منوعات

سنة أولى فيسبوك/ سلمان عز الدين

بقيت لسنوات طويلة عازفًا عن إنشاء حساب لي على فيسبوك. ولطالما تفاخرت بأنني سأموت قبل أن أدخل هذا العالم المليء بالصخب المشتت للانتباه.

غير أن حيلة بارعة من صديقي رائد وحش، الشاعر والصحفي ومسؤول التحرير في “ألترا صوت”، سرعان ما ألقت بي في هذا اليم الأزرق الفسيح. اتصل بي زاعمًا أنه ينقل لي عتبًا شديدًا من إدارة الموقع التي “لاحظت باهتمام غيابي عن كل مواقع السوشال ميديا”، وألمح إلى أن “الشباب محرجون إذ كيف سيعتمدونك محررًا في ألترا وأنت خارج التغطية هكذا؟!”. وإضافة إلى حرصي على “لقمة العيش” فقد دغدغ كلامه غروري وأشعرني بالامتنان لأولئك الذين اهتموا لغيابي، فقررت ببساطة أن أكافئهم بحضوري. وتورطت.

لا أستطيع، بصراحة، القول إنني ندمت، فقد وجدت هنا، في رحاب الفيسبوك، أصدقاء ظرفاء، ودودين ومجاملين، وقرأت تعليقات كثيرة ذكية وشاهدت مقاطع مضحكة ومسلية، كما أنني تابعت قصصًا محزنة ومرعبة كان يجب علي معرفتها على أي حال.

ورغم ذلك فلا أزال أشعر بالغربة، وأشعر بالعجز عن المواكبة. وكنت أظن أن الفيسبوك يتيح إبداء الرأي وإذا بي أكتشف أنه يطلب إبداء الرأي، مصمم أصلًا من أجل إبداء الرأي، ويقسر على ذلك أحيانًا، ولا سيما مع وجود أصدقاء كثر يحملون جدول تفقد يومي والغياب ممنوع تحت أي عذر.

ويحلو لكثيرين القول إن الفيسبوك ميدان للديمقراطية، وهذا صحيح على الأرجح، ولكن لا مكان هنا للديمقراطية التمثيلية، فنحن لا ننتخب من نراهم الأكفأ والأقدر على تمثيلنا والنيابة عنا في مناقشة القضايا المطروحة. هنا نحن نمارس الديمقراطية على طريقة أثينا القديمة، فنحضر كلنا ونناقش جميعًا كل شيء وأي شيء، من تعرض سقراط للآلهة إلى شجار بين صديقين في جلسة لم نحضرها على مقهى لا نعرفه وحول موضوع لم يخبرانا ما هو بالضبط.

وكيف لي أن أبدي رأيي بعشرين ثلاثين قضية في اليوم، تتوزع على السياسة والاقتصاد والفن والشعر والحياة الزوجية وعلم الطاقة وتنبؤات ليلى عبد اللطيف.. وأنا بالكاد أستطيع إبداء رأيي كل أسبوع مرة، وبعد كثير من التأتأة والهمهمة والـ “لكن” والـ “ربما” والـ “لعل”؟.

وما يزيد من صعوبة الأمر أن الأحداث في العالم الافتراضي مختلفة تمامًا عن العالم الواقعي (عالمي الأثير الذي عشت فيه طيلة العقود الخمسة الماضية).

ففي عالم السوشال ميديا فقط يمكن لإعلان سلاف فواخرجي رأيها بسقوط النظام السوري أن يصبح حدثًا. منذ عشرين، ثلاثين، سنة لم يكن هذا قابلًا للتصور. تخيلوا أن تأتي وكالة أنباء بهذا الخبر العاجل: “سلاف فواخرجي تعلن استنكارها لتغيير النظام في سوريا”، أو أن يتصدر هذا العنوان الصفحة الأولى من جريدة يومية: “سلاف فواخرجي تعرب عن قلقها إزاء فرار بشار الأسد”. لا يمكن طبعًا. لم يكن ممكنًا.

وعلى الفيسبوك لا يغدو رأي سلاف بالحدث هو الحدث وحسب، بل وآراء الآخرين برأيها تغدو هي أيضًا أحداثًا. وإذا كان لنا أن ننشغل برأي سلاف ببشار الأسد، فلم لا ننشغل برأي باسم ياخور برأي سلاف ببشار الأسد.. وهكذا في سلسلة لا تنتهي من الآراء التي سرعان ما تغدو تريندات يومية.

وبمناسبة الحديث عن سلاف فواخرجي، أظن أن المسألة ليست فيها هي، فالممثلة الحلوة لم يعرف عنها يومًا أنها تمتلك ثقافة سياسية عالية، أو حسًا أخلاقيًا رفيعًا، أو بعد نظر وحسن تقدير، وهي ليست إدوارد سعيد في النهاية. وحتى في سياق معاركها الفنية وشجاراتها الشخصية فإنها أبدت الكثير من التسرع والنزق، فكانت تغضب ثلاثة أو أربعة من محيطها، بينهم زوجها السابق غالبًا، كلما فتحت فمها بتصريح ما.

المسألة حسب ظني في الفيسبوك نفسه، وفينا نحن. أو بدقة أكثر: فينا ونحن على الفيسبوك. فما دامت شهيتنا مفتوحة هكذا على إبداء الرأي فسيجد الكثيرون فرصة لإشباع شهيتهم المفتوحة على صناعة الـ “تريند”، وإذا بشخصية مثل سلاف فواخرجي تصبح ظاهرة وإذا برأيها يغدو حدثًا.

وأصارحكم بأن ليس هذا ما يشغلني الآن. إذ لا أزال حائرًا في السبب الذي دفع رائد وحش لخداعي. هل أراد عن محبة أن يجعلني مواكبًا وسائرًا في ركاب العصر، أم أنه انطلق من ضغينة وحسد خفي إذ رآني الناجي الوحيد من جحيم إبداء الرأي على مدار الساعة؟.

الترا سوريا

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى