الطريق إلى يوسف عبدلكي/ عيسى مخلوف
اللوحة التي يرسمها يوسف عبدلكي هي أكثر ما يعبّر عن نفسه. إنها النفاذ إلى ملامحه العميقة وهواجسه وقلقه حيال ما كان يحدث في سوريا ويمهّد لتحويلها إلى مسلخ بشري. أعماله تشي بالصمت، لكنها ليست صامتة على الإطلاق. تقول لنا إنّ السماء الزرقاء الصافية تنذر بالعواصف وإنّ أهوالاً عظيمة تختبئ وراء المشهد الظاهر. تقول أيضاً إنّ الكائنات الهشّة غير قادرة على مواجهة العنف في جبروته والحديد في وطأته القصوى…
السكين تأتي من علٍ، من حيث السلطة والاستبداد. هناك ما يقطع في لوحة يوسف عبدلكي حتى حين تكون السكين غائبة. لقد أراد الفنان أن تكون لوحته صورة لمسرح الجريمة، يمعن في رسم أدوات القتل وضحاياها إمعاناً في إدانة الظلم والطغيان. وهو لم يكتفِ بمعايشة الكابوس، تأملاً ونقداً، داخل محترفه الباريسي، بل ذهب أبعد من ذلك حين قرّر العودة إلى مسرح الجريمة بالذات، وكان يعرف تماماً أنّ الأنظمة الشمولية التي لا تقبل الاختلاف لا يمكن أن ترضى بالفنّ الذي لا ينضوي تحت رحمتها ولا تستطيع تسخيره لخدمتها والترويج لسياستها.
بعد اعتقاله، صرت أنظر إلى الصور الفوتوغرافية التي تمثّله كأنني أنظر إلى لوحاته ذاتها. أراه في تدرّجات الأسود والأبيض وحدَّة حضورهما محاولاً تبيان التناقض الصارخ أو التواطؤ الكامل بينهما. أبحث عن الضفيرة البيضاء المعقودة وراء العنق.
بالأسود رسم يوسف عبدلكي الاعتقال والتعذيب والإهانة. بالأسود رسم الجروح والكدمات وأحلام السجناء المتروكين لمصير غامض. ورسم الهواء الساكن والمروّع. الأسود في اللوحة هو الألوان كلّها وهو الأصل. تحت سطوته، يبدو كلّ شيء في عريه الأوّل المرادف لحقيقة وجوده المأسوي.
انظروا إلى لوحته التي تحمل عنوان: «شهيد من درعا». الرأس الملقى على الرصيف يرتفع قليلاً عن الأرض. الفم الفاغر. البقعة السوداء تزداد عمقاً في الجهة اليسرى من الصدر. تصبح لزجة وهي تسيل بين أصابع اليد اليسرى التي تحاكي الوجه وتشكّل امتداداً لتعابيره القاسية. العينان الواسعتان ترسمان الحدود الفاصلة بين الحياة والموت. عندما نلحظ أنّ عبدلكي لا يشيح نظره عن الاتجاه الذي ينظر إليه شهيد درعا، وهو يريدنا أن نرى معه ما قد رآه، نتساءل: ما الذي تقوله نظرات الشهيد التي تسيل من عينيه كما يسيل الدم؟ أإلى هذا الحدّ يمكن أن يتماهى الفنان مع موضوع رسمه؟
لوحة «شهيد من درعا» تكشف عن الوجه الحقيقي الذي رسمه عبدلكي طوال تجربته الفنية، وكان يأخذ في الماضي أشكالاً متنوّعة: العصفور القتيل والجمجمة المكبّلة، السمكة المخترقة بمسمار، الغصن المقطوع إلى جانب الرأس المقطوع، الأزهار المطعونة بسكّين… كأنَّ كلّ ما رسمه الفنان في حياته كان تمهيداً لبلوغ ذاك الوجه الذي يختصر وجوه الضحايا المعذّبين كلّهم.
من فرنثيسكو غويا في محفوراته الطباعية المعروفة باسم «أهواء ونزوات» و«كوارث الحرب» إلى زوران موزيش في الرسوم التي أنجزها في معتقل «داشو» وتمثّل السجناء الذين فقدوا الحياة أو كانوا يحتضرون أمام عينيه، نجد أعمال يوسف عبدلكي المنجَزَة بحرَفيّة عالية وبإتقان، تتحرّك ضمن هذا المسار الإنساني والجمالي. جمال اللوحة، هنا، يطالعنا في مقلبها الآخر، حين تتجاوز واقعيتها المعلَنَة وتحيلنا على ما تضمره، وما تضمره يأتي من إحساس عميق بمعنى العدالة والحرية والإبداع.
كلّ من لا يُقتَل (بضمّ الياء) في مملكة الرعب يتمّ تفريغه من نفسه. كلّ من لا يموت قبل الموت، من لا يموت وهو لا يزال على قيد الحياة، مصيره معروف سلفاً. هذا ما كان يدركه عبدلكي ويعمل على مواجهته. يرسم ويكتب ويشهد، ويتحمّل رؤية أولئك المثقّفين الذين يبجّلون الطاغية ويعبّرون عن انبهارهم بمآثره الدموية. أولئك الذين يحاولون الآن تغطية الجريمة بجريمة أخرى: جريمة النظام الشمولي مقابل الجريمة التي يمارسها أصحاب الفهم الحَجَري للدين!
لا يكفي المرء أن يأكل ويشرب لكي يعيش. الذين خرجوا من بيوتهم في الأشهر الستة الأولى من الثورة مطالبين بالحرية، كانوا أقوى من الرصاص الذي أراد أن يحصدهم ويمحو أثرهم. إلى جانب هؤلاء وقف يوسف عبدلكي، ضدّ العنف الممنهج الذي تشهده سوريا، وهو تنويع على عنف أصلي، رهيب ومعتَّق، يتواصل بوتيرة واحدة منذ نصف قرن.
مرعبة هي جبهة النصرة. مرعبة الحركات الإسلامية المتطرفة كلّها. مرعبة انشقاقات المعارضة السورية وخلافاتها التي لا تنتهي، ومرعب هو الائتلاف الذي لا يأتلف، لكن الأكثر رعباً هو هذا النظام الذي اختار الحلّ الدموي والذي يدّعي أنه يحمي سوريا فيما يمعن في قتلها وتدميرها واعتقالها، مدعوماً بصمت المجتمع الدولي بأكمله.
الحرّية ليوسف عبدلكي ورفيقيه، ولجميع سجناء الرأي.