النسوية السورية الهولندية رحاب منى شاكر: “لماذا لا يحاول الرجال التعرّف إلى المرأة كما ترى نفسها؟”
دلير يوسف
يبرز اسم رحاب منى شاكر كناشطة نسوية سورية هولندية، وهي كاتبة ومترجمة تُعنى بالأدب النسوي الهولندي. تنشر منذ سنوات ترجماتها وكتاباتها في مواقع عربية مختلفة، كما تساهم في تنظيم العديد من الفعاليات التي تُعنى بالنسوية.
أردنا في رصيف22، التعرّف أكثر إلى رحاب منى شاكر -التي تستخدم اسم أمها (منى) في جميع ما تنشر، لتعرّف القارئات والقرّاء باسمها الأنثوي- وبعملها وبمعنى مصطلح “النسويّة” وتعريفها، وبالحراك النسوي السوري ومقارنته بالحراك النسوي الهولندي، وبدور الرجال في الدفاع عن حقوق النساء.
تمّ التحضير للحوار وتحريره بصيغته النهائيّة هذه عن طريق رسائل الماسنجر والاتصال الهاتفي ورسائل البريد الإلكتروني.
تكتبين عن النسويّة والحبّ، والنسويّة التقاطعيّة، والنسويّة في الإسلام، وما إلى هنالك من مواضيع إشكاليّة معقّدة. لكن بدايةً تبدو كلمة “نسويّة” ضبابيّةً في المجال العام، ولها وقع سلبي على أسماع الكثيرين. كيف تعرّفين أنتِ النسويّة؟ وما الذي يعنيه هذا المصطلح بالنسبة إليكِ؟
لا أدري إن كان ثمة تعريف واحد للنسوية تتفق عليه جميع المهتمات بحقوق المرأة في السياق السوري. ما زالت الكلمة ضبابيةً بالنسبة إلى البعض، ويلاحقها الكثير من الأحكام المسبقة في المجال العام، كما أن ثمة الكثير من النساء اللواتي يخشين استخدامها على الرغم من عملهن من أجل مجتمع يساوي بين الرجال والنساء. لذلك أصبحتُ أكثر مرونةً من السابق ولم يعد يعنيني إن كانت المرأة تسمي نفسها نسويّةً أم لا، لأنّ الواقع تبدّى أكثر تنوعاً وتعقيداً من أن نحصره. ولكن هذا لا يعني أني لم أعد أعرّف بنفسي كنسوية، بل على العكس، فأنا أحب التماهي مع شحنة التمرد التي ترافق الكلمة. وعموماً أشجع على التعريف بأنفسنا كنسويات، لأن ذلك سوف يساعد على فرض أنفسنا وتوسيع مساحة تأثيرنا شيئاً فشيئاً.
أما بالنسبة إلى تعريفي الخاص للنسوية، فهو يتطور مع تجربتي. أذكر أني في بدايات مشواري كنسوية كنت أقول: “إن النسوية ليست أن تمتلكي الحساسية العالية حيال الظلم الذي يطالك كامرأة فحسب، بل كذلك أن تمدي يد العون لامرأة أخرى على الرغم من نجاحها وفشلها”. من دون وعي مني، وضعتُ الأختية (sisterhood) في قلب النسوية. ولكن مع مرور الوقت اكتشفتُ رومانسيتي، إذ ظهر أن الأختية لها إشكالياتها النظرية والعملية (في السياق السوري). أميل إلى التفكير اليوم في أن الأختية مرحلة متطورة من النسوية، أي أن النسوية سوف تفضي مع الوقت إلى الأختية، وليس العكس.
في مرحلة لاحقة، ارتبط تعريفي للنسوية بالنشاطية في المجال العام، والتي تطمح إلى المساواة بين الرجال والنساء على جميع الأصعدة، أي أن السلوك على الصعيد الشخصي لم يعد كافياً في نظري إن لم يكن موجهاً كذلك إلى تغيير العالم بأسره لصالح عدالة أكبر بين الجنسين. ومؤخراً، بدأتُ أحاول فك الارتباط في ذهني بين النسوية والتقسيم البسيط إلى رجال ونساء، لأنتقل إلى تعريف أوسع للنسوية كحركة سياسية تطمح إلى التغيير الجذري لبنى المجتمع عبر إطلاق الطاقات “الأنثوية” المقموعة في جميع مجالات الحياة الاقتصادية والسياسية والثقافية والعلمية والدينية وغيرها. أقول “الأنثوية” وليس النسائية، لأني بتُّ أعي أن المكوّن الأنثوي مقموع، أو مشوه لدى النساء والرجال على حد سواء. تكمن النسوية إذاً في محاولة رد الاعتبار لهذا المكوّن الأنثوي في حياتنا وجميع معاملاتنا، وإعادة التوازن المفقود بين القيم الأنثوية والقيم الذكورية كقطبين حيويين لا يتنافيان، بل يكملان بعضهما بعضاً. لا شكّ أن ذلك سوف يعبّد الطريق نحو تكريس أكبر للعمل والمعرفة والمهارات بهدف رفع الظلم عن جميع الفئات المهمشة، وخلق أشكال إيجابية من المنافسة التي تحضّ على مزيد من التنوع والإبداع والحماية والصداقة.
أكرر السؤال نفسه الذي وجهته بنفسكِ إلى النسويّة الهولنديّة، أنيا مولينبيلت، في حواركِ معها. ما الذي نبّهكِ إلى ضرورة النسوية والعمل مع النساء؟
لعل اهتمامي بالنسوية نابع من تشابك مسارات ذاتية وموضوعية. أعتقد أن حساسيتي لاختلال الموازين الجندرية نابعة إلى حد كبير من كوني ترعرعت منذ أن كنت يافعةً على حدود ثقافتين تتعاملان بشكل مختلف مع المرأة: الثقافة العربية الإسلامية المحافظة عموماً، والتي ما زالت تحمل بذور الحريم في معاملاتها وبنيانها الفكري والعاطفي، والثقافة الهولندية التي شهدت قفزةً نحو الأمام في وضع المرأة اعتباراً من الإرهاصات الأولى للنشاط النسوي في بداية القرن العشرين، مروراً بالموجة النسوية الثانية في ستينياته وسبعينياته إلى يومنا هذا. موقعي على حدود ثقافتين ولغتين زوّدني كامرأة بذخيرة كبيرة من التجارب المتناقضة والأحلام المحبطة والحساسية للوضع المائل. وطبعاً لن أغفل قراءتي المبكرة لبعض الكتابات النسوية العربية التي سرّعت تفتح وعيي.
أما من ناحية المسارات الموضوعية، فأعتقد أن للثورة السورية أثراً كبيراً. فمع انطلاقتها استعدتُ التواصل تدريجياً مع وطني الأم وقضايا أهلي وناسي، واكتشفتُ أن ألمي يشبه في الجذر آلامهم. نعلم أن الثورة خلقت فرصاً لطرح تساؤلاتنا المتنوعة حول الحرية والكرامة، فاختلطت تساؤلاتي مع الهم السوري الكبير. كنتُ في تلك الفترة قد بدأتُ تلقائياً بالربط بين همومي وهموم جميع النساء، حيث اكتشفتُ بعد فترة من جلد الذات أنه لا يمكن أن يكون الظلم الذي لمسته في حيوات المهاجرات نابعاً فقط من سوء حظ أو صدفة. أقصد أن أقول إن الثورة انطلقت في الفترة التي بدأ فيها وعيي النسوي بالتبلور، ولكن المشكلة أن تجربتي كمهاجرة وضعتني في موقع استثنائي بعض الشيء، وصعّبت علي التحالف مع النساء السوريات والهولنديات على حد سواء. ولكني على الرغم من ذلك، وجدت مع الوقت صلة الوصل عبر ترجماتي وكتاباتي وآرائي التي يبدو أنها تساعد على سد فراغٍ ما في الساحة النسوية السورية. وحين أدركتُ ما يمكنني تقديمه، اكتشفتُ في نفسي طاقةً لا أدري أين كانت.
ما الذي تعنيه النسويّة في سوريا، وهي تعيش الويلات منذ نحو عشر سنوات؟ مئات الآلاف من القتلى والجرحى والمعتقلين/ ات والملايين من اللاجئين/ ات، فلماذا إذاً نهتم بحقوق النساء فحسب؟ مثل هذا السؤال كثيراً ما يُطرح على النسويّات والنسويين والمدافعين/ ات عن حقوق النساء. أعلم أنّك أجبتِ على مثل هذا السؤال في مرات كثيرة من خلال مقالاتك وترجماتك، لكن لا بأس بإجابة واضحة ودقيقة مرة أخرى لمثل هذه الأسئلة.
لا أدري لماذا ألمس في سؤالك تلك الفكرة الشائعة والمغلوطة بأن الاهتمام بقضايا النساء هو إهمال للقضايا الأخرى. هذا تحيّز سلبي في أحسن حالاته. أرتاب دائماً حين يقوم أحدهم بالمفاضلة بين قضيتين عادلتين. تجربتي هي أنه كلما تكلمت امرأة عن حقوقها، هبّ الناس -وأغلبهم رجال- للتساؤل لماذا نتكلم عن حقوق النساء “فقط”، ولا نتكلم عن حقوق الإنسان بشكل عام. يضعون البشرية في كفة والنسوية في كفة أخرى، ليس لأنهم مهتمون بحقوق الإنسان، بل لأنهم ليسوا كذلك.
يدّعون أن لا فرق بين الرجال والنساء، ولكن هذه الموضوعية المزعومة لا تشي عن فهم باختلال موازين السلطة بين الجنسين، بل تعمل واعيةً أو لا واعيةً على استمرار الوضع الراهن. ذلك أنه في ما عدا الفروق البيولوجية الطفيفة، ثمة تمييز كبير لصالح الذكورة في مجتمعاتنا. حياة المرأة منذ ولادتها حتى مماتها محكومة في كل تفاصيلها بهذا التمييز المجتمعي والاقتصادي والسياسي والقانوني والديني. والأمر لا ينطبق بالطريقة ذاتها على الرجل. لا يمكننا المساواة نظرياً بين المرأة والرجل إن لم تتم المساواة على أرض الواقع. وأنت تعرف ما يحصل في أثناء الحروب والأزمات من تفاقم الانتهاكات حيال المرأة داخل الأسرة وخارجها. حين تتحقق العدالة والمساواة يمكننا القول إنه لا فرق بين النساء والرجال. هذا ما تطمح إليه النسوية على المدى البعيد، وحالما تتحقق أهدافها سوف تلغي نفسها بنفسها.
لا داعي إلى تذكير النسويات أن ثمة مشكلات كبيرة وعديدة في هذا العالم، لأنها جميعها تتقاطع بشكل أو بآخر مع قضيتهن وسيطرة الحضارة الذكورية. حين نعالج قضية المرأة جذرياً، فإننا نكون بذلك نشتغل أيضاً على مسألة انتشار الفقر والعنف والاستغلال والقمع بشتى أشكاله، إن كان موجهاً إلى المرأة أو الرجل أو الطفل أو البيئة أو الحيوان. تطمح النسوية إلى إعادة صياغة الحضارة البشرية بطريقة تضمن الكرامة للجميع، وأرى قضية المرأة مدخلاً لتغيير العالم بأسره، وليس وضع النساء فحسب، ولكن هذا لا يعني أني أنفي إمكانية الانطلاق من زوايا أخرى. هناك نساء كثيرات يشتغلن على قضايا مختلفة من منظور نسوي. طبعاً نحن نناصر قضايا جميع الفئات المهمشة والمقموعة، وكل ما هنالك أن تجربتنا الحياتية كنساء هيّأتنا أكثر من غيرنا لفهم مدى جذرية قضيتنا وتقاطعها البنيوي مع القضايا الأخرى. هل تعتقد أن الوضع في سوريا كان سيتدهور إلى هذه الدرجة لو كانت الحضارة الذكورية أقل تغلغلاً في السياسات المحلية والدولية على حد سواء؟
ترجمتِ الكثير من المقالات لنسويّات وسياسيّات هولنديات، ولا سيما النسويّة الهولنديّة المعروفة على نطاق واسع، يوكه سميت. ما أهميّة ترجمة تلك المقالات إلى اللغة العربيّة، ولا سيما أنّك تترجمين مقالات عمرها عشرات السنوات، مثلاً يوكه سميت توفيت عام 1981. هل من الممكن أن تستفيد النساء العربيات، والسوريات على وجه الخصوص، من التجربة النسوية الهولندية؟
مضت أربع سنوات تقريباً على ترجمتي النسوية الأولى، والتي كانت بعنوان “نزق المرأة” للرائدة النسوية الهولندية يوكه سميت. فكرت حينها في ترجمتها، لأن هولندا كانت تحضّر نفسها للاحتفال بالذكرى الخمسين لصدورها، ذلك أنها تُعد إحدى أهم عشر نصوص كُتِبت باللغة الهولندية في القرن العشرين. لا أقصد من ناحية المضمون فحسب، ولكن من ناحية الأثر الذي تركته في المجتمع. كثيراً ما يقال إنها كانت الطلقة الأولى التي أعلنت انطلاق الموجة النسوية الثانية. وقد حازت الترجمة على انتشار واسع، وحسب ما أذكر، كانت المقالة الأكثر قراءةً على موقع “الجمهورية” لذلك العام، مما شجعني على أن أواصل البحث عن نصوص مفيدة أخرى وترجمتها. بعض السيدات قلن لي إن ترجماتي هي النصوص الوحيدة التي يقرأنها وسط همومهنّ الكثيرة. على خلاف ما يعتقد البعض إذاً، يبدو أن القارئ/ ة العربي/ ة متعطش/ ة لمناقشة الثيمات النِسوية من زاوية نظر جديدة.
ولكن لماذا أختار نصوصاً مضى على صدورها عشرات السنين، ولا أختار نصوصاً حديثةً؟ هناك أسباب عدة، أهمها أن وضع المرأة الهولندية التي عاشت منذ ستين عاماً يشبه وضعنا الحالي أكثر من المرأة التي تعيش في عصرنا هذا. قارئات عربيات كثيرات استغربن ذلك الشبه غير المتوقع. وشخصياً أجد نفسي أقرب إلى الموجة النسوية الثانية مقارنةً بالموجات النسوية الأخرى. يطربني جداً الأسلوب الغاضب والساخر الذي تستخدمه يوكه سميت، وأعتقد أني سوف أفتقده لو ترجمت نصوصاً حديثةً. ولكي أكون صريحةً، ينبغي الاعتراف أنه حتى تلك النصوص القديمة هي متقدمة على وضعنا، ولا تحمل نصف الهموم التي تعاني منها النساء السوريات. إلا أن قيمتها التحليلية عالية، وتتفوق على إنتاجنا المحلي بحرية الطرح والأسلوب. كما أنها تتناول قضايا تمسّ كل امرأة في كل بقاع العالم، من بينها الأمومة والعنف المنزلي والعمل غير المأجور والحب والرجولة والتنظيم النسوي. هناك تجارب إنسانية غنية نحتاج إلى الاطلاع عليها واستخلاص ما يناسبنا منها. من هذه الناحية يمكنني القول إن النصوص التي أترجمها عالمية وتأسيسية من دون أدنى شك.
لا شك في وجود حركة نسويّة سوريّة تكبر يوماً بعد يوم. والحركة النسويّة في سوريا لم تبدأ الآن، فمنذ عشرينيات القرن الماضي وثلاثينياته، وُجِدت نساء قاومن الأعراف والعادات والسلطة الأبويّة، واستطعن أن يحققن انتصاراتٍ كبيرةً، على سبيل المثال لا الحصر: حق الانتخاب وحق الترشح إلى البرلمان وحق التعليم. هل يمكن تقسيم الحركة النسويّة السوريّة إلى موجات، مثلما حدث في أوروبا؟ وهل تُعدّ الحركة النسويّة بعد 2011 موجةً نسويّةً ثالثةً، إذا ما عددنا الموجة النسويّة الأولى قد بدأت في العشرينيات وحتى وصول البعث إلى السلطة، والموجة الثانية هي حركات نسويّة (ولو في أطر ضيقة) خلال حكم البعث حتى العام 2011، والآن نعيش الموجة الثالثة؟
للأسف لم تمرّ علي حتى الآن دراسة تتناول هذا الموضوع، لذلك سوف أنطلق من تقديراتي الشخصية التي توصلت إليها عبر مراقبة ما يحدث على الساحة السورية. حتى ولو كان ثمة تماشٍ خجول للحركة النسوية العربية مع الموجات العالمية، إلا أنّنا في مرحلة الثورة والحرب في سوريا نعيش وضعاً شبه صفري يجعل الأوراق تختلط في ما بينها. أعادتنا الحرب أميالاً إلى الوراء، وتكبر المأساة حين نلاحظ أن تطلعات النساء نحو الحرية لم تتراجع، بل تقدمت وازدادت إصراراً. ثمة فجوة كبيرة إذاً بين أحلامنا وواقعنا، وهذا يختلف جداً عما حصل في أوروبا التي عرفت فيها الموجات تدرجاً منطقياً وسلساً نسبياً. نحن النسويات السوريات ننتمي في العصر نفسه إلى تطلعات الموجة النسوية الأولى والثانية والثالثة والرابعة جنباً إلى جنب. لدينا النساء اللواتي يولين الأهمية القصوى للتغييرات في التشريعات والقوانين، وأخريات يذهبن أبعد عبر مساءلة الرجل نفسه حول جميع امتيازاته والمطالبة بالمساواة الاجتماعية التامة معه. وهناك من يرين أنفسهن تجاوزن هذه المرحلة وتلك، فيتناولن المسألة من الناحية النظرية فحسب (على الرغم من أني لا أدري أين يذهبنَ بغضبهنّ)، وهناك من تشمل حرية الجسد بثورتها، وأخريات محافظات يرفضن ذلك. كما أن ثمة احتمالات جديدة مطروحة على الساحة، كالنسوية الإسلامية التي ما زالت تُناقَش نظرياً من دون أن تكون موجودةً عملياً. فضلاً عن أن جميع النسويات يستفدن من أدوات الموجة النسوية الرابعة التي أصبحت متاحةً جراء التطور التقني السريع.
من المعلوم أن الحركات النسوية في العالم الثالث ارتبطت سابقاً بالتيارات القومية التي كانت تدعو إلى الاستقلال عن المستعمر الأوروبي. واللافت أن شيئاً مشابهاً يحصل الآن أيضاً عبر ارتباطها بالثورات على الاستبداد المحلي. تزدهر النسوية حين يهبّ الناس إلى الشارع، ويروج خطاب التغيير، وحين تتزعزع المركزية الذكورية في أثناء النزاعات وبعدها.
ولكن هل ستستمر الانتفاضة النسوية التي نشهدها حالياً، وهل سيتحقق أي تغيير جذري؟ هناك من تقول إن زمن الإنترنت ليس كالأزمنة التي سبقته، ولن يسهل قمع هذه الحركة بسهولة. لذلك نأمل أن يشتد عود الحركة النسوية وتتوحد صفوفها قدر الإمكان على الرغم من الصعوبات والاختلافات الظاهرية، عندئذ سوف تغدو التقسيمات إلى موجات آخر همّنا.
لا تتوقف حالات العنف ضد النساء في مجتمعاتنا، وتصل في حالات معيّنة إلى حدّ القتل. أعتقد أنّ هذه مشكلة مجتمعيّة وليست مشكلةً متعلقةً بالنساء فحسب. ما الذي يُمكن أن يفعله الرجال كي يتوقف العنف ضد النساء؟
في الفترة الأخيرة شهدنا حالات قتل نساء عدة وصلت أصداؤها إلى وسائل التواصل الاجتماعي واهتم بها الناس. طبعاً جميعنا نعلم أن عدد ضحايا قتل النساء أكبر بكثير مما يصل إلى العلن. وحتى لو افترضنا أن ثمة ارتفاعاً جراء انتقال عنف الشوارع المتزايد إلى المجال الخاص، إلا أنّ كثافة مشاركة النساء في صنع الرأي حول هذه القضايا تتحسن في جميع الأحوال. كثيرات ممن استثمرن حالة الغضب وأطلقن مبادراتٍ صغيرةً أو كبيرةً لفتح ملف العنف ضد النساء. وأصدقك أني لا أذكر أن لفتتني ردة فعل مميزة قام بها رجل. ولكن عموماً أنا لست مع التحرك المؤقت إثر الأحداث الجسيمة فحسب، لأننا نحتاج إلى حراك مستمر مبني على جهود النساء والرجال معاً.
ما الذي يمكن أن يفعله الرجل كي يتوقف هذا العنف ضد النساء؟ بدايةً يجب أن يسأل نفسه ما هي مساهمته الشخصية في هذا العنف، وإن لم تكن له مساهمة واضحة، ينبغي أن يسأل نفسه كيف يستفيد بطريقة مباشرة أو غير مباشرة من اختلال موازين السلطة بين الجنسين. لا يوجد رجل واحد غير مستفيد في رأيي. عندما يعترف الرجل بذلك ويتحمل المسؤولية، سوف تبدأ مرحلة التغيير. ولكن معظم الرجال ينكرون ويكذبون أو يتقاعسون عن الفعل في أحسن الحالات. هذه ردّات فعل لا تنمّ عن النضج. أفهم أن الرجال لا يمكنهم فهم تجارب النساء تماماً لأنهم لم يعيشوها، ولكني لا أفهم أنهم لا يحاولون التعرّف إلى المرأة كما ترى نفسها، ولا يبذلون جهداً للاطلاع على كتاباتها المحلية والعالمية. هذا الاغتراب الكبير عن تجربة المرأة يجعل التماهي مع آلامها في غاية الصعوبة، ولذلك يفشل معظمهم في تصريحاتهم ومواقفهم حيال قضيتها العادلة.
كذلك من الأهمية بمكان أن ينتقل الرجل من التركيز التوحّدي على الأسلوب إلى محتوى القضية. أن يتساءل ويبحث صادقاً في مستوى العنف القائم على النوع الاجتماعي بدلاً من النرفزة المستمرة من أي جملة تتفوه بها النسويات، لأنها لم تستوفِ معاييره “الحساسة” والمتمركزة حول ذاته. أذكر على سبيل المثال بحثاً قدّمه أحد السوريين في مؤتمر لأحد المراكز المعرفية السورية. أفترض أن مركز بحوث كهذا يمرر أفضل إنتاجاتنا المعرفية، ولكن يبدو أن هذا لا ينسحب على البحوث التي تتناول النسوية والمنظمات النسوية. كان يُفترض أن يدور ذلك البحث حول خطاب منظمات المجتمع المدني النسوية، ولكنه أصبح أداةً لسبر الأعماق النفسية لذلك الباحث. خذ على سبيل المثال نقطة انطلاقه البحثية، فبدلاً من أن ينطلق من اللا مساواة وكمية العنف المتزايد حيال النساء في المجتمع السوري، كانت نقطة انطلاقه حساسيته الشخصية والمبالغ فيها حيال الأسلوب. يا أخي لا بأس أن تنتقد الحركة النسوية، ولكن على الأقل أن يكون قلبك عليها. إعفِني من ذكر لائحة أحكام القيمة القطعية التي أطلقها الباحث على الخطاب النسوي، لأني لا أريد المساهمة في نشرها. ولكن السؤال الذي يطرح نفسه هو هل كان ذلك البحث سيصل إلى المؤتمر لو لم يكن العمى الجندري متغلغلاً أساساً في منابرنا المعرفية. هناك مسؤولية تقع على عاتق المؤسسات الثقافية والمثقفين في أن يثقفوا أنفسهم بالفكر والسلوك النسوي، ولا يكفي أن يحفظوا دروس الفلسفة وعلوم السياسة عن ظهر قلب، ويكونوا في الوقت نفسه أميين على الصعيد النسوي.
كنت قد دعوت في مقالتي، الحب قضية نسوية، إلى حراك يطلقه الرجال أنفسهم. حراك يطمح إلى تحرير الرجل، وليس المرأة فحسب، من الذكورية والأبوية القاهرة. لدي عشم في أنه ما زال بيننا رجال يؤمنون بقيم العدالة التي ثاروا من أجلها. نحن نحتاج إليهم ليفكروا في قضايا النسوية الحساسة، ويبحثوا عن حلول معنا، ويرفدونا بكتابات صديقة للمرأة، علّ مساهماتهم توسع الرؤية إلى المشكلة، ويجدون معنا سبلاً لخرق السلوك الذكوري ليصلوا إلى الرجل المعنِّف ويساعدوا من خلال تقديم أمثولات للذكورة الإيجابية، ويصمموا البرامج التوعوية التي تهدف إلى تحسين مؤسسة الزواج ودور الأبوة، والحد من مشكلات ما بعد الطلاق، ومن سلوك العنف والتحرش، وتطوير سلوك العناية بالنفس والآخرين. قد لا تسمح الحرب والشتات بكل هذا دفعةً واحدةً، ولكن لا بأس من البدء تدريجياً والمراكمة حتى يحين الظرف. لمَ لا؟
رصيف 22