“بلاد لا تشبه الأحلام”/ بشير البكر (مقتطف)

تحديث 13 أذار 2025
يتردّد كثيرًا أنّ براري الجزيرة السورية بقيتْ مأهولةً بالحيوانات الأليفة والمتوحّشة، وإلى وقتٍ قريبٍ، في الطفولة طاردنا أصنافًا من الغزلان والمها والأرانب والثعالب، ورأينا الذئاب والضباع والقطط البرية.
بقيتُ أتبعها بنظري وهي تتجه شرقًا، حتّى اختفتْ وراء خطّ الأفق، وصارتْ غيمةً بيضاءَ، جالسةً فوق قمّة الجبل في هيئة حمامةٍ، تنظر باتجاهي من بعيدٍ.
لا تتعوّذ بالله من الشيطان الرجيم أمام اليزيدي، قد يسحب خنجره، ويهجم عليكَ. لا تتحدّث عن الطاووس بسوءٍ. لا تلعب مع أولاد اليزيدية، أو تأكل من طعامهم. انتبه، حاول حين تقف مع اليزيدي أن ترسم حوله دائرة. يمكن لكَ أن تحبسه فيها، لا يخرج منها إذا لم تفتح له مخرجًا. انظر، هو لا يلبس قميصًا بفتحةٍ عاديّةٍ، بل مستطيلة أو مربّعة. حذِر جدًا، لا يعيش بين الناس، بل يسكن الجبال العالية، لا يُصادق غير أبناء جنسه. هادئ جدًا، لكنّه شرس مثل ذئب الثلوج الأبيض الذي تفيض الوداعة من عينيه، على غير طبيعته الأصليّة.
لم أكن قد رأيتُ طاووسًا بعد، تذكّرتُ تلك الطفلة التي وجدتها قرب البئر تملأ براميل الماء وحدها، أطلق عليها والدها اسم طاووس، حينما قابلتها للمرّة الأولى، وجدتها مثل لعبةٍ، بيضاء كالثلج مزركشةٍ بألوانٍ زاهيةٍ، كأنّها خارجة من حلمٍ مسكونٍ بالألوان. سألتُها عن اسم قريتها، قالت:
– جنّة.
– أنتِ من الجنّة.
صمتتْ وظلّتْ تنظر نحوي بعينَيْن واسعتَيْن بالدمع. ربّما أصابتْها حالة من العطف تجاهي، وأنا في ذلك القيظ الشديد بشعري الأشعث، وحماري العالي، المدعوّ الشهري. يقولون إنّه يُولد من جماع الحمارة مع البغل، قريب النغل إذن، الذي يُولد من جماع الحصان مع البغلة، لكنّه ليس في قوّته وذكائه.
تكبرني قليلًا، لذلك أخذتْ بيدي لأعتلي ظهر الشهري، وعندما ودّعتُها وجدتُ عينَيّ تُغمضان على نحوٍ تلقائيّ، وتدمعان ملوحةً قويّةً، كأنّ بردًا شديدًا صفعني، وأنا أخرج من مكانٍ شديد الدفء. لاحقًا، وبعد زمنٍ طويلٍ خمّنتُ سبب تلك الحالة. يبدو أنّي أغمضتُ عينيّ بقوّةٍ على صورتها، وحين فتحتُهما كانتْ قد غادرتْ على ظهر الرهوان، مسرعةً في اتجاه جبل سنجار.
بقيتُ أتبعها بنظري وهي تتجه شرقًا، حتّى اختفتْ وراء خطّ الأفق، وصارتْ غيمةً بيضاءَ، جالسةً فوق قمّة الجبل في هيئة حمامةٍ، تنظر باتجاهي من بعيدٍ.
لم يكن منامًا، بل حصل أنّي حاولتُ حبس صورتها، كلّما عادتْ في شريط الوقت المفقود، تسقط دمعة مالحة حارّة، كناية عن عزاءٍ لحلمٍ مرَّ كالبرق. ولا أدري لماذا بقيتُ أفكّر في أنّها ربّما رحلتْ خطيفة مع أحدهم، لأنّ أهلها رفضوا زواجها به، أو أنّها غطست في الثلج، وصارتْ عينَ ماءٍ.
أخبرتُ والدتي بالأمر. قالتْ لي بأنّها جنيّة من بنات الشيطان، في وسعها أن تسحركَ، وتُجبركَ على أن تتبعها، تقتفي أثرها. لا يهدأ لكَ بال، ولا يأنس لكَ مكان إذا لم ترها. وذهلتْ حين عرفتْ أنّ اسمها طاووس. قالتْ إنّ والدها أنزل عليها اللعنةَ حين سمّاها بهذا الاسم. من جانبي، خمّنتُ أنّ هناك سرًّا وراء هذا الاسم الرنّان، وتبيّن لي صدق ظنّي حينما شاهدتُ الطاووس للمرّة الأولى في حديقة دار محافظ الحسكة، الواسعة القريبة من نهر الخابور، التي بناها الفرنسيون من عدّة طوابق، وصار اسمها السراي، كما كان شائعًا بالتركية لمقرّ الحاكم.
طيور وحيوانات تسرح في حديقة دار المحافظة، منها الغزال البري، الذي يعيش في مناطق الجزيرة، ويأتي فيلمون وهبي وكميل شمعون ونزيه أبو عفش، ليصطادوه. عصافير بأصواتٍ وألوانٍ كثيرةٍ، دجاج وديكة، الديك الرومي الضخم، أو الحبش ذو الحلق الأحمر المتدلّي حتّى يقترب من الأرض. ووسط هذا الجمع طائران بألوانٍ وأحجامٍ مختلفةٍ. واضحٌ أنّ أحدهما ذكر والآخر أنثى، وللنظر إليهما وقع يختلف عن بقيّة الطيور الأخرى.
غياث ابن المحافظ صديقي في المدرسة، دعاني للفرجة عن كثبٍ. قال لي: «هذا الطائر هو الطاووس». وقد ذهب تفكيري مباشرةً نحو تلك الصبية. ألوانه الزاهية، قامته، عنقه، ذيله الطويل، حركات الريش، النظرات، تحريك العنق. أدركتُ أنّ الوالد أراد للصبية أن تكون هذا الطائر، الذي يجعلنا نحلم حين نقف أمامه.

أمّي تترنّم بأغنيةٍ وهي تعجن، وتضع مقادير الخميرة. أُغافلها وأردّد الكلمات «كلما تنام الضواري، بيغو يصحيها». يصرخ أخي الصغير، كأنّه تعرّض للسعة عقربٍ أسودَ، من ذاك الذي كان منتشرًا بكثرةٍ في تلك الديار العامرة بالحيوانات القاتلة. يبدو أنّ الولد أجفل من صوتي، لا يُريد سوى أغنية الأمّ.
يتردّد كثيرًا أنّ براري الجزيرة السورية بقيتْ مأهولةً بالحيوانات الأليفة والمتوحّشة، وإلى وقتٍ قريبٍ، في الطفولة طاردنا أصنافًا من الغزلان والمها والأرانب والثعالب، ورأينا الذئاب والضباع والقطط البرية. لم نتعرّف إلى الأسود والنمور وغيرها من أصناف الضواري. وحين تجوّلت، وأنا فتى، بصحبة والدي يومين متتاليين في تلك المناطق على ظهور الخيل، صادفنا مجموعاتٍ صغيرةً من الذئاب تظهر وتختفي، ولكنّها لم تُهاجمنا لكثرةِ عدد الكلاب التي رافقتْنا.
حينما بدأتُ قراءة قصص الأطفال صارت الضواري ترتبط بالديناصورات. وهذه يسمّيها الأهل «الهوام». يعنون حيواناتٍ خرافيّةً. يكثُر الحديث عنها في المرويات الشفوية الدارجة. ويظنّ الأب العارف بجغرافيّة البادية وحياتها أنّ الهوام ابتعدتْ تدريجيًّا بالتوازي مع بدء الحديد بالوصول، وقصدتْ مناطق لا يصلها البشر، ثمّ اختفتْ. ولم يبقَ سوى صغار الحيوانات. لكن يصعب الخروج إلى البراري من دون بارودةٍ أو خنجرٍ. الذئاب لا تقترب حينما تُدرك أنّ المرءَ مسلّح بسلاحٍ حديديٍّ أو ناريٍّ. امتحنتُ مدى صدق هذه النظرية أكثر من مرّة، لوّحتُ بالسلاح للذئب الجائع، وهو يتربّص بقطيع الغنم، لكنّه لم يتحرّك من مكانه، لم يهرب، بقي يحدّق بي، ليس عن جوعٍ فقط، بل عن فراسةٍ صحراويّةٍ، وفطنة الحيوان المتمرّس. المسافة بيننا لم تكن بعيدةً، وحينما هممتُ بأن أطلق عليه النار، منعني الراعي حميدي ابن نشمية، العارف بشؤون البادية. لا تُوجّه سلاحكَ للحيوان، إذا لم يهاجمكَ. شرح لي أنّ استفزاز الذئاب في الصحراء أمر خطير، لأنّه يجعلها تعوي، توجّه نداء استغاثة، تدعو الأشقاء للاجتماع.
تقول الأغنية إنّ «بيغو» هو الذي تمكّن من قهر الضواري. دفع جماعاتٍ كثيرةً منها إلى الموت. هذا الرجل اليزيدي من جبل سنجار، حيث عاشتْ طائفة اليزيدية، وتحصّنتْ في الأعالي الوعرة، كي تحمي نفسها، كان عليها أن تحرس الطرقات المؤدّية إليه من جانبي الحسكة والموصل. يبدو أنّ الخطر الذي كانت تحسّه الطائفة وتعيشه، يأتي من جهة الحسكة وبواديها. فالموصل مدينة زراعيّة قديمة نهريّة متطوّرة عرفت القانون والنظام والتعايش بين المكوّنات الطائفية. بينما تعيش القبائل الرعويّة في سهول محافظة الحسكة، وينفّذ بعضها غاراتٍ على اليزيديين في جبل سنجار، من أجل سلب الدوّاب والمحاصيل الزراعية، وحتّى سبي النساء.
تصدر قريبا عن دار نوفل / هاشيت أنطوان السيرة الروائية “بلاد لا تشبه الأحلام” للكاتب السوري بشير البكر، يسرد فيها فصولا لحكاية مسافر اكتشف بعد رحلة طويلة أن البلاد لا تشبه الأحلام. قد تكون أعلى قامة، أو على العكس ، أقرب إلى الكوابيس.