خرج الفنان من معطف التعبيرية ويطير بأجنحته هو
معرض طارق البطيحي.. امرأة من خيالات الذكورة
يوسف عبدلكي
في العالم فنانون يصبّون طاقاتهم على صياغة الأشكال، ثم تنقيتها من الزوائد، لتخرج اللوحة من تحت فرشاتهم مصقولة كأنها قطعة الماس شذبت بعناية وعلى مهل في أحد محترفات انفير، وهم في ذلك يحيّدون العواطف إلى درجة قصوى، ويتجنبون لغو التفاصيل، ليذهبوا إلى جوهر لوحتهم: متانة البناء، والإتقان الأعلى. فنانون مثاليون بأصابع من ذهب، يخططون مشروع اللوحة، وينفذونه كما خططوا له! لنعاين أعمال دافنشي، ودولاتور، ودافيد، وموندريان، وليجيه، وماليفيش، وآرب، وبيكار، وشيليدا، والمليحي، وكونس… الخ.
هناك طينة أخرى من الفنانين، اللوحة بالنسبة إليهم ساحة صراع مع أنفسهم، ومع المحيط، ومع اللون. يصبون فيها عواطفهم، وارتباكهم وغضبهم، يقودهم الصدق. لا يفكرون بالإتقان. فضائحيون، يسفحون أنفسهم على المساحة البيضاء. لا ينتظرون لا حمداً ولا شكوراً من وهم الكمال ولا من السيد إتقان. الشكل يتلاعبون به، اللون الواقعي مطية لزفرات الريشة. في هذه المعركة لا يبقى إلا الصراع: اللمسة والخط، اللون الحار واللون البارد، الأنا والآخر، الأنا والأنا، فنانون تعبيريون يقفون أمام اللوحـة، يعـرفون كيف يبدأون، ولا يعرفون إلى أين تأخذهم الارتجالات وتوقد العواطف. لنتأمل وعلى مدى قرون أعمال كارافاجيو، وغويا، ودومييه، وفان كوخ، ومعلم التعبيرية سوتين، وكوكوشكا، ودي كونينغ، وابل، ومدرس، وبازيليتس… الخ.
طارق البطيحي فنان من هذا الصـنف الثـاني. كل لوحة هي مغامرة لا أحد يعـرف نتائـجها. صـراع مـع لمـسة الـلون ونقيضها، محاولة يائسة للقبض على التوازن بين العفوية والحساب، بين الانفلات والضبط. ضبط بناء اللوحة، وانفلات اللون فيها، بما فيه من مخاطر قد تهلك اللوحة برمتها.
يعمل طارق على مراحل: يضع ألوانه صارخة، عابثة، متزاحمة، ثم يعين الشكل، بعدها يقضي بقية الوقت وهو يجهد ليوازن بين الضجة والهدوء، وذلك بطلاء مساحات واسعة من لون محايد او على شيء من الحيدة، ليمنح العين لحظة راحة للاستمتاع بالنبرة العالية للمسات الألوان الأولى.
المرأة موضوع اللوحات. لكنها ليست المرأة الرومانسية كما درجنا على رؤيتها، ليست الأم ولا الحبيبة: ليست عذراء وقورة كما في الأيقونات البيزنطية، ولا الموديل العاري الهادئ كما في لوحة كوربيه، ولا الفلاحة المتينة البنية كما عند ميله ومحمود سعيد، ولا سيدة صالون كما يعرضها لنا سرجنت، وليست حتى مومساً بائسة كما صورها روو. إنها امرأة من نوع آخر، مثير، فتّان، مغو، لعوب. امرأة لا تراها في أسرتك ولا عند جيرانك. امرأة من صنع خيالات الذكورة. امرأة إن رأيتها مرة تعبر في نادٍ ليلي أو كليب تجاري فلن تراها ثانية، لن تلمسها عيونك، لن تبصرها أصابعك أبداً. الشهوة محرك آخر للعمل الفني.
لا يجب أن يضيّع علينا الموضوع ـ وفيه من الجرأة الكثير ـ ما هو أساسي، الأساس هو لغة اللوحة، علاقة الخط باللمسة، علاقة اللمسة العريضة الحارة باللمسة المتوسطة الحيادية، صراع اللون وتوهجاته مع الكل القلق. ما نراه على سطح اللوحة ليس سوى انعكاس لانفعالات الداخل، قلقها، توترها، وسعيها للانفلات في عصر يريد أن يُضبط فيه كل شيء.
يخرج طارق البطيحي من معطف التعبيرية في العالم والتعبيرية المحلية. يعاين المحيط ويرصد نفسه، ثم يطير بأجنحته هو.
افتتح المعرض في 4 شباط في صالة Art on 56th، الجميزة. ويستمر لغاية 23 منه.
يوسف عبدلكي