تشارلز ميلز.. تنوير أسود ضد العنصرية البيضاء/ حسام أبو حامد
قد تبدو الفلسفة، تقليديًا، بحثًا في الطبيعة الحقيقية للخير والجمال والمعرفة والعدالة. ومنذ أن تساءل أفلاطون: “ما هي العدالة؟”، سيطر البحث عن الشكل المثالي للمجتمع العادل على الفلسفة السياسية خصوصًا في العقود الأخيرة. لكن ما الذي يمكن أن تقوله الفلسفة عن الطبيعة المستمرة للظلم والجهل مثلًا؟ هل هناك من طبيعة منهجية للظلم يمكن أن يكون الكشف عنها سمة من سمات البحث الفلسفي؟
وفقًا لتشارلز ميلز، الفيلسوف الراحل حديثًا عن عالمنا، فإن الفلسفة يجب أن تدرس الظلم والقمع والجهل كموضوعات في حد ذاتها. تجادل فلسفة ميلز بأن الإصرار على أن تبقى الفلسفة السياسية مجرد دراسة لأي شكل من أشكال العدالة يهدف المجتمع المثالي إلى تحقيقه، هو مشروع أيديولوجي خبيث، يرقى إلى تبييض القمع، وإذا كانت دراسة الحواجز التي تعترض العدالة والمعرفة ليست “فلسفية”، فهذا يشير إلى أن هذه الحواجز عرضية ومؤقتة، وهي ليست كذلك برأي ميلز.
العرق مفهومًا تأسيسيًا
كرّس ميلز معظم أعماله للبحث في العرق من حيث هو عائق أمام العدالة، ورأى فيه منظّمًا للعالم الحديث المبني على العبودية العرقية والاستعمار والإبادة الجماعية، ونظر إليه بوصفه مفهوما فلسفيًا تأسيسيًا. وفي كتابه الأكثر شهرة، الحائز على جائزة بينجامين إي ليبينكوت: “العقد العنصري” (The Racial Contract)، الصادر في عام 1997، انتقد ميلز بقوة الفلسفة السياسية التحليلية المعاصرة التي تجاهلت الأهمية الفلسفية للعرق، وسعت إلى تأسيس المثالية بعيدًا عنه، فمن عادة المثالية أن تجذبنا بشكل منهجي إلى الموضوعات التي كانت في الواقع دائمًا مركزية في الفلسفة السياسية، مثل الأيديولوجيا والقمع. لذا، يطالب ميلز بتركيز الاهتمام، ليس فقط على إدراك الأهمية الفلسفية للمثل المعيارية، ولكن أيضًا على الأهمية الفلسفية للحواجز التي تحول دون تحقيق هذه المُثل العليا، أي الأيديولوجيا. يبدو ميلز مقتنعًا بأن تحقيق مستقبل أفضل لا يتم بمجرد الاعتراف بالحقيقة القبيحة للماضي والحاضر، ولكن بفهم الطرق التي أصبحت بها هذه الحقائق غير مرئية ومقبولة للسكان البيض، والظروف التي حالت بالفعل دون تحقيق المثل غير العنصرية، وعززت بدلًا من ذلك المُثُل العرقية. من الضروري معرفة الخطأ الذي حدث في الماضي، ويحدث الآن، والذي يرجّح أن يستمر مستقبلًا إذا لم نحترس منه.
تنوير عنصري
إما أن مُثل التنوير، بطبيعتها، عنصرية وإقصائية، وبالتالي ينبغي رفضها، أو أنها مثل عليا خيّرة قد أسيء استخدامها في تبرير العبودية والاستعمار. في “العقد العنصري” يجادل ميلز بأن العنصرية كانت في صميم أحد المبادئ الأساسية لليبرالية؛ “العقد الاجتماعي”، بدلًا من أن تكون نتيجة غير مقصودة. هناك إذًا ما تقوله الفلسفة بشأن سبب صعوبة تحقيق المُثُل العليا بشكل منهجي. موقفه هذا، في حد ذاته، مشروع تنوير، يقع ضمن نطاق الليبرالية. لقد بُنيت النظريات التعاقدية الكلاسيكية (هوبز، لوك، روسو، وكانط) على افتراض هيمنة العرق الأبيض، وإليه ينظر ميلز بوصفه عقدًا عنصريًا، أصبحت معه سيادة البيض هي النظام السياسي غير المسمى الذي جعل العالم الحديث على ما هو عليه اليوم. يؤسس هذا العقد العنصري حكمًا عنصريًا ودولة عنصرية ونظامًا قضائيًا عرقيًا، ويتحدد وضع البيض وغير البيض بوضوح، سواء بموجب القانون أو العرف. بموجب هذا العقد فإن الغرض من الدولة هو الحفاظ على النظام العنصري وإعادة انتاجه، وتأمين امتيازات ومزايا المواطنين البيض بالكامل، والحفاظ على تبعية غير البيض، ولا يتساهل ميلز مع أي ادعاء بأن ذلك ينشأ عن بعض التحيز البدائي أو الخطأ المـتأصل، بل يراه نابعا من الظروف الخاصة بالاستعمار الأوروبي منذ القرن الخامس عشر فصاعدًا.
فلسفة غير مثالية
لن نجد، بحسب ميلز، مصطلح “التفوق الأبيض” في النصوص التمهيدية أو حتى التقديمية للنظرية السياسية التي تعلمنا عن الارستقراطية والاشتراكية والليبرالية وما شابه، في قراءتها لأفلاطون وأرسطو، وصولًا إلى رولز، لكن لن يكون هناك دائما أي ذكر للنظام السياسي الأساسي الذي شكّل العالم خلال عدة مئات مضت من السنين.
يجادل ميلز بأن مشروع الفلسفة السياسية غير المثالية، من النوع الذي يتخيله، يستند إلى حقيقة مخفية وراء السرد المعلن؛ الحساب التاريخي للغزو الأوروبي للعالم. لذلك، ومن أجل تحقيق العدالة العرقية، شرع ميلز في تأسيس فلسفة للعرق موسعًا نقده لمفهوم الفلسفة الذي يرفض الاعتراف بالعوائق التي تحول دون تحقيق العدالة على أنها فلسفية. يجادل ميلز بأن العرق هو “حقيقة عميقة محتملة تبني عالمنا الاجتماعي الخاص”. يعتبر موقف ميلز من العرق “مضادًا للواقعية ومناهضًا للوجود”، حيث ينكر أن للعرق طبيعة أساسية خفية، لكنه يؤكد دوره السببي المركزي في الشؤون الإنسانية، وأن الإبقاء على الفلسفة السياسية مجرد بحث في أي شكل من أشكال العدالة هو الأفضل لـ “حسن التنظيم” الاجتماعي هو مشروع أيديولوجي بالمعنى الكلاسيكي، يحمي “البياض” من النقد من خلال إبعاد العنصرية إلى مكانة هامشية. اشتغاله على العرق كان مساهمة منه في الميتافيزيقيا الاجتماعية، لتوضيح أهمية الأنطولوجيا للفلسفة الأخلاقية والسياسية. أما عمله عن الأيديولوجيا، ولا سيما مقالته البارزة “الجهل الأبيض”، فكان مساهمة هامّة في نظرية المعرفة، توضّح كيف تعمل الأيديولوجية العرقية كحاجز بنيوي للمعرفة.
عدالة اجتماعية في غياب عدالة عرقية
يتصدى ميلز لما يصفه بسخافات الفلسفة السياسية، نحو التوصية التي تضمّنتها نظرية جون رولز حول العدالة بالنظر إلى المجتمع باعتباره “مشروعًا تعاونيًا من أجل المنفعة المتبادلة” تم تصميم قواعده لتعزيز مصلحة المشاركين فيه. أدرك ميلز، كما ذهب في إحدى مقابلاته، غرابة هذا الشرط مذ كان لا يزال في أول دورة للدراسات العليا في الفلسفة السياسية في جامعة تورنتو. حينها، كانت جامايكا محاصرة بشدة بنقاش وطني حول الماضي الاستعماري وإرثه، وتساءل منذ ذلك الحين: كيف يمكن التوفيق بين هذا الواقع ووصفة رولز النظرية؟
للتصدي لمثل هذه “المراوغات” يتوجب، بحسب ميلز، تحديد قضايا العدالة الاجتماعية هذه في إطار “التفوق الأبيض”. لقد كان أحد الجوانب المعرفية الإيجابية لانتخاب دونالد ترامب والتظاهرات المحتجّة على مقتل جورج فلويد، هو أن اطارًا كهذا لم يعد يبدو راديكاليًا كما كان بالنسبة للأنماط السائدة، إذ يدرك اليوم عدد أكبر من الأميركيين من جميع الأعراق، بما في ذلك البيض، مركزية الهيمنة العنصرية المؤسسية في تشكيل البلاد وتطورها. وبدلًا من أن يعترف رولز بالحقيقة المركزية، يفترض التوافق بين ما هو وصفي وما هو معياري، وهنا يكمن “جهله الأبيض” الذي يدفعه الى عدم تبرير التبعية العرقية كما كان الحال في حقبة التفوق الاستعماري الصريح، لكنه يخفيها عبر الدعوة إلى مشروع تعاوني من أجل “المنفعة المتبادلة”. إن عدم مواجهة الواقع، برأي ميلز، يقوّض مشروع رولز المعياري على شكل استبعاد هيكلي للعدالة العرقية الصحيحة، فالولايات المتحدة مجتمع عنصري ولا تنطبق مبادئ رولز المثالية على مجتمعها، وقد وضع رولز نظريته الاجتماعية متجاهلًا المجتمع العنصري، فنظّر لعدالة غير متحققة في بلده.
تمزيق العقد العنصري
يحمّل ميلز ليبرالية التنوير ومفكريها المسؤولية حين اعتبروا أن الهيمنة العرقية أمر مفروغ منه، فتفوق العرق الأبيض هو في صلب نظرياتهم عن الكوني. وفي كتابه “السواد المرئي: مقالات عن الفلسفة والعرق”، يتناول “البياض” بوصفه نظامًا، وكيف كان في صلب الاهتمامات الفلسفية الأساسية. ودون أن تدرك، ابتعدت الفلسفة الغربية عما كان سمة مركزية لحياة الأفارقة الذين تم نقلهم ضد إرادتهم إلى الاميركيتين، في إنكار للإنسانية السوداء.
يدعو ميلز إلى إعادة صياغة مفاهيم المجال الذي من شأنه أن يأخذ على محمل الجد عقودًا من النقد الاستعماري، والمناهض للمركزية الأوروبية، عندها يمكن إعادة تشكيل النظام الذي يعكس بشكل حقيقي الديمغرافيا واهتمامات الأمة المتعددة الأعراق والثقافات. السؤال المركزي عند ميلز: كيف نفكك البنية العنصرية الأساسية؟
برأيه، يتطلب الأمر من الأميركيين البيض أكثر من الخروج في مظاهرات من أجل فلويد، وشراء قمصان “حياة السود مهمة”، وقراءة كتب حول العرق والعنصرية صنّفتها “نيويورك تايمز” ضمن قائمة الكتب الأكثر مبيعًا. إن تمزيق العقد العنصري يتطلب إعادة إعمار وطني يتضمّن معرفة المشاكل التي يجابهها أيضا عشرات ملايين الفقراء من الأميركيين البيض والطبقة العاملة والعاطلين عن العمل. للحصول على دعم البيض، لا بدّ من أن تكون العدالة العرقية جزءا لا يتجزأ من مشروع أكبر للعدالة الطبقية والجنسانية والجمع بين الضرورات الأخلاقية ومصالح المجموع، عندها يمكن التخلص من “عقد الهيمنة” المشترك، ولا بدّ من أن ندرس ما إذا كان من الممكن صياغة مثل هذه الرؤية السياسية الراديكالية لتكون جذابة للأغلبية البيضاء، وامكانيات تحقيقها.
خاتمة
غيّر تشارلز ميلز بشكل جذري تقريبًا المناقشة حول العرق في الولايات المتحدة الأميركية، ويبدو أنه لن تكون هناك عودة قريبة عن ما خطّه في هذا الشأن، لن تكون أي دراسة في الفكر السياسي الأسود مكتملة بدون ميلز، الذي نشر نظرياته في المعرفة البديلة للكشف عن التحيزات العنصرية المنهجية للفلاسفة السياسيين الرئيسيين. لقد رسم طريقًا إلى إنهاء الاستعمار الأبيض للفلسفة، وإعادة قراءة تاريخ الفلسفة السياسية في سياق التفوق العالمي الأبيض. في أيامه الأخيرة، تبنى مشروع تعديل الليبرالية لتلائم واقع “المجتمعات غير المنظّمة” في تركيبتها المفاهيمية الأساسية، وهو ما أسماه “ليبرالية راديكالية سوداء” في كتابه “حقوق السود/ أخطاء البيض” (2017). في هذا الكتاب، درس ميلز الطريقة التي رفض بها أشخاص بيض الاعتراف بواقع الاستغلال العنصري، وتطلع إلى إمكانية وجود ليبرالية جديدة غير عنصرية تُقرّ بتاريخ من التعالي الأبيض، ورأى أنه إن كانت الليبرالية تهيمن عالميًا باعتبارها وجهة نظر مناهضة للاستبداد، فإن رد الفعل الصحيح لهذه الحقيقة، فلسفيًا واستراتيجيًا، هو الدفاع عن نسخة منها تركّز على “العدالة التصحيحية”، لكن وفاته حالت دون تطويره لمشروع إنقاذ الليبرالية. وصفه البعض بأنه سقراط الأسود الذي يتجول في شوارع الفلسفة يسأل الناس عما يجعلهم يعتقدون أن مجتمعاتهم ملطّخة بتاريخ من الرعب العنصري، ولماذا لا يجعلون من ذلك العار قوة دافعة للنضال من أجل مجتمع أكثر عدلًا.
ولد ميلز في لندن في الثالث من يناير/ كانون الثاني 1951، ونشأ في جمايكا قبل أن يصبح مواطنًا أميركيًا. تلقّى تعليمه في جامعة ويست أنديز وجامعة تورنتو. عمل في جامعة إلينوي في شيكاغو (1990- 2007)، ثم أصبح عضوًا في هيئة تدريس جامعة نورث ويسترن (2007-2016)، ثم رئيس القسم المركزي للجمعية الفلسفية الأميركية (2017-2018)، كما انتخب في عام 2017، عضوًا في الأكاديمية الأميركية للفنون والعلوم. توفي عن عمر يناهز 70 عامًا بعد صراع مع مرض السرطان.
من كتبه: العقد العنصري (1997)؛ السواد المرئي: مقالات عن الفلسفة والعرق (1998)؛ من الطبقة إلى العرق: مقالات في الماركسية البيضاء والراديكالية السوداء (2003)؛ الواقع الكاريبي: العرق والطبقة والهيمنة الاجتماعية (2010)؛ حقوق السود / أخطاء البيض: نقد الليبرالية العنصرية (2017).
إحالات:
1- Ali Raza, Toronto-educated philosopher and critical race theory pioneer Charles W. Mills dies at 70, CBC News, Oct 09, 2021.
2- Woojin Lim, The Racial Contract’: Interview with Philosopher Charles W. Mills, Harfard Political review, October 29, 2020. https://bityl.co/9ITM
3- Charles W. Mills, Blackness Visible: Essays on Philosophy and Race (Cornell University Press, 1998). https://bityl.co/9ITR
4- Mano Sundaresan and Sarah Handel, Remembering Seminal Philosopher Charles W. Mills, September 27, 2021. https://bityl.co/9ITs
ضفة ثالثة