتعبير”، كما يقول المسرحي السوري أسامة غنيم.
ويقول الفنان التشكيلي العراقي البارز سروان باران إن عبدلكي “شخصية أصيلة ويجب عدم السماح للنظام السوري باعتقال هذه الرموز”، ويرى الرسام اللبناني أيمن بعلبكي أن عبدلكي أثر على جيله وعلى الأجيال التي سبقته “ليس فقط من خلال الفن، وإنما أيضا من خلال المثابرة في الدفاع عن الحرية والولاء لأفكاره”.
أما الفنان الخطاط منير الشعراني فيطالب بإطلاق سراح عبدلكي الذي يراه من القلة القليلة من السوريين الذين أضافوا إلى الفن السوري والعربي بشكل عام بفعل شجاعته وروحه النقدية العالية التي مكنته من الخوض في المقدسات فكريا وسياسيا وتشكيليا.