«قضية الغرباء»: اللجوء السوري سلعةً سينمائية/ سليم البيك
12 – أبريل – 2024
عين العطف التي ينظر بها الكثير من المتضامنين من الغرب مع قضايا منطقتنا العربية، فلسطينياً، أو لموضوع فيلمنا هذا، سورياً، قد تُعمي، عينُ العطف هذه، أعيناً أخرى يمكن أن تنظر إلى شعوبنا وتتضامن معها من دون أن يكون العطف نوعاً من فوقيةٍ استعمارية بيضاء متمثلة بسلوكٍ بكائي تجاه مآسي هذه الشعوب.
العين الاستعطافية هذه، يمكن أن تمرّ من خلال حملات إنسانية أو حقوقية، تفي بغرضها المحدَّد، لكن ليس بعمل فنّي يتطلّب إدراكاً بحدود أدنى لموضوعه، ويحتاج إلى مكاشفة أعمق مما يمكن أن يكتفي به توزيع سلال غذائية مثلاً، لعائلات بعينها.
هذا كان حال فيلم «قضية غرباء» (The Strangers› Case) للأمريكي براندت أندرسن، المعروف بكونه ناشطاً، أخرج فيلماً قصيراً نال نجاحاً فحوّله إلى هذا الفيلم الروائي الطويل، المشارك في مهرجان برلين السينمائي ضمن «العروض الخاصة».
بأسلوب سردي ممتع، من خلال فصول لكل منها اسم إحدى الشخصيات وقصتها، تتقاطع القصص وتتكامل ليَخرج الفيلم أخيراً بسياق واحد يحوم حول عائلة سورية تحاول الهرب من حلب إلى الولايات المتحدة بطرق غير نظامية. هذا الأسلوب السينمائي المستوحى من الأدب، والحاضر في العديد من الأفلام، إلى جانب النية الحسنة لصانع الفيلم، كما نفترضها، لم يُخرجا الفيلم من تنميط أبيض «ينظر بعين العطف» بحدّه الأقصى، إلى هؤلاء «المساكين». يبدأ الفيلم بصور واسعة لأمريكا وعمرانها، وتنتهي بأمريكا كذلك، بعدما تمكنت العائلة من الوصول إلى «أرض الأحلام». ما بين المشهدين تتبين المأساة، من عنف النظام السوري وإعداماته الميدانية، إلى عصابات التهريب في تركيا. مآسٍ تتلاحق على الشخصيات، وهي لأكثر من عائلة، تنتهي، المآسي، حين يصلون إلى يدي الرجل الأبيض، المخلِّصتَين، حين يغطس شرطي السواحل اليوناني لإنقاذ من سقط من القارب الصغير، في مشهد هوليوودي تام، حيث الفرد البطل ينقذ الجماعة العاجزة. الأول عطوف يلعب الكرة مع ابنه ويسأل عن عدد الأرواح التي أنقذها مع رفيقه، على طاولة الغداء، والآخرون أرواح شريدة وكائنات بائسة هاربة من كوارث، سيتلقّفها العالَمُ الغربي، بدءاً من اليونان وصولاً إلى «أرض الأحلام».
الفيلم أقرب إلى تقرير حقوقي لمؤسسة أوروبية أو أمريكية، لا تخلو عباراته/مشاهده من لذة التفوق الإنساني والأخلاقي في تغطية اللاجئين وإطعامهم بعد إنقاذهم، في تغييب تام، في الفيلم، لأي إشارة إلى الدور المحوري لهذا المجتمع، لأنظمته الحاكمة، في توليد المأساة في سوريا واستدامتها. فالصراع هناك، بالنسبة للناشط الأبيض المتمتّع بميزات هي استعمارية في النهاية، محصور بتعقيدات دينية وعرقية في بلدان لم تعرف إلا الحروب. ومشهد للأذان مرفوعاً مع لقطات الدمار والحروب، تقديم نموذجيّ لذلك. الأمر أشبه بما نراه اليوم من الدعم الأمريكي الشامل لإسرائيل من ناحية، وإنزال سلال غذائية إلى الغزيين بالمظلات، في عمل، كما هو الفيلم، استعراضي لإظهار نية حسنة لا تفيد سوى سد حاجات «ضميرية» أو «أخلاقية» لأصحابها، تجاه أنفسها لا تجاه الآخرين.
لو أن الصورة في الفيلم، الهوليوودية، الاستهلاكية بالتالي، المأخوذة ببعدها الأول وحسب، لو أنها لم تكن بالتبسيط الذي أظهر أشراراً هم عناصر النظام، يمارسون الفضائع بمدنيين هم العائلة الحلبية، فيلجأ هؤلاء إلى العالم الغربي المنقذ الحتمي، بقفزةٍ سِيركِيّة للشرطي اليوناني، ثم العناية الفائقة حتى الوصول والعمل في مستشفى أمريكي، لو لم تكن الصورة بالتبسيط الفج هذا، كأننا أمام فيلم آخر من «حرب النجوم» لاستساغ أحدنا النية الحسنة لناشط أمريكي أراد، بسذاجة، أن يعبّر عن تضامنه مع اللاجئين السوريين وأن يكشف، أكثر، توحّش عناصر النّظام، مهما كانت مواقعهم، لكن دائماً العمل الفني يجب أن لا يكتفي ببساطة العمل الإنساني. أوروبا، وإن كانت أرضاً للخلاص، وأمريكا أرضاً للأحلام، تبقى في الفيلم للاجئين حدود لا يمكنهم تخطيها. يبقون تحت سقف العطف، المادة المدرّة للدموع، كما أظهرها الفيلم، حتى في لحظة النجاح، في المشاهد الأخيرة، حين نكتشف أن الطبيبة الحلبية التي تعمل في المستشفى الأمريكي، أنها عاملة تنظيف هناك، ولمزيد من الابتذال، نجدها تلفت نظر الطبيب الأمريكي إلى نقطة سوداء في صورة أشعة لأحد المرضى لم يلتفت هو إليها.
هذه الميلودراما لم تكن هوليوودية وحسب، في تصوير طبيعة العلاقة بين الأسمر والأبيض، بين العربي والأوروبي/الأمريكي، بل تخطتها إلى البوليوودية في مشهد يتواجه فيه جندي سوري مع أبيه الناشط في فريق الخوَذ البيضاء، يتصارخان كأنهما على مسرح، ويرفع الولد مسدسه في وجه أبيه الغاضب. استعراضٌ كتابيّ وإخراجيّ وتمثيليّ يمكن لوحده أن يكون الشريط الترويجي لفيلم كهذا، وبمستواه.
يمكن للفيلم أن يسدّ حاجة في الغرب، أفراداً ومؤسسات، ممن يبحثون عن تثبيط للهمم واكتفاء ورضى بما قدّموه للاجئين السوريين، ليكون، أخيراً، بغايات أنانية إذ لا يكون التضامن مجدياً لدى المتضامَن معه، بقدر ما يكون كذلك لدى المتضامنين أنفسهم، بذلك يكون السوري (والعراقي والفلسطيني وغيرهم) موضوعاً إنسانياً يستجدي كرماً أخلاقياً لدى المستعمِر، لا موضوعاً سياسياً للمستعمِر اليد الطولى في التسبّب به واستمراره.
الفيلم، أخيراً، بيان سياسي يتلبّس الخطاب الحقوقي، وهو ابتذال سينمائي جعل من المأساة السورية سلعة تتداولها ضمائر الناظرين بعين العطف، تلبي حاجةً أخلاقية عندهم يكتفون بها، كأن لا مأساة مستمرة في سوريا ما لم تتعكّر تلك الضمائر المرتاحة.
كاتب فلسطيني/ سوري
القدس العربي