توثيق عبدلكي وبَوحه/ راشد عيسى
هذه المرة لن تكون كل هذه الحملة المتضامنة مع الفنان التشكيلي يوسف عبدلكي مجرد تمييز لمعتقل نجم على آخر مغمور، فلعل الجميع يدرك أن اعتقال فنان من هذا الوزن، غير مسلح سوى بالريشة والألوان، وبالوضوح الذي يجعله يتحرك علناً في قلب دمشق، وفي سواها، بالإضافة إلى أنه يعتبر من أبرز الدعاة إلى عدم تسلح الثورة، يشكل إحراجاً كبيراً للنظام وأنصاره، إن كان بقي من يهمه أن يناقش الحجة بالحجة.
صحيح أن فيلمين وثائقيين أنتجا أخيراً لا يمكن اعتبار أنهما صنعا لأجل هذه المناسبة، حيث صورت مشاهد العملين في وقت مبكر من الثورة السورية، لكن لا شك أن عرضهما جاء مواكبة لاعتقال عبدلكي. الفيلم الأول هو لروشاك أحمد، حمل عنوان “مع عبدلكي” (16دقيقة) وعرض على “فرانس 24”. الفيلم كله مصور في مرسم عبدلكي في حي الورد بدمشق، مع التركيز دائماً على علاقة خاصة ليوسف بحمَامٍ يعنى الفنان بإطعامه وتربيته، بدت هذه لازمة جذابة في الفيلم يعود إليها دائماً، فنان “يطعم حمامات العالم من قلبه”، على ما يقول شاعر، لا يمكن أن يستحق السجن.
الفيلم حساس وجميل وشاعري، والأهم أنه استطاع أن يدخل إلى أحلام الفنان. يبوح عبدلكي برغبته في مغادرة السياسة لو كانت الظروف أفضل كي يتفرع للرسم، لكنه يعترف: “الآن نخسر مرتين، في السياسة وفي الرسم”. ثم يتابع عبدلكي الحديث عن مشاريع سجلها في دفاتره الصغيرة “لدي ثمانون دفتراً سجلت فيها تصاميم وأفكاراً لملصقات سياسية ورسوم كاريكاتير، دفاتر تحتاج إلى مئتي عام لأنهيها”. هذا بالإضافة إلى “مشاريع للعمل على نصوص، من بينها موضوع الجنس والعنف في “ألف ليلة وليلة”.. “. وهنا يتوجه عبدلكي إلى مخرجة الفيلم قائلاً: “خليكِ متفائلة، سأنجز تلك المشاريع”. وهنا يتذكر إضراباً قام به لدى اعتقاله الأول في الثمانينات، حين أضرب من أجل أن يأتي له سجّانوه بزوج حمام من أجل الرسم، وانتهت المحاولة بأن أتوا له بكتب عن الرسم.
يتجول الفيلم قليلاً في الحديث عن السجن، كما لو أن عبدلكي كان دائماً مشروع معتقل، ثم يسخر يوسف من الأحلام التي يحلمها المرء هناك “في السجن حلم بأن أرسم حين أخرج جداريات كبيرة فيها ضوء وألوان. حين خرجت لم أرسم شيئاً منها”.
لا يبدو أن روشاك أحمد في فيلمها عن عبدلكي أرادته فيلماً شخصياً. لقد أرادت بوضوح أن تكون سيرة عبدلكي هي سيرة الثورة السورية، لذلك لم تكتف بالموسيقى ترافق لوحاته وحركته في المرسم. كان جميلاً صوت المتظاهرين السوريين يصرخون “حرية” مع اقتراب الكاميرا من لوحات عبدلكي، كان هذا ما رسمه عبدلكي في الأساس.
لكن هناك دائماً أسرار في مرسم عبدلكي. ففي فيلم “فحم أبيض” (7 دقائق) لعامر مطر، يقول الفنان وهو يضحك: “لن أريكم تلك البورتريهات”. عبدلكي يضحك على الدوام، يضيق بالكلام، بعدما تحدث عن “صفحة الفن والحرية” التي أسسها مع مجموعة من الفنانين السوريين لنشر رسوم تعبر وتدعم الثورة، يريد أن يعرض للكاميرا بعض لوحاته، من بينها لوحته “شهيد من درعا”. ومن ثم أول لوحة رسمها عن الثورة، والتي تصور بقعة دم يخوض فيها حذاء عسكري.
فيلم “فحم أبيض” هو عمل أنجزه معتقل سابق هو عامر مطر، عن معتقل راهن، ولعل مطر كان صوّره بين اعتقالين، هو الذي اعتقل أثناء الثورة ثلاث مرات قبل أن يغادر البلاد. اليوم يستعيد مطر تلك المشاهد، بعد أن فاجأنا جميعاً اعتقال عبدلكي. هذا الذي لم يتغير بين فيلمين، فهو ساخر، ضاحك أبداً، ومتفائل، رغم بقعة الدم الضخمة تلك، وآثار الحذاء العسكري.
المدن