كان معتقلاً … مازال معتقلاً / نبيل الملحم
أن يعتقل؟
هذا أمر ليس بالغريب، ولا المدهش، ولا يستلزم توسيع حدقة العين فالبلاد معتقلاً.
يوسف عبدلكي أو سواه من المعتقلين، هم معتقلون طلقاء، ومعتقلون في الزنازن، ومعتقلون ماقبل المعتقل، وقد يذهبون في رحلة السجن من الولادة الى الموت، أقلّه لأن البلاد صُمّمت على هيئة معتقل:
– المدارس بمعمارية المعتقل، المشافي، خزائن الأرشيف بمعمارية المعتقل.
– وسائط النقل تتحرك بروح المعتقل.
ولم تنج الأرصفة، آخر فضاءات الانعتاق من سمة المعتقل، ولم ينج جيلنا ولا من سبقه ولا من لحق به من ذاكرة المعتقل.
بلاد اعتُقلت حين سطا العسكر على قرارها وبيوتها وقبعوا في كل مكان باستثناء قيادة أركانهم وقد هجَروها كما “لزوم ما لايلزم”.
بلاد اعتقلت، بالحزب الواحد، والاله الواحد والشعار الواحد.
بلاد، انتقلت من حضيض :”الواحد” وقد تدثـّر في “البعث”، إلى حضيض الواحد وقد انتقل إلى مابعد البعث، حتى التحق بخيارات الغد، فبات الغد يساوم المستقبل، ويحتل مكانه ومكانته، وانتقلت “ثورة” الناس معه الى ذات خيارات الماضي، فباتت معارضات الأمس، تحمل للغد ماخيّم على الأمس ببؤس لونه، وروحه، ولغته، وربما أفراده فردا فردا، ليكون القتل، هو اللغة، والتلعين هو المنهج، والتكفير وحده سيّد الهتاف والطبل ومزاميره.
اعتقل يوسف، بصفته منتميا إلى أمس آخر، ومستقبل آخر، ولو لم يكن مشدود إلى غد مختلف لاعتقل، كما حال عالم مازال يسبح في بركة عدمه، متنقلا من موت إلى موت، وفي اعتقاله كانت الإجابة الأشدّ وطأة عن سؤال بدا ثانويا ومهملا:
– ما الذي تغيّر في نظام السطوة، بعد عشرات آلاف القتلى، وتهديم عشرات المدن؟
لا شيء..
العلمانيون كما (التكفيريين)، عدونا.. وعدونا هو :
– من ليس منّا.
– من لا يأخذ هيئتنا.
– من لم ندمجه حتى يتآكل في الدمج وإن لم يكن فلتكن قطيعته مع الحياة الدنيا لنعدمه.
ومن لم يكن مثلنا فتعالوا إلى زنزانته واحدا واحدا، والرتاجات مغلقة على ما سوى خيارنا.
هذه هي البلاد بعد جدول دم، ومجزرة تشرّد، وتهديم مدن.
بلاد لا تتعلم، ولن تتعلم، ولن تتقبل أن تتعلم.
وثمة من يحكي بمصالحة وطنية، وبطريق آخر لتجنب العنف غير وسائط العنف، والدولاب كما مطحنة يأكل من تحته ومن فوقه ومن يحيطه، وكله من أجل عيني العنف، وطريق العنف، والشغف بالعنف ، باعتبار العنف وحده:
– يوّطّد أركان الدولة .
يوسف اعتـُقل ، ومعه اعتـُقلت نيّة المصالحة.
نية تسويّة لحال ربما بات من دوافع المعجزة أن يُسوّى.
أن يُعتقل يوسف عبد لكي، فكأنما تعتقل ذاكرة سوريّة، ذاكرة ليست متراكمة بما يسمح أن نختصر، أو ننتزع، أو نلغي، أو نشطب جزءاً منها، أقله أن يوسف واحد ممن أسّسوا لهذه الذاكرة، بما يساوي ناجي العلي للفلسطيني، أو بما يساوي، الطاهر وطار للجزائري، أو بما يساوي نجيب سرور للمصري.
لا بأس أن يُعتقل يوسف … وأن يُعتقل فلا يعني هذا احتمال اعتقال الذاكرة ، ولا إمكانية اعتقال خيوله، خيول الغرافيك وأاقلام الرصاص، والنحاس، وخيول الخيال أيضاً.
التنديد، لغة مبتذلة، تماماً كما التأييد … الغضب وحدُه يصلح للقول:
– كفـّوا يدكم عن ذاكرة البلد.
– عن تدمر زنوبيا.. عن ابن عربي.. عن الحلاج.. عن محمد الماغوط.. عن ناس صاغونا فاستعدنا بهم الهوية، ودونهم تتقصقص الهوية وقد أخذها سايكس وبيكو إلى المتاهة، وآن لنا أن نستعيدها ولن نستعيدها إلاّ بهولاء..
لا أندّد، ولا أطالب بالافراج.
رسالة قصيرة، سهلة الفهم، واضحة المتن والنص والمقدمة:
– من لا يستطيع اعتقال خيول يوسف عبد لكي، لا يستطيع حبس أرواحنا.
نبيل الملحم