الآغا التقدمي عبد الحكيم الدعاس أو «سوريا التي مضت»/ ثائر دوري
منذ بدأت التنقيب في محاضر جلسات البرلمان السوري أسرتني شخصية النائب عبد الحكيم الدعاس، ثم راودتني فكرة الكتابة عنه. لكن المعلومات المتوفرة شحيحة وتكاد تتلخص بحكاية أنه أول من قدم مشروع قانون إلى المجلس النيابي السوري عام 1944 يعطي المرأة حق الانتخاب والترشح. وقد أحدث هذا المشروع دوياً هائلاً في المجتمع السوري آنذاك. وفي تفاصيله وأنقل هنا عن محاضر البرلمان «مشروع قانون مقدم من النائب السيد عبد الحكيم الدعاس بإعطاء المرأة السورية حق التصويت. أمين السر (يتلو مشروع القانون وهذا نصه مع أسبابه الموجبة).
مشروع قانون إعطاء المرأة حق التصويت
لائحة الأسباب الموجبة: نحن في القرن العشرين عصر المدنية والنور وعهد الوعي والتفكير، وقد مضت عصور الظلمة والجهل ولم يبق منها إلا اليسير وهو الذي يجب محاربته لإصلاحه ونحن في مستهل عهدنا الدستوري وتطورنا السياسي والاجتماعي، يجب على كل فرد منا أن يدرك واجبه حيال وطنه وأمته، وأن يساهم بما يستطيع من الإصلاح ومسايرة سنة التطور والارتقاء.
إن المرأة تشكل نصف المجتمع أو تزيد عليه وهي عضو أساسي عامل في شتى نواحي الحياة له خطره وقيمته ولا غرو فالمرأة كانت ولا تزال تنشئ الرجال وتخلق العظماء وتوحي أشتاتاً من الأخيلة والعبقريات والمرأة كما قال نابليون. (إن التي تهز السرير بيمينها تستطيع أن تهز العالم بيسارها) فلا بد من أن نقوم اليوم لنطالب بإنصافها بعد طول الصمت منها وأن نمنحها حقوقها الطبيعية المكتسبة، وأن نعطي كل ذي حق حقه. لقد قطعت المرأة اليوم شوطاً بعيداً في الثقافة والإدراك وبلغت شأواً تغبط عليه في المضمار السياسي الاجتماعي وأصبحت جديرة بأن تساهم في بناء الكون وتسيير أموره مع الرجل جنباً لجنب. لهذه الأسباب جميعها وأسباب أخرى يدركها كل منصف، أرى أن تُمنح المرأة حقوقها كاملة. وأن تدعى إلى القيام بقسطها حيال المجتمع والأمة والوطن. لذا أقترح على مجلسكم الموقر التصويت على هذا القانون، وبذا تقدمون للأمة خدمة جلى ستحمدها لكم الأجيال القادمة.
نائب القلمون عبد الحكيم الدعاس- مشروع قانون
أقر المجلس النيابي ونشر رئيس الجمهورية القانون الآتي
المادة الأولى ـ يحق للمرأة أن تمارس حق الانتخاب في الانتخابات النيابية والبلدية وسائر الأمور الانتخابية، وأن يكن ناخبات ومنتخبات على قدم المساواة مع الرجال.
المادة الثانية ـ تلغى جميع الأحكام السابقة المخالفة لهذا القانون
المادة الثالثة ـ وزراء الدولة مكلفون بتنفيذ أحكام هذا القانون.
دمشق في 8-5- 1944 « (1)
في الجلسة التالية من الدور التشريعي نفسه في 10 مايو/أيار 1944 أدلى رئيس اللجنة القانونية السيد سعيد الغزي برأيه حول مشروع القانون. قال «فيما يتعلق بالمشروع المقدم من النائب السيد عبد الحكيم دعاس في الجلسة الماضية اعتقد انه لا يمكن النظر فيه ما لم يعدل الدستور لأن المادة السادسة والثلاثين تقول: لكل سوري أتم العشرين من سنه ولم يكن ساقطاً من الحقوق المدنية، أن يكون ناخباً ضمن الشروط المنصوص عليها في قانون الانتخاب»، وحسب رأي سعيد الغزي فإن كلمة سوري تشمل الذكور فقط لذلك يجب تعديل الدستور ليصبح كل سوري وسورية. رد عليه السيد عبد الحكيم دعاس بقوله إن واضع الستور يقصد بكلمة سوري الذكر والأنثى. ثم انتهى الأمر بسؤال تهكمي من شيخ الساخرين النائب فخري البارودي «أنا أسأل السيد عبد الحكيم الدعاس هل طلبه هذا لكل نساء سوريا أم لنساء قريته فقط» رد عبد الحكيم دعاس بالقول «أفخر بأن يكون مستوى نساء قريتي الثقافي أعلا من مستوى نساء سوريا كلها».
غرامة العزوبية
انتهت المسألة عند هذا الحد لكن ذلك لم يمنع المحافظين من شن هجوم كبير عليه في المجتمع الدمشقي. فعاد في الجلسات اللاحقة للبرلمان ليقدم مشروع قانون للحض على الزواج، وكأنه يقول للمحافظين إنه عندما يتبنى حق المرأة بالتصويت والترشيح فهذا لا يعني أنه يدعو لتدمير الأسرة، والمشروع الأخير يدخل في باب الطرائف فقد نص على التالي «اقتراح من النائب عبد الحكيم الدعاس بتشجيع الزواج – أمين السر يتلو الاقتراح وهذا نصه: من المسلم به أن دعامة الأمم الأخلاق وأن كيان كل أمة يقوم على الأخلاق.. إن هناك شبه إضراب عن الزواج من قبل شبابنا، قد يكون ثمة ما يحتجون به. فالواجب يقضي علينا أن نزيل العقبات ونجتاز الصعاب في سبيل تأمين هذه الغاية النبيلة. إن تفشي البغاء السري وكثير من الأمراض السارية الفتاكة يرجع إلى الهرب من الزواج والنفور منه، ولا شك في أن هذه ويلات قد يكون لها ما بعدها. ونحن نواب هذه الأمة الساهرين على مصلحتها والمكلفين بالذود عن كيانها الاجتماعي المهدد يجدر بنا أن نضع الأسس اللازمة لسعادتها ورفاهيتها. لهذه الأسباب جميعها ولأسباب وطنية وقومية أخرى اقترح على مجلسكم الموقر درس مشروع القانون المقدم ومناقشته وإقراره وبذا تقدمون لأمتكم خدمة ستذكرها لكم الأجيال بالشكر وسيدونها لكم التاريخ بالفخر. اقتراح بقانون:
المادة الأولى: تفرض ضريبة على كل عازب تجاوزت سنه الخامسة والعشرين قيمتها خمسون ليرة شهرياً.
المادة الثانية: تفرض ضريبة على كل عازبة تجاوزت الثامنة عشرة من عمرها قيمتها ثلاثون ليرة شهرياً.
تحدد المهور على ثلاث درجات: أ- الفئة الأولى = ألف ليرة سورية.
ب- الفئة الثانية = خمسمئة ليرة سورية.
ج- الفئة الثالثة = مئتان وخمسون ليرة سورية.
المادة الرابعة ـ يمنح المتزوجون تعويضاً عائلياً قدره 15 ليرة سورية شهرياً عن كل فرد من أفراد عائلاتهم.
المادة الخامسة – الضرائب والغرامات التي تجبى من مخالفي هذا القانون تخصص للجيش الوطني العتيد.
المادة السادسة – يعمل بهذا القانون اعتباراً من أول كانون الثاني 1945.
المادة السابعة – تلغى جميع الأحكام المخالفة لهذا القانون.
المادة الثامنة – وزراء الدولة مكلفون بتنفيذ أحكام هذا القانون.
عبد الحكيم الدعاس»
ينحدر النائب الدعاس المولود عام 1912، من أسرة من ملاك الأراضي الكبار (الاقطاعيين) تقطن في مدينة جيرود الواقعة في القلمون على حواف البادية السورية، وقد تلقى تعليمه في المنزل أولاً، ثم في مكتب عنبر في دمشق. انتُخب نائباً في البرلمان السوري عن منطقة القلمون لدورة برلمانية واحدة «1943 ـ 1947». كان مساهماً في كل النقاشات التي جرت في تلك الدورة البرلمانية ولا يمكن اختزال صورته بالنائب «صديق المرأة»، كما وصفه أحدهم، فهو لم يترك قضية صغيرة أو كبيرة لم يشارك في نقاشها في تلك الدورة البرلمانية، لاسيما القضايا الوطنية الكبيرة، فعندما احتدم الخلاف بين الحكومة السورية والفرنسيين حول استلام المصالح المشتركة ومنها الجيش عام 1944، إذ ربطت فرنسا تحقيق ذلك التسليم بامتيازات ثقافية وعسكرية، ما دعا النواب الوطنيين ومنهم الدعاس إلى رفض هذه المطالب وإلى المطالبة بتشكيل جيش وطني جديد. وقف الدعاس في البرلمان قائلاً، «إننا لا نريد أن نستلم جيشاً يخدم تحت راية غير الراية السورية ويتدرب غير التدريب الذي نريده، باعتبار أنه مثل بقية المصالح أو الحوائج نحن لا نريد ذلك، وإنما نريد تشكيل جيش سوري بروحه وتدريبه، وها نحن الشباب أمامكم فشكلوا منا جيشاً ودربونا على الخدمة تحت العلم السوري، لنقوم بالواجب المفروض علينا (تصفيق)»(3)
وعند حدوث العدوان الفرنسي الشهير على البرلمان السوري عام 1945 كان أحد ثلاثة نواب ارتدوا البدلة العسكرية وانضموا إلى حامية البرلمان، وهم إضافة إلى عبد الحكيم دعاس كل من نائب دير الزور قاسم الهنيدي ونائب حماة أكرم الحوراني. وقد انضم إليهم من طلاب كلية الطب جمال الأتاسي وعبد الخالق النقشبندي. كما أنه كان منفتح الذهن فرفض دعوة المربي المعروف (ساطع الحصري) القاضية بإلغاء تدريس اللغة الأجنبية في المرحلة الابتدائية في المدارس السورية. وما زالت سوريا تعاني من آثار هذا القرار الذي اتُخذ «بحماسة وطنية « قبل أن يتم الرجوع عنه بعد عقد ضائع. وبعد خسارته الانتخابات البرلمانية عام 1947 لم يغادر الحياة العامة إنما بقي فيها فاستلم رئاسة بلدية جيرود عام 1949. واستمر نشاطه في الحياة العامة حتى دق جرس الانصراف في ستينيات القرن العشرين إذ أُحيل كل سكان الجمهورية العربية السورية إلى التقاعد السياسي المبكر ليدخل عبد الحكيم الدعاس في صمت طويل، انتهى بوفاته بصمت أيضاً عام 1993.
إذا حاولنا اختزال كل ما سبق بخطوط أساسية، كما يفعل رسام البورتريه، لقلنا في وصفه إنه كان سليل وضع اجتماعي واقتصادي محافظ، لكنه لم يكن كذلك سياسياً، فهو ضد الانتداب الفرنسي في حين أن نواب الأرياف كانوا غالباً مقربين من الانتداب الذي ساهم إلى حد كبير في صناعة وجاهتهم سياسياً واجتماعياً واقتصادياً، ليحارب النخبة السياسية المدينية بهم ضمن سياسة استخدام الأرياف ضد المدن، وهي سياسة اتبعها الفرنسيون أثناء انتدابهم على سوريا. كان مع حرية المرأة في مجتمع ريفي محافظ يكاد أن يكون بدوياً. كان معارضاً لسلطة يفترض أنها تمثله لأنها تنحدر من أثرياء المدن وملاك الأراضي. وإذا وسعنا مساحة الرؤيا لوجدنا أن «الآغا التقدمي» عبد الحكيم الدعاس لم يكن وحده في هذا الاتجاه، اتجاه الخروج من الذات الفردية ومعارضة مصالح الطبقة التي ينتمي لها من أجل مصلحة عليا، مصلحة المجتمع والوطن، بل إن ذلك كان شائعاً في الطبقة السياسية السورية، فرأينا ظاهرة «البورجوازي الأحمر» أو «المليونير الأحمر» رئيس الوزراء خالد العظم، الذي أبرم اتفاقيات واسعة مع الاتحاد السوفييتي، وكان ذلك يعتبر من المحرمات في العالم الذي ينتمي إليه. كما عرفت سوريا ظاهرة «الشيخ الأحمر» معروف الدواليبي، الشيخ المعمم الذي أدلى بتصريحات هزت السياسة الدولية.
إذ صرح عندما كان وزيراً للاقتصاد في وزارة خالد العظم عام 1950 «بأن سوريا تفضل أن تصبح جمهورية سوفييتية على أن يلتهمها الصهاينة». بالطبع لم يكن خالد العظم أو معروف الدواليبي من الشيوعيين، لكنهما اتخذا هذه المواقف، التي اعُتبرت مستغربة في العالم الذي ينتميان إليه، لاعتبارات لها علاقة بالمصلحة العليا لسوريا التي يمثلونها.
كان ذلك خروجاً من الذات الضيقة سواء كانت فردية أو اجتماعية أو اقتصادية أو سياسية، نحو آفاق أرحب لصالح فكرة الأمة والمجتمع. في حين أنه بعد عقود ستصعد ظاهرة معاكسة وهي الارتداد من الآفاق الرحبة إلى الثقوب الضيقة، نعني ارتداد الأفراد من الأمة إلى العشيرة والطائفة والعائلة وصولاً إلى الفردية التامة فشاهدنا فلاحاً يتحول إلى إقطاعي، وشيوعياً يصير منظراً للفكر الليبرالي المتوحش، ودعاة للفكر القومي يرمون مرساتهم الأخيرة في مرافئ أقلوية..
المراجع:
الجريدة الرسمية ـ جلسات محاضر البرلمان السوري – الدور التشريعي الثالث – الدورة العادية الثانية ـ الجلسة الرابعة ـ 8 مايس سنة 1944
الجريدة الرسمية ـ جلسات محاضر البرلمان السوري – الدور التشريعي الثالث – الدورة العادية الثانية – الجلسة السابع عشرة – 30 مايس 1944
الدور التشريعي الثالث -الدورة الاستثنائية الثانية للموازنة ـ الجلسة الأولى 3 كانون الثاني 1944.
كاتب سوري
القدس العربي