اعتقال أيقونة الثورة السورية
وائل السوّاح
ليس غريباً أن يعتقل النظام السوري يوسف عبدلكي. الغريب أن يكون هذا الاعتقال قد تأخر حتى اليوم. فيوسف يشكل الخطر الحقيقي على سلطة الرئيس بشار الأسد: الخطر الذي لا يشكله المقاتلون السوريون وغير السوريين الذين يواجهونه في جبهات القتال.
لا يخشى الأسد من جبهة النصرة أو تنظيم دولة الشام والعراق الإسلامية. ولا يخشى من تدفق الأسلحة على سوريا، بل يبتهج كلما تحول شكل الحراك الثوري إلى العمل المسلح، لأن ذلك ينقل المعركة إلى ملعب النظام المتفوق عسكرياً وأمنياً وتشبيحياً.
وفي الحقيقة تتأتَّى خشية النظام الرئيسية من عبد العزيز الخير، المناضل السياسي والطبيب الذي أمضى ثلاث عشرة سنة من حياته في سجون الأسد الأب والابن، والذي كان من أبرز دعاة التوصل إلى حل سياسي للأزمة السورية.
ويخشى النظام جلال نوفل الطبيب النفساني الذي كان في بدايات الثورة يعمل على شدّ أزر السوريين وبخاصة الأطفال الذين تعرضوا لرضات نفسية بسبب الحرب، كما يخشى من زوجته خولة دنيا التي قادت ولا تزال حملات الإغاثة للعائلات السورية المهجرة والمتضرّرة.
و يزداد خوفه من عمر عزيز، المناضل الكهل الذي ترك عمله في السعودية مع اندلاع الثورة وعاد إلى سوريا ليساهم في التأسيس لفكرة المجالس المحلية، ويعمل على تطبيقها مع خيرة الناشطين السوريين الشباب من السياسيين والمثقفين والفاعلين في مجال المجتمع المدني.
ويخشى النظام من خليل معتوق، المحامي الذي أمضى حياته مدافعا عن حقوق الإنسان في سوريا،ى ومحاميا بدون مقابل لكل من تعتقله أجهوة النظام الأمنية بسبب رأيه أو قوله، دون أن يهتم بالخلفيات السياسية أو العقائدية أو المذهبية للمعتقلين.
ويخشى النظام مازن درويش، رئيس المركز السوري للإعلام وحرية التعبير عن الرأي، الذي كان أول من وثَّق انتهاكات النظام، وكان أول من أدخل إلى الوسط الحقوقي في سوريا فكرة العدالة الانتقالية، وبدأ بتأسيس مركز لإطلاقها كحملة حقوقية متكاملة.
ويخشى النظام من المناضل العتيق مصطفى رستم، الذي أمضى 23 سنة في سجون الأسد الأب، ولم يتوان النظام عن اعتقاله من جديد في السنة الأولى للثورة، رغم سني عمره ومرضه وإرهاق السجن، قبل أن يعتقل ابنه علي، ومؤخرا ابنته ندى.
لا يفرق النظام بين الطوائف. فالدرزي جلال نوفل والمسيحي خليل معتوق والعلويون عبد العزيز الخير ومازن درويش وخولة دنيا، والإسماعيلي مصطفى رستم والسني عمر عزيز، كلهم اعتقلوا وعذبوا. وبينما قضى عمر عزيز تحت التعذيب، تتواتر أنباء عن مقتل الخيّر تحت التعذيب أيضا، ولا أحد يعرف مكان وحالة معتوق.
اليوم، تقوم أجهزة النظام السوري بما تجيد فعله، فتعتقل الفنان التشكيلي يوسف عبدلكي، مع رفيقين له: توفيق عمران وعدنان الدبس. المعتقلون الثلاثة قياديون في حزب العمل الشيوعي وهيئة التنسيق الوطني، وهي، كما يعرف الجميع، مظلة سياسية لقوى المعارضة الداخلية التي تؤمن بالحوار وبالتوصل إلى حل سياسي للأزمة في سوريا.
يوسف هو أيقونة الثورة السورية. ليست الثورة التي انطلقت في آذار 2011، بل الثورة التي انطلقت منذ اقتناص الرئيس حافظ الأسد السلطة في سبعينات القرن الماضي، الثورة التي انطلقت مع الحركات الاحتجاجية الطلابية في الجامعات السورية، ومظاهرة يوم الأرض 1976، والبيانات التي كان الناشطون السوريون يوزعونها في شوارع دمشق قبل عصر الإنترنت والإيميل ومواقع التواصل الاجتماعي التي تمكن الفرد من أن يغدو مناضلا وهو في بيته. كان يوسف جزءا من ذلك كله.
ويوسف، الذي كان يجمع في مرسمه في باب توما الناشطين الشباب الذين يحلمون بالحرية والعدالة والمساواة في السبعينات، هو نفسه الذي بات مرسمه في حي الورد يجمع الحالمين الجدد بالحرية والعدالة والمساواة.
رجع يوسف من منفاه في فرنسا اختياريا، قبل الثورة بزمن. وعندما اندلعت الثورة، وخرج معظم المثقفين والكتاب والشعراء والروائيين والفنانين والصحفيين والمناضلين الافتراضيين ورجال الأعمال إلى بيروت ودبي وأوروبا وأمريكا، أصرَ يوسف على البقاء، لأن ما يصيب السوريين يصيبه.
قبل يومين، وقَّع يوسف مع تسعة وتسعين مثقف سوري آخر، بينهم صادق العظم وحسان عباس وديمة ونوس وسلام كواكبي وياسين الحاج صالح ورشا عمران وهيثم حقي وغالية قباني وفارس الحلو، بياناً عقلانياً هادئاً دعا فيه الموقعون إلى التمسك بالمبادئ الأولى للثورة السورية، “التي لخصتها شعارات الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية والوحدة الوطنية،” وأكدوا على دعمهم “للقوى الثورية الحية المناضلة من أجل قيام نظام ديمقراطي تعددي يحرص على استقلال سوريا وأمنها ووحدة ترابها الوطني، ويكفل الحريات العامة والفردية والمساواة بين جميع المواطنين من دون أي شكل من أشكال التمييز بينهم،” وأكدوا على أهمية استقلال القرار السوري واستنكروا زجَّ بلادهم “في صراعات إقليمية،” مؤكدين على ضرورة تنحي الرئيس بشار الأسد وأركان حكمه وتشكيل حكومة مؤقتة بإشراف الأمم المتحدة.
هذا بيان عاقل لا يستخدم سلاحا ولا يهدد باستخدامه، ولا يستقوي بأحد من أجل تحقيق مبادئ الثورة السورية. وهو بالضبط آخر ما يريده النظام السوري الذي تسعده أكثر لغة القتل والخطف والابتزاز والسيارات المفخخة. يبتهج الرئيس الأسد بسماع خطاب أبو صقَّار أكثر من خطاب عبد العزيز الخير، ويرتاح إلى سلوك جبهة النصرة أكثر من سلوك هيئة التنسيق، وهو بالتأكيد يُسَرّ بالأحزمة الناسفة أكثر بكثير من لوحات يوسف عبدلكي التي يرسم فيها سمكا وأحذية وأوسمة طغاة.
ليس غريبا إذن أن يعتقل النظام أيقونة الثورة.. الغريب أن يتأخر ذلك الاعتقال!