يوسف عبدلكي بين المنفى والحبس/ ياسر سلطان
في زيارته إلى القاهرة قبل أعوام عرض الفنان السوري يوسف عبدلكي نماذج من تجربته الغرافيكية في رسم الطبيعة الصامتة، هذه التجربة التي بدأها منذ عام 2005، وهو العام الذي شهد عودته مرة أخرى إلى سورية بعد سنوات طويلة قضاها في المنفى. كانت السمة الغالبة على تلك الأعمال هو ذلك الفراغ الرمادي المحيط بالعناصر التي اختارها كي تؤدي دورها ببراعة في سياق رؤيته الاحتجاجية للعالم من حوله. فقد استلقت جمجمة حيوان في صدارة إحدى اللوحات ملقية على أجواء المشهد إحساساً عميقاً بالفناء والوحدة، بينما تصدرت فردة حذاء وحيدة لوحة أخرى في استدعاء على ما يبدو لحالة سلطوية لا نراها سوى في بلادنا تتلذذ بقهر المخالفين وإذلالهم، وقد لا يكون الحذاء إلا تأكيداً لمعنى الفقد أو الرحيل أو سلب الإرادة، وهي كلها أحاسيس سلبية لم يترك المشهد المرسوم لأحاسيس غيرها مجالاً للمراوغة. فعلى رغم جماليات المشهد الذي صاغه عبدلكي ببراعة، إلا أن رائحة الفقد هذه التي غلفت تلك المفردات المرسومة كانت تستدعى في كل مرة تعاود النظر إليها الكثير من المشاعر والأحاسيس المشابهة، من فراق ولوعة وأسى، وتشتبك مع عبثية الواقع على نحو ما.
هذا الفراغ الرمادي والذي يعكس رؤية تراجيدية للحياة، هو نفسه المحيط بصورة الشهيد الملقى على الأرض والتي رسمها عبدلكي بعد اندلاع الثورة السورية. جثة وحيدة ملقاة على الأرض، لا يعرف هويتها أحد؛ الملامح الحادة لا تنبئ بعقيدة أو انتماء بعينه، تلك العيون المحدقة ربما ظلت معلقة على ملامح القاتل، أو مشهد الجموع وهي ترسم مشهداً جديداً للوطن. هي جثة وحيدة تائهة في فراغ المكان تحيطها الرماديات ويحتضنها ضباب أبدي، بينما يستمر المشهد العبثي ويزداد اشتعالاً مع مرور الأيام. فلوحة الشهيد تشارك بدورها في شكل ما مع أعمال عبدلكي الرمادية الأخرى في تبنيها منطق الاحتجاج، ذلك الاحتجاج الذي دفع هو بسببه عامين في سجون السلطة في نهاية السبعينات، وسنوات أخرى تالية قضاها في المنفى. أثناء زيارته إلى القاهرة دار معه حوار حول أعماله وتجربته، وما زالت كلماته عالقة في الذهن مثلما تتوه مفرداته الرمادية، في فراغ اللوحة. تحدث عبدلكي في هذا الحوار عن طفولته محاولاً تذكر البدايات الأولى لذلك الولع الطفولي بتأمل تفاصيل الأشياء واختزال الحياة في مساحة الرسم.
أكثر ما لفت انتباهه في تلك الأيام المستقرة في الذاكرة أنه ما زال يتذكر رقم بيت جده في بلدته القامشلي، كان البيت يحمل رقم 11. هو لم يستطع أن يحدد على وجه اليقين بداية علاقته الأولى بالفن، فهي علاقة لم تزل مبهمة بالنسبة إليه حتى الآن. وهو لا يدري على وجه الدقة ما الذي دفعه إلى هذا الاتجاه بالضبط. فلم يكن في محيط بلدته هذه فنان واحد أو رسام، سوى هؤلاء الذين يرسمون واجهات المحلات، ولم يكن بين أفراد أسرته أو عائلته من يمارس الفن على الإطلاق. لا يتذكر سوى أنه كان يمتلك دفتراً يرسم فيه، وأنه كان معروفاً بين أقرانه في المدرسة الابتدائية بتلك الهواية، حتى أن المدرسين هناك حين كانت تأتي حصة الرسم كانوا يطلبون منه أن يرسم موضوعاً محدداً على السبورة لكي ينقله الطلبة في كراساتهم.
يتذكر عبدلكي أن رسوماته التي كان يودعها دفتره، كانت تثير إعجاب الجميع إلا والده، والذي كان على ما يبدو بحكم اشتغاله بالسياسة لا يعترف إلا بالرسوم المتعلقة بها. كان ينظر إلى رسومات عبدلكي من دون اهتمام قائلاً بصيغة تشبه التهكم: “إن الكاريكاتير شيء آخر”. وهو الأمر الذي وضع عبدلكي – ذلك الصبي الصغير – أمام تحد من نوع خاص تدفعه الرغبة في اقتناص إعجاب والده، فوضع رسماً ساخراً وأرسله إلى الصحيفة التي كان يعمل بها الوالد نفسه، وكانت المفاجأة حين نشر هذا الرسم مع إحدى المقالات، وبعدها طلب منه القائمون على الصحيفة أن يوافيهم برسومات أخرى، فظل يفعل ذلك تحت اسم مستعار، حتى انكشف أمره، ونجح في إدهاش والده واقتناص تشجيعه. ومن يومها لم تنقطع علاقته بالصحف أو بفن الكاريكاتير، وهو يعد اليوم واحداً من أهم فناني الكاريكاتير العرب، تتزين برسومه العديد من الإصدارات العربية بما تحمله من بساطة وقدرة على توصيل المعنى من دون استغراق في الحكي.
أما عن تجربة السجن التي مر بها في سبعينات القرن العشرين فهو يعتبرها من أغنى التجارب التي مر بها في حياته، ففيها تعرف إلى أبناء البلد الحقيقيين، وتوغل كما يقول في عظام الناس وليس في قشرتهم الخارجية. لقد أدهشته هذه المقدرة الإنسانية على التأقلم مع الواقع الجديد، إذ كان المكان محدوداً، ولكنه كان يمثل له وللآخرين العالم بأسره، هناك كانت الأشياء الصغيرة تبدو له أكثر أهمية، اقترب أكثر من رفاق السجن حيث لا سبيل إلى الكذب أو التحفظ أو التصنع. ففي السجن، ومع مرور الشهور يستنفد المرء هناك كل القصص والحكايات والأحلام، ولا يتبقى أمامه سوى ذاته ومكنوناته الدفينة ليعرضها أمام الآخرين من دون تصنع أو خوف. وهو حين ينظر إلى هذه التجربة من بعيد، وبعد مرور كل تلك السنوات فإنه لا يرى منها سوى جانبها المضيء، ولكن، هل ثمة مجال للضوء مع استلاب الحرية؟ ربما المبدع وحده من يستطيع اكتشاف النور وسط ظلامات القهر وعذابات النفي والاعتقال، على رغم أنف المستبد.