يوسف/ عاصم الباشا
كما يصعب عليّ مخاطبة من لا أرى عينيه، تثقل عليّ الكتابة عن صديق نَمُرّ معه بمحنة، سيّما أنه مغيّب. الكتابة عن غائب ممكنة لكنها ليست بالمهمة الممتعة . يصغرني يوسف عبدلكي بسنوات ثلاث، أي أننا ننتمي لجيل النكبة إياه ، لكن شروط كلّ منّا لم تسمح لي بالتعرّف على عمله سوى بعد عودتي من الدراسة في موسكو في أواخر السبعينات. أذكر أنه لفت انتباهي أعمال اثنين ممّن لم أكن أعرفهم : يوسف و زهير دبّاغ . عندما رأيت منحوتات الأخير قلت : هاكم نحّات يجيد التكوين . رأيت صورًا لمشروع تخرّج يوسف ولرسمه المتميّز للخيول، تلك القوة المتميزة التي رأيت فيها شيئًا من نذير نبعة الستينات. أن نتأثر ببعض أمر حتمي .. ما زلت ألمس تأثيرات الآخرين على عملي. ولا أذكر أننا التقينا، فالنظام نفاني إلى الحسكة ثم دُفنت في خدمة القرف ( عفوًا ، يسمّونه العلم !)، وصادف أن سُجن يوسف آنذاك. لكنني كنت أعرف شكله. لو أمعنّا النظر لوجدنا أن علاقتنا بالآخر، أي آخر، تكون على مستويات مرهونة بألف شرط. حسنًا، علاقتي الغيابية بيوسف كانت مفعمة بالتواصل عن بعد! تخلّصت سنة 1981 من مزبلة العسكر و “هربت” إلى باريس لأتابع دراسة نظرية في السوربون. كنت أعرف أن يوسف موجود في المدينة ، وأن الصلة الوحيدة معه كانت من خلال زوجه هالة وهاتف سفارة اليمن الديمقراطية حيث كانت تعمل. لم يكن الرقم بحوزتي ولم أسعَ للحصول عليه. لم يطل الأمر ، كنت مقيمًا مع زوجي وطفليّ في بيت ابن حماي الكائن في شارع واشنطون، وهو أحد روافد الشانزيليزيه. كنت أتجه صاعدًا هذا الأخير عندما رأيته قادمًا مواجهتي برفقة شخص نسيت هويته. كان لقاءنا الأول. ثم فرّقت بيننا الأيام. أدركت أن “دكتوراه” السوربون ما كانت غايتي فانتقلت إلى إسبانيا، ثم إلى سورية سنة 1983. لكنني كنت أزور باريس كل سنتين، وسطيًا. لا أذكر سنة لقائنا الثاني. مشاوير باريس أغرتني دومًا، أيام كنت أمشي كثيرًا ، وأذكر أنني كنت أنتقل من ساحة ريبوبليك باتجاه الحي اللاتيني عندما رأيته قاعدًا في المقهى المواجه لمسرح شاتليه. كان يقرأ صحيفة عربية ما، فالوقت صباح وكان يخصّصه للكاريكاتير. عندما رحلت لم يعطني رقمًا للتواصل ولم أطلب منه. في مناسبة ثالثة، ربما بعد سنوات ، كنت أسير في شارع دي رين …… باتجاه مونبارناس ، تجاوزت أحد المقاهي وفجأة شعرت بما يشعر الشاعر ، ثمة ما يشدّني في الخلف : كان يوسف في المقهى إياه. ثلاثة لقاءات بالمصادفة في مدينة كباريس تبدو لي أكثر من مصادفة . في ذلك اللقاء حصلت على رقم للاتصال، وعندما استخدمته في الزيارة التالية قالت لي هالة : ” لا يا عاصم ! نزعتها ! ما دومًا بنلتقي بدون تلفون ؟! “، لكن وقتي كان قليلاً في تلك الزيارة لأعتمد على المصادفة الأكيدة . ثم زارني مرتين في غرناطة، مرّة برفقة هالة وليلة (وكان طلب مني استئجار شقّة على البحر لقضاء الإجازة )، وفي الثانية جاء وحده ، قال لي : أريد أن أعمل دورة نحت عندك. مكث معنا حوالي العشرة أيام، نذهب معًا إلى المشغل، هو ينحت وأنا أشير عليه في الجوانب التقنية ، فما من “تعليم” سوى ذلك. أنجز”سمكة ” كنت أتمنى لو أحتفظ بها، ( أخبرني بعد سنوات أنه صبّ نسخة يتيمة من البرونز ثم أضاعوا القالب )، و” قفا ” محيّر، لا تعرف إن كان لذكر أم لأنثى . كنت أترك له الحيّز لينجز رسومه الكاريكاتورية وننهي المساءات بكؤوس ما. أذكر من ” تدرّبه ” أنني عجزت عن العمل طالما كان يعمل هو، ما كان بمقدوري الاستغراق بهمّي لأنني اعتدت على معالجته وحيدًا في المشغل، لكنني سعدت بالتجربة وأعتقد أنه سعد بها. بعد أن غادرنا أصابتني نوبة رسم بالشمع والنار و الدخان، أنجزت صورتين له من الذاكرة، عرضتهما في القاهرة سنة 2003 وأهديت إحداهما لصديقنا المشترك والعزيز منير الشعراني ، أما الأخرى فقابعة اليوم في مكان ما من يبرود. يوم أستعيدها، عندما نلتقي، سأهديها له. كثرت لقاءاتنا بعدما صرت أتردّد على الشام. ساعدني مع منير في ترتيب معرضي نهاية 2010 في صالة ” تجليات ” (أهداني إطارات الرسوم التي عرضتها )، وصار مرسمه من محجّاتي كلما توجّهت إلى دمشق. عنده أسّسنا “تجمّع التشكيليين السوريين المستقلّين”. ، ورشّحني مرتين لاجتماعين للمعارضة نظّما في دمشق (أحدهما مؤتمر جبهة الإنقاذ الوطني) لكنني استنكفت عن حضور أي منهما لأسباب ليس هذا مجال الخوض بها . يوسف من معدن نادر في بلادنا ، صدره يتّسع لأكثر ممّا يظنّه الكثيرون ، ولو أضفنا إلى هذا أنه مبدع متميّز لأدركنا أنه من ندرة النادر . عن طاقته وأهميته كفنّان أستطيع أن أتحدّث وأحاور لكنني أوجز اليوم حول جانب أجده استثنائيًا عنده : مهنيًا، أجد قوّة التشكيل عند يوسف في تحدّيه الدائم لأكبر المخاطر التي تحيق بأي عمل تشكيلي: أن يتوسّط الموضوع مركز اللوحة، فهذا مقتل التكوين. لكنه وجد دومًا حلاً ناجعًا بوضع لطخة إلى جانب أو حزمة ضوء، الأمر الذي يلغي انتصافية الموضوع. وضعوه الآن في مركز السجن، فقبل اعتقاله كان في جانب منه ، لكنه سيجد حفنة هواء يتحايل بها على سوء التكوين. غرناطة >
24 تموز 2013 –
خاص – صفحات سورية –