صفحات ثقافية

15 شاعراً أمريكياً في 15 مجلداً ينقلون في معظمهم إلى العربية للمرة الأولى سامر أبو هوّاش يقدّم مشروعاً متكاملاً يستكمل الترجمات الشعرية الأساسية في العالم العربي

null
ناظم السيد
بيروت- ‘القدس العربي’ خمسة عشر مجلداً نقلها إلى العربية الشاعر الفلسطيني سامر أبو هوّاش (صدرت عن ‘كلمة’ و’منشورات الجمل’). خمسة عشر مجلداً لخمسة عشر شاعرة وشاعراً أمريكياً صدرت دفعة واحدة، وكل مجلد يحتوي على مختارات للشعراء المترجمين. ترجمة يمكن أن نعدَّها الأشمل والأغزر بين الترجمات الشعرية الأخيرة إلى العربية. هي مشروع متكامل أكثر منها ترجمة، سواء نظرنا إليها من ناحية تخصصها بشعراء وشاعرات من بلد واحد، أم من حيث تنوّع هذه الأسماء في الأساليب، أم من حيث شمول هذه الترجمة على مختارات لكل شاعر وعدم الاقتصار على عمل واحد له. بهذا المعنى فإنَّ جهد أبو هوّاش يمكن أن يُقارن بالجهد الذي بذله مترجمون وشعراء وكتّاب سابقون من أمثال جبرا إبراهيم جبرا ويوسف الخال وتوفيق صايغ في الأدب المكتوب بالإنكليزية (الأمريكي والبريطاني) أو عبد الرحمن بدوي وفؤاد رفقة في الأدب الألماني، إضافة إلى ترجمات أدونيس الفرنسية، لبيرس على وجه الخصوص، وترجمات سعدي يوسف لشعراء من بلدان عديدة وأساليب متنوعة. لنقل إن أبا هوّاش يكمل من حيث توقف أولئك الأوائل (كذلك ترجم أبو هوّاش رواية ‘على الطريق’ لجاك كرواك، وثلاثة مجلدات لوليام فوكنر عن الأدب الأمريكي، ورواية ‘بوذا الضواحي’ للروائي البريطاني من أصل باكستاني حنيف قريشي). هذه التكملة- إذا صحَّ الوصف- ليست مجازية وإنما هي واقع، إذا أخذنا في الاعتبار أن هذه الترجمات تكاد تكون محصورة بالشعر الأمريكي ما بعد الحرب العالمية الثانية مع بعض الاستثناءات طبعاً. إذا كان شعراء أمريكيون أمثال والت ويتمان وإليوت وأزرا باوند ووليم كارلوس وليمز ووالاس ستيفنز وروبرت فروست نقلوا إلى العربية منذ الخمسينات والستينات، فإن ترجمة الشعر الأمريكي انحسرت لاحقاً، ربما بسبب السياسات الأمريكية المتبعة تجاه المنطقة والتي راحت تعنف تدريجياً. أحسب أن ترجمة الشعر الأمريكي إلى العربية تأثرت بالسياسات الأمريكية مثلما أن ترجمة شعراء شيوعيين أو ثوريين راجت في العربية أيام المد اليساري في الخمسينات والستينات أمثال ناظم حكمت وبابلو نيرودا ولوركا وريتسوس. قد تكون التأثيرات الإنكليزية ظاهرة في التجارب المصرية في عشرينات وثلاثينات القرن العشرين وكذلك في العراق، ولا سيما لدى الشعراء الرومانسيين إذ إن تلك التأثيرات استلهمت مذاهب واتجاهات ما بعد الكلاسيكية من رومانسية مع تأثرات فردية بالسوريالية، كما راجت التأثيرات الفرنسية في الشعر اللبناني (من الرمزيين إلى شعراء اللعنة)، لكنَّ الشعر الأمريكي لم يكن له أثر كبير في التجارب العربية باستثناء تجارب فردية في مرحلة الثمانينات بعدما راجت القصيدة اليومية، وإن كانت هذه القصيدة غلبت في أوروبا أيضاً وليس في الولايات المتحدة الأمريكية (لا تفوتنا الإشارة إلى تأثر بدر شاكر السيّاب ببعض الشعراء الأمريكيين وعلى رأسهم إليوت، وكذلك تأثر توفيق صايغ بالشعر الأمريكي ولا سيما الأبعاد الإنجيلية في هذا الشعر). وعليه، فإن مصطلح الشعر الأمريكي في سياق هذا المقال معني بالشعر الذي أنتج في الولايات المتحدة الأمريكية وليس في القارة الأمريكية ككل. والحال، فإن أبا هوّاش نقل إلى العربية شعراء يُنقلون إليها للمرة الأولى بحسب علمي، باستثناء تشارلز بوكوفسكي وسلفيا بلاث وبضعة قصائد لتيودور رتكي ترجمها توفيق صايغ في كتابه ’50 قصيدة من الشعر الأمريكي المعاصر’، وكذلك فلورنس أنطوني المشهورة باسم آي، والتي ترجم لها بعض النماذج أكرم قطريب ضمن ‘ديوان الشعر الأمريكي الجديد’.

قوة الحياة، قوة الشعر

أبدأ مقالتي هذه بتشارلز بوكوفسكي التي كانت مختاراته هذه أول كتاب قرأته من بين الخمسة عشر كتاباً. نقل المترجم للشاعر قصائد من المجموعات ‘الاحتراق في المياه، الغرق في النار: قصائد مختارة’، ‘الأيام تعدو هاربة كجياد جامحة على التلال’، ‘الحب كلب من الجحيم’، ‘الليلة الأخيرة على كوكب الأرض’، و’أكثر ما يهم مهارتك في عبور النيران’. في هذه المختارات يمكن للقارئ العربي التعرّف إلى واحد من أبرز شعراء الولايات المتحدة الأمريكية. يمكن أن نتعرّف إلى شعر ‘الأندرغراوند’، بحسب المترجم، هذا الشعر الذي كتبه بوكوفسكي، المولود في ألمانيا لأب أمريكي وأم ألمانية (والده كان جندياً في صفوف القوات الأمريكية التي كانت في ألمانيا)، الشعر المستمد من العيش وسط العالم السفلي، مع عاهرات وقطاع طرق ومتسوّلين وعجائز وذوي احتياجات خاصة وسكارى، شعر مكتوب في فنادق رخيصة ومكاتب بريد ومطابخ المطاعم والشاحنات حيث عمل الشاعر. لنقل إن شعرية بوكوفسكي مستمدة من قوة الحياة نفسها. شعر قوي بقدر قوة الحياة. صياغات شفهية، صياغة حارة، جمل بالغة النثر، حوارات واستطرادات وشروحات داخل النص، ربما بسبب استفادة الشاعر من تجربته الطويلة في كتابة القصة والمسرح. ليس من مسافة بين قصائد بوكوفسكي وبين حياته، هو الذي عانى من عنف الأب بعدما تحوّل هذا الأخير إلى مدمن كحول إثر الأزمة الاقتصادية الكبرى في الولايات المتحدة الأمريكية في نهاية العشرينات من القرن العشرين. هذا العنف سيظل يطارد الابن في شعره وفي حياته، الأمر الذي دفع به إلى الانتماء إلى المسحوقين، أولئك الواقعين تحت عنف مشابه أو مختلف. إذاً، سنكتشف في قصائد بوكوفسكي، تلك الروح الأمريكية من حيث العيش، وتلك الشعرية التي شكلت ملامح مرحلة كاملة في الشعر الأمريكي، أي الشعر اليومي وشعر الهامش وشعر الواقع الذي يدير ظهره لأي نوع من أنواع الميثولوجيا أو الميتافيزيق، أي الشعر الذي شكل انقلاباً على تنظيرات إليوت وجيله، شعر كما لدى ‘جيل البيت’ (الجيل الهامشي) يحتفل بالحياة، هذه القصيدة الطويلة: ‘لا شيء أروع/ من الارتماء على فراش/ مع أحلام رخيصة وزجاجة جعة/ بينما العشب يموت والجياد تموت/ ومالكات الشقق في الممرات،/ فوران موسيقى الظلال المسحوبة،/ كهف رجل أخير/ في أبدية الجلبة/ والانفجارات،/ ليس سوى المغسلة التي تنقّط،/ الزجاجة الفارغة،/ الخفة،/ الشباب المحجوز،/ مطعون وحليق،/ الكلمات المعلمة/ مرفوعة إلى الأعلى/ لتموت’.
تحت عنوان ‘صيف يغفو في جلده’ ترجم أبو هوّاش مختارات من الأعمال الشعرية الكاملة للشاعر تيودور رتكي. شاعر آخر يقدّم صورة عن الشعر الأمريكي، لكنها صورة مناقضة لشعر بوكوفسكي اللاحق عليه. رتكي الذي كتب الشعر بين الحربين العالميتين وبعد الحرب العالمية الثانية (توفي سنة 1963)، يبدو وريث الشعرية الأمريكية السابقة من ويتمان وإليوت، إضافة إلى تأثيرات شعراء أوروبيين أمثال دانتي وودزورث وآخرين. في شعر رتكي مزيج من الميتافيزيق والطبيعة ‘وميراث الحكمة والأمثال والنوادر والحكايات’. لكنَّ أكثر ما يمكن أن يلمسه القارئ في هذه المختارات ترنّح الجمل والشطحات وعنف اللغة (من حيث التركيب والتفكيك وحدة الصورة) ربما بسبب إدمان الشاعر على الكحول وإصابته بنوبات من الكآبة والجنون (رغم أنه كان أستاذاً للأدب الإنكليزي في عدد من الجامعات الأمريكية): ‘عالياً تصرخ أسراري/ وليس من حاجة بي إلى لسان./ قلبي منزل مفتوح/ وأبوابي مشرّعة تتأرجح./ ملحمة للعين يا حبي،/ ومن غير قناع./ حقائقي الحدس/ هذا العذاب المبدي ذاته بذاته./ إنني عار حتى العظام،/ والعري درعي./ وليست إلا ذاتي/ ما أتدثر به:/ أما روحي/ فأدّخرها./ سيدوم الغضب،/ وستكون المأثرة كلام الحقيقة/ بلغة نقية صافية./ أكبح الفم الكاذب:/ أنقى صرخاتي تحولها ثورة الغضب/ عذاباً معتوهاً’.

ثلاث مطلقات

تدور تجربة لويز غليك حول الفقدان، الخسارة، الموت، الرحيل، الغياب، الخيانة، العودة. وربما ساهم طلاقها في تكثيف هذه المعاني، إذ إن شعرها مزيج من السيرة الذاتية، واليوميات، والواقع، ومن الميتافيزيقي والأسطوري، ولا سيما أنها توظف في قصائدها أساطير قديمة مثل شخصيات عوليس وبنيلوب والساحرة تسيريس من ‘الأوذيسة’. في هذه المختارات التي أخذها المترجم عن ‘المجموعات الشعرية الأربع الأولى’ (‘البكر’، ‘البيت في مارشلاند’، ‘الحديقة’، و’وجه يدنو’)، إضافة إلى ‘أرارات’، ‘القزحية المتوحشة’، و’المروج’، في هذه المختارات نستطيع أن نتتبع هذه المضامين الشعرية عبر لغة بسيطة، واضحة. لغة تومئ وتشير أكثر مما تصرّح. لغة يمكن أن نلمسها بتقديم الشاعر أسلوبها الشعري بالقول: ‘ما يجذبني هو المضمر، الذي لا يُقال، الإيحاء، الصمت المتعمّد البليغ. ما لا يُقال في القصيدة يضمر قوة أكبر. غالباً ما أتمنى أن تصنع قصيدة كاملة من هذا التعبير، أي ما لا يُقال، فهو يوازي غير المرئي مثلاً، قوة المخرَّب، العمل الفني الذي لحق به بعض الخراب أو الذي ليس بكامل.’. على هذا الأسلوب الذي يعتمد البساطة والتلميح واستثمار الفراغ أو استخدام تقنية المونتاج أورد قصيدة ‘الرسائل’ من المختارات: ‘ليل لآخر مرة/ للمرة الأخيرة تمرُّ/ يداك على جسدي/ غداً خريف./ سنجلس معاً على الشرفة/ وننظر إلى الوريقات التي يبست/ تحملها الرياح في سماء القرية/ كالرسائل التي سنحرقها،/ واحدة بعد الأخرى، كل في منزله./ كم ساكنة هذه الليلة./ وحده صوتك يتمتم:/ إنك مبللة، تريدين ذلك/ والطفل في الداخل/ نائم كأنما لم يولد بعد./ صباحاً، الخريف./ سنمشي معاً في الحديقة الصغيرة/ بين المقاعد الحجرية والشجيرات/ التي يغلفها الضباب،/ كأثاث هجر من زمن بعيد./ أنظر كيف أوراق الشجر ترتفع في العتمة./ لقد أحرقنا/ كل ما كتبناه عليها’.
قريباً إلى لويز غليك، تحديداً من ناحية الطلاق وكتابة الشخصي والحميم، تكتب كيم أدونيزيو، أحدث شاعرات وشعراء هذه الترجمات من حيث السن. في هذه المختارات بعنوان ‘خاسران على الناصية’ المأخوذة من مجموعاتها ‘نادي الفلاسفة’، ‘قل لي’، و’ما هذا الشيء الذي اسمه الحب’، تكتب الشاعرة الشعر الاعترافي الذي يستمد مادته الأساسية من حياتها. إنها امرأة مهجورة ولا تتردد في التعبير عن هذا الهجران، عن ندمها على الطلاق، عن حنينها إلى زوجها السابق، عن علاقاتها الجديدة العابرة: ‘حين أدخل إلى حانة ما/ يقدّم لي الرجال الشراب قبل أن أبلغ المشرب/ يقعون في غرامي بعد ليلة واحدة/ حتى من دون لمس/ أؤكد لك، لقد حوّلت هذا الهواء إلى علم./ يتعرّفون من ذكراي/ بينما يجلسون وحيدين في غرف رخيصة/ وحين يسمعون التأوهات عبر الجدار/ يتساءلون ما إذا كان هذا صوتي،/ ويوقّتون صرخات عذاباتهم مع مرور القطار./ لكنني أكون على بعد ولايتين منهم،/ مضطجعة مع فتى/ أدعه يحتسي المطر من نبض عنقي./ لا أحد يجرؤ على هجراني، أنا التي تختار،/ أظهر فجأة كورقة مال على الرصيف.’. لكن قبل الانتقال إلى دوريان لوكس، لا بدَّ من الإشارة إلى تلك المدينية التي تسم شعر أدونيزيو. ‘العلاقات المدينية تتجاوز المكان غالباً، إلى المجال التعبيري سواء بين البشر أم بين كل إنسان وذاته. هذا البعد المديني يُترجم على مستوى اللغة، من المفردة إلى تركيب العبارة، الذي تختلط فيه الثرثرة المجانية بالاختزال، بمعنى المنطق الاختزالي العقلاني، الذي لا يراعي الجماليات البلاغية كثيراً، ويقفز منها إلى العبير البسيط، المباشر، والواقعي’.
دوريان لوكس تتشابه من حيث السيرة الحياتية مع لويز غليك وكيم أدونيزيو، أي الزواج فالطلاق فالوحدة. لكنَّ هذا التشابه الحياتي لا يعني بالضرورة تشابهاً في الحساسية واللغة والتوجّه. أحسب أن لوكس أقرب إلى عوالم تشارلز بوكوفسكي. هي مثله عاشت مآسي شخصية بدءاً بقسوة العائلة وعنفها، ثم عملها في عدد من المهن (عاملة في محطة بنزين، عاملة في مغسل، طبّاخة، مدبرة منزل، خادمة، موظفة في مخبز، بائعة اشتراكات في دليل تلفزيوني…)، ويُضاف إلى هذا كله زواجها وطلاقها وعيشها بمفردها. هذه الخبرات الحياتية تضعها لوكس في خدمة القصيدة التي تخرج معها من هذا المحل تحديداً، من التجربة الخاصة. مع ذلك يمكن القول إن الواقعي في شعر لوكس يغدو شيئاً آخر، يصبح قناعاً ومفتاحاً ومدخلاً. الواقعي ليس إلا أداة للبحث في هذه الآلام الخاصة التي راكمتها الشاعرة. أو بتعبير المترجم ‘الواقع ربما كذريعة تحاول لوكس أن تقول من خلاله الطبقات المتعددة للخيبة والألم، كما للمسرّات وأشكال الاحتفاء بالحياة’: ‘حين فقدتْ صديقتي خنصرَها/ بين بكرات الآلة الطابعة،/ لم أكن قد التقيتها بعد./ لا بدَّ من أن الجدعة احتاجت إلى أشهر لتشفى،/ لكي يعاود الجلد النمو ويلتحم بالعظام،/ لا بدَّ من أنها احتاجت إلى سنوات/ قبل أن تتمكن من الحديث عن الأمر بهدوء،/ مثلما تفعل الآن، في مقهى المطار/ على فنجان قهوة سوداء./ لا تتذمّر أو تنحي باللائمة على الآلة القديمة،/ أو على ضجيج المعمل،/ أو على ساعات العمل الطويلة./ تفتح ببساطة يدها المعطوبة وتتأمل الفراغ،/ وتقول لي إنها دفعت ثمناً بخساً،/ وإن خنصرها المفقود علمها/ أن تكون أشدَّ حذراً في حياتها،/ حيال ما تمدُّ يدها لتلمسه،/ أن تبقى متيقظة في صحوها/ وأن تصغي،/ أن تعير انتباهها/ لما يحدث في العالم’.

جذور أوروبا

يشكل شعر روبرت بلاي جزيرة خاصة في المشهد الشعري الأمريكي. إنه شعر أقرب إلى أن يكون ذا جذور أوروبية. الشاعر، في إعلائه من شأن الذهني والتأملي، ومن حيث الاهتمام بالتراكيب وبالابتعاد في صنعته هذه عن الشفهي والمباشر، يقترب من الشعر الأوروبي. لا يعود الأمر محلَّ شك إذا عرفنا أن الشاعر المتحدّر من أصول نرويجية، سافر إلى موطنه الأصلي بمنحة أدبية بهدف ترجمة الشعر النرويجي إلى الإنكليزية، وهناك تعرّف إلى الشعر الأوروبي الذي ‘كان له تأثير كبير على شعره. كما أنه تأثر بالقصص الشعبية والخرافية والروحية من مختلف ثقافات العالم’. بلاي الذي نشر كتابه الأول ‘صمت في حقول الثلج’ سنة 1962، شكل منعطفاً في الشعر الأمريكي، ليس من خلال شعره فحسب وإنما من خلال كتاباته النقدية. منذ البداية اتخذ الشاعر موقفاً مناهضاً وعنيفاً، بتعبير الناقدة لورا روزنتال، ‘من الإرث الشعري الأمريكي متمثلاً في شعراء جيل ما بعد الحرب العالمية الأولى أي عزرا باوند وتي إس إليوت ووليم كارلوس وليمز، حيث كتب في مقالة بعنوان ‘منعطف خاطئ في الشعر الأمريكي’، مهاجماً نظرة هؤلاء إلى الشعر بوصفه ‘شعراً موضوعياً منصبّاً على الخارج، لا يعير اهتماماً للاوعي’، معتبراً أن الشاعر ينبغي أن يتبع توجيهات راينر ماريا ريلكه بالغوص داخل الذات’.بالطبع ينبغي ألا نهمل علاقة الشاعر بالطبيعة، ولا سيما من خلال كتابه الأول ‘صمت في حقول الثلج’ الذي يشكل المادة الرئيسية لهذه الترجمة (إضافة إلى ‘هالة الجسد’ و’التهام عسل الكلمات: قصائد جديدة ومختارة’). نستطيع أن نجمع قاموساً ‘طبيعياً’ من شعر بلاي من ثلج وأشجار وأزهار وأعشاب وصخور وتراب وأنهار وظلمة وليل وضوء وشمس: ‘أحياناً،/ إذا مررتَ/ بـ’وسكنسن’ أو ‘إلينوي’/ ترى أعمدة الهاتف القاتمة تلك/ وهي تقفز تباعاً/ لكي تخترق ببطء رمادي السماء،/ وتنفتح بعدها/ على حقول يكسوها الثلج’، أو ‘كم غريب التفكير بالتخلي عن كل طموح!/ فجأة أرى بعينين صافيتين/ ندف الثلج البيضاء/ التي للتو سقطت على عرف الحصان’، أو ‘كان ثلج خفيف./ آثار سيارة تتحرّك خارج العتمة./ أحدّق من نافذة القطار المكسوة بغبار ناعم./ أستيقظ في ميسولا، مونتانا، سعيداً بالمطلق’. من الواضح أن التصوير يأخذ مساحة كبيرة في شعر روبرت بلاي، لكنه ذلك التصوير الذي لا يكتفي بنقل الصور الخارجية وتركها لشأنها، وإنما ذلك التصوير الذي ينحاز سواء من ناحية الزاوية التي يتم منها التقاط الصورة أم من ناحية ردف هذه الصورة بشحنة تأملية أو استنتاجية.
‘تفكيك الصمت’، ‘مراقص كلاسيكية’، ‘العودة إلى مكان مضاء بكوب حليب’، و’تقشّف’، هي المجموعات الشعرية الأربع التي نقل منها سامر أبو هوّاش نماذج شعرية لتشارلز سيميك، أحد الشعراء الرائعين ضمن هذه الترجمات. الشاعر الذي انتقل من الغموض في بداياته إلى البساطة، والمولود في يوغسلافيا، والذي نقل عدداً من الشعراء اليوغسلافيين إلى الإنكليزية، هذا الشاعر يمزج في شعره ‘عناصر وعوالم تبدو متناقضة مثل السريالية والواقعية، الفلسفة الوجودية والسياسة، الطبيعة والمدينة…’. مع ذلك فإن شعر سيميك واضح، سهل، مكشوف، ظاهر، من غير أن يفقد عمقه. لا بل إن هذه البساطة تكاد أن تكون مخادعة، إذ دائماً وراءها معنى خفي، تأويلات، اجتهادات، إشارات خفية. بساطة تستخدم السطح لتقول عكسه، أو على الأقل لتقول ما تحت هذا السطح. قصيدة سيميك تستثمر البساطة لتقول شعريتها الخاصة. بهذا المعنى لا تعود البساطة هنا مذهباً وغاية وهدفاً ومآلاً وإنما طريقة للقول، وسيلة، انتهاز، للذهاب من خلالها إلى الشعر كما في هذا النص: ‘كل صباح أنسى طبيعة الأشياء/ أرى الدخان يتسلق سماء المدينة/ بخطواته الواسعة/ لا أنتمي إلى أحد/ ثم أتذكر حذائي،/ كيف عليَّ أن أنتعله،/ كيف أنني، حين سأنحني لأعقد شريطه،/ سوف أنظر إلى الأرض.’. في أماكن أخرى يوظف الشاعر ذكرياته عن الحرب والدمار والعنف ومشاهد الإبادة التي شهدها في صغره حين اجتاح الجيش الألماني أيام النازية يوغسلافيا: ‘شعر وعشرون ظفراً/ تستمر في النمو/ بعد إبادتها الأخيرة والنهائية./ هذا كل شيء/ أترككم مع باب/ لن ترغبوا في فتحه/ مفتاح ستخشون امتلاكه/ وقع جزمة سجّان/ وقع يريد أن يستوى/ مع ما يحيطه/ من صمت.’. هذا المناخ التراجيدي الذي يُعبّر عنه بأقل قدر ممكن من التراجيدية يقودنا إلى تكنيك شعري لدى سيميك من ناحية توزيع الكلمات على الصفحة. إنه يستثمر البياض والصمت والفراغات. يستخدمها كجزء من العملية الشعرية. إنه يطبّق النظرية التي تقول إن الشعر ليس فن الكلام فحسب بل هو فن المحو.
2
من بين المجموعة المترجمة هذه، يبدو اسم سلفيا بلاث أحد أكثر الأسماء الشعرية شهرة ليس في الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا حيث عاشت أيضاً وإنما في العالم خلال القرن العشرين. بالطبع، شهرة كهذه لا يمكن فصلها عن سيرة الشاعرة الحياتية، من آلام عائلية وخاصة، من موت الأب إلى علاقتها العاطفية والزوجية بالشاعر البريطاني المعروف تيد هيوز، إلى إصابتها بانهيارات عصبية وحالات جنون إلى انتحارها بوضع رأسها في الفرن، في سن لا تتجاوز الحادية والثلاثين. وكانت للحركات النسوية أثر في هذه الشهرة إذ تحوّلت بلاث إلى رمز للضحية النسائية (بسبب علاقتها بزوجها هيوز الذي انفصل عنها قبل أشهر من الانتحار ومنع نشر أي مادة من شعرها أو مذكراتها من دون إذن مسبّق منه بوصفه الوصي على إرثها). في تقديم المترجم للشاعرة يشير إلى أن بلاث تحوّلت أيضاً إلى ضحية الحركات النسوية والنقاد الذين حصروا كل إرث الشاعرة بهذه العلاقة الزوجية ونوبات الجنون والانتحار. ويلفت أبو هوّاش النظر إلى موت الأب المبكر حين كانت بلاث في الثامنة من عمرها، الأمر الذي ترك فجوة كبيرة في حياتها، فجوة من ناحية الماضي لا يمكن ملؤها، وفجوة من ناحية المستقبل الغامض لا يمكن تدراكها. وسط هذه الحياة المؤلمة، إضافة إلى إصابة الشاعرة بمرض نفسعضوي (مرض يسمع فيه الشخص أصواتاً)، كل هذا ساهم في كآبة الشاعرة التي كانت قصائدها نتاج هذه الكآبة. يشكل الموت الثيمة الأساسية والمتكررة في كل نتاج بلاث. شاعرة عاشت قريبة إلى الموت طوال حياتها وراحت تكتب من هناك. في كل حال، هذه الترجمات التي نقلها أبو هوّاش عن ‘الأعمال الشعرية الكاملة’ للشاعرة (‘التمثال وقصائد أخرى’، ‘آرئيل’، ‘ثلاث نساء، مونولوغ من ثلاثة أصوات’، ‘عبور المياه’، ‘أشجار الخريف’…)، ترينا وجهاً آخر لشعرية بلاث لا ينحصر بهذه السيرة الحياتية المأساوية: ‘العلاقة بفن الشعر الغنائي’. بحسب الناقدة كارول أوتس، فإن بلاث ‘تعبّر عن الشعر الرومانسي، الذي شهد صعوداً متجدداً في الخمسينات والستينات، وقد جاء منطوقاً هنا عبر ما يُعرف بالشعر الاعترافي’. هذه القصيدة بعنوان ‘مشهد’ تدلُّ جزئياً على التوجّه الرومانسي في شعر بلاث والذي هو مزيج من احتفاء بالطبيعة وتظهير للألم الشخصي في آن: ‘بين أسطح البيوت البرتقالية/ وقدور المداخن/ ينسلُّ ضباب المستنقع/ رمادياً كالجرذان،/ بينما على غصن مرقط/ في شجرة الدلب/ يجثم غرابان أسودان/ ويرسلان نظرة سوداء،/ ينتظران هبوط الليل،/ بعيون ثملة/ شاخصة نحو عابر سبيل/ يعبر وحيداً في آخر المساء’.
ليست نهاية آن ساكستون شبيهة بنهاية سلفيا بلاث فحسب، إذ إن هذه الأخيرة انتحرت أيضاً بالغاز في مرآب بيتها، بعد أكثر من اثنتي عشرة محاولة فاشلة للانتحار، بل تتشابه معها من حيث مضمون القصائد التي كتبتها. الشاعرة التي بدأت كتابة الشعر بعد عيش طويل بين المصحات وعيادات الأطباء النفسيين بسبب نوبات الصرع والجنون التي تعاني منها، تحوّلت إلى رمز للنسوية قبل شيوع أدبيات النسويات في الولايات المتحدة الأمريكية. بالطبع لم تقصد الشاعرة أن تكون شخصية نسوية بقدر ما كانت تسعى إلى التعبير عن ذاتها، عن أناها المعذبة، عن مشاغلها الخاصة وعذاباتها الشخصية. لكن هذا التعبير عن الحياة، أدّى إلى ظهور ما يُعرف بشعر الاعتراف. بحسب الشاعرة الأمريكية ماكسين كومين في مقدمتها للأعمال الشعرية الكاملة لآن ساكستون، فإن هذه الأخيرة ‘فتحت آفاقاً جديدة في الكتابة النسوية، التي حطمت المحرمات… كتبت عن أمور مثل الطمث، الإجهاض، العادة السرية، سفاح القربى، الزنى، المخدرات، في زمن لم تكن مثل هذه الأمور تعد لائقة بالشعر’. هكذا بات شعر ساكستون أقرب إلى الفضيحة، بالمعنى الإيجابي للكلمة. ومن هذه الفضيحة كان شعر آخر جديد يولد ويتأسس على الذات الفردية وعالم الأسرار المغلق: ‘في أول أغسطس/ علا صخب الخنافس الخفية/ وكان العشب بقسوة الخيش/ ولم يكن من لون سوى الرمل/ وقد بليت أقدامنا العارية/ منذ العشرين من يونيو/ وفي بعض الأحيان/ كنا ننسى تعطيل المنبّه/ وفي بعض الليالي/ كنا نتناول ‘الجن’ دافئاً صرفاً/ بكوبين قديمين من الجيلاتين/ بينما الشمس توارت/ كصورة قبعة حمراء قديمة/ وذات مرة ربطت شعري إلى الخلف/ فوصفتني بالسيدة الطهرانية،/ وأكثر ما أذكره/ أن باب غرفتك/ كان هو نفسه/ باب غرفتي’.

زنوجة الشعر

عمل بحّاراً في الرحلات الذاهبة إلى أفريقيا وهولندا، ثم طبّاخاً في مطعم ناد ليلي في باريس، وبعد عودته إلى الولايات المتحدة الأمريكية عمل نادلاً في فندق في واشنطن. وهناك استطاع أن يدسَّ ثلاث قصائد في صحن طعام الشاعر فاشيل لندساي الذي أعجب بها. بعد ذلك حصل على جائزة شعرية من صحيفة ‘نيغرو لايف’. ومن خلال المسابقة تعرّف إلى كارل فان فختن الذي اطلع على قصائده وعرضها على دار نشر ‘ألفرد نوبف’، فكان ديوانه الأول ‘قصائد بلوز غريبة’. هكذا بدأت الحياة الثقافية للشاعر الأمريكي الأسود لانغستون هيوز.
شكل لانغستون هيوز رمزاً شعرياً في أميركا، إلى كونه رمزاً ثقافياً وتحررياً في العشرينات من القرن المنصرم. فقد كان واحداً من أعمدة ما عُرف باسم ‘نهضة هارلم’، الكيان الثقافي والفكري والسياسي والاجتماعي والفني الذي جمع نخب السود ووحّدهم في محاربة التمييز العنصري والعرقي في أمريكا، والمطالبة بالمساواة الثقافية والحقوقية مع البيض، كما يرى المترجم في تقديمه الشاعر. مع ذلك فإن شعر هيوز، كما نقلته هذه الترجمة على الأقل، بدا خطابياً ووعظياً ومباشراً، في تناوله قضية السود. لنقل إن الشعر هنا بدا وسيلة احتجاج أكثر منه فناً، وأداة تحرر أكثر منه متعة. حدث هذا بالرغم من أن المترجم عمد في اختياراته إلى الابتعاد عن المراحل الأولى ‘الخطابية’ للشاعر. لا أعرف إذا كان السبب أن شعر هيوز يعود إلى بدايات القرن العشرين، وهو بهذا المعنى أقدم الشعراء المترجمين في هذا المشروع، مع أنني أرى أن السبب الرئيسي لخطابية هذه المختارات هو وقوعها تحت تأثير الواجب الاجتماعي والالتزام الأخلاقي أو الإنساني بشكل أدق: ‘حين يأتي العجوز الموت جامع الخردوات/ لكي يحصد أجسادنا/ ويحشرها جميعاً في كيس النسيان/ أتساءل ما إذا كان سيجد/ أن جثة مليونير ما/ تساوي في ميزان الأبدية/ قدراً أكبر من القروش/ من البدن الأسود/ لمزارع قطن أسود.’، أو قوله: ‘أنا المهرّج الأسود:/ فتاتي لم تحبني/ فزحفت بعيداً في الليل/ وكان الليل أسود مثلي’.
كالمهرّج الأسود وجملته الأخيرة هذه، ترى فلورنس أنطوني (آي) نفسها كما أظهرها عنوان المختارات الشعرية التي نقلها لها المترجم: ‘سوداء كليلة البارحة’. آي وتعني باليابانية ‘حب’ تنحدر من أصول يابانية من ناحية الأب، وأصول أفريقية أمريكية من ناحية الأم، إضافة إلى أصول هندية أمريكية (قبيلة شوكاتو) وإيرلندية. يشكل شعر آي نموذجاً رفيعاً للشعر الزنجي. إنه شعر يقوم على موضوعات في الدرجة الأولى عرقية. وتتخذ الشاعرة من المشردين والمهووسين والقتلة والمغتصبين والمجرمين وقطاع الطرق عالماً شعرياً تظهر فيه عنف الحياة نفسها. لكنها في تصويرها العنيف لهذه العوالم السفلية، كأنما ترد عنها هذا العنف الشخصي في المقام الأول بسبب عيشها بلا أب، محاولة إصلاح العالم عبر تصوير الجانب المتطرف منه. شعر آي شعر قسوة وحدة، شعر الحد الأقصى في تناوله الأمل البشري. هذا الجانب المضموني (من مضمون) لا يجعلنا نسهو عن أسلوب آن الذي تمتزج فيه الكتابة الواقعية واليومية مع الحوارات والحكايات والسرد، كما في قصيدة ‘فتى’ التي يحكي فيها مراهق كيف قتل والده وأمه وأخته لتنتهي القصيدة على هذا النحو: ‘بلى، أنا جاك، ابن هوغارث./ إنني سريع، إنني رشيق./ في البيت أرتدي أجمل بزات أبي/ وأنتعل حذاءه الجلدي./ أوضّب في حقيبتي قميص نوم أمي الساتان/ ودمية أختي./ ثم أخرج وأجتاز الحقول إلى الطريق العام./ إنني في الرابعة عشرة./ ريح من لا مكان./ ويمكنني أن أحطم قلبك.’. في كل حال يكفي النظر إلى عناوين مجموعات آن التي أخذت منها هذه القصائد لنرى هذا العنف الذي شكل أسلوبها طوال حياتها الشعرية: ‘قسوة’، ‘طابق القتل’، ‘خطيئة’، و’رذيلة’. والجميل أن آن تتخذ في كل مجموعة من هذه المجموعات جانباً معيناً من العنف، أي إنها تتحدث عن القسوة في المجموعة الأولى، وعن القتل في الثانية، وعن أشخاص ارتكبوا خطايا وفقاً للمفهوم الاجتماعي في الثالثة، وعن أشخاص يعيشون وسط الرذائل في المجموعة الرابعة. بمعنى آخر، تعمد آن إلى تقليب العنف على أوجهه العديدة، آخذة وجهاً ومنحى وثيمة في كل عمل تقدّمه إلى القارئ كما في هذه القصيدة التي تبدأ بالقتل وتنتهي بالجنس، هذان الوجهان اللذان يضيء واحدهما الآخر منذ وُجدا: ‘يعيدك شقيقكَ إلى البيت من الصيد،/ متدلياً من حصانك، ميتاً،/ والخنزير البري يتدلى قربك./ لا أطرح أي سؤال./ يرمي الثور عند قدمي،/ يعطيني عرق السوس الأحمر الذي وعدني به./ أخلع شالي،/ وتغطي كفّاه نهديَّ./ يهمس لي واعداً بفستان من المدينة،/ بينما أفك أزرار تنورتي./ أنتظر على الأرض،/ بينما يفكُّ حزامه./ يبتسم ويلوّح به في وجهي،/ ثم يدفعني إلى الخلف./ أبقي عينيَّ مفتوحتين./ مخالب كلبة الصيد تلطخ كسوة السرير/ المزيّنة برسوم زهرية./ الكلبة تتبعه وتلعق آثاره./ أحكُّ اللحم الذي فوقي./ رائحة اللحم الطازج/ تحفر إصبعاً في منخريَّ./ تشبُّ الفرس،/ ينزلق جسمك عن السرج/ كفرشة من المخمل الفاخر./ أضحك، أغمض عينيَّ، وأسترخي’.

اكتشاف الشعر، اختراع القارئ

انتظر بيلي كولينز حتى الخمسين ليصبح شاعراً معروفاً في الولايات المتحدة الأمريكية. اليوم هو شاعر مشهور ليس في الأوساط النقدية فحسب وإنما على المستوى الشعبي. وسبب شهرته هذه الطريقة التي يقارب بها الشعر. يعتمد كولينز على الفكاهة في كتابة الشعر. لنقل إنه يعتمد السخرية أكثر من الفكاهة. إنه يسخر من كل الأشياء، من كونه مدرّساً، ومن تلامذته، من الحياة الأمريكية التي يعيشها وينتمي إليها، وأخيرها هو يسخر من الشعر نفسه. في هذه المختارات التي حملت عنوان ‘أوزة الشتاء تنبح في السماء’، والمنقولة من خمس مجموعات شعرية هي ‘التفاحة التي أذهلت باريس’، ‘فن الغرق’، ‘نزهة، صاعقة’، ‘الإبحار وحيداً حول الغرفة’، ‘تسعة جياد’، و’بالستيّات’، في هذه المختارات يمكن أن نرى كيف أن الشاعر يغامر بالشعر، عبر السخرية، ليعيد تأسيس علاقة جديدة مع القارئ الذي ينفر من الشعر. مغامرة حصدت إجماعاً شعبياً ونقدياً وإن كانت تحمل شيئاً من التواطؤ. كل هذا لا يلغي اقتراب الشاعر من مناخات الهايكو الياباني كما يرى المترجم في مقدمته، وكما تشي هذه القصيدة: ‘ثمة الصمت المفاجئ لجمهور شاخص/ نحو لاعب متجمّد في الملعب./ وثمة صمت زهرة الأوركيد./ صمت مزهرية في أثناء سقوطها/ وقبل ارتطامها بالأرض،/ صمت الحزام حين لا يسوط الطفل./ سكون الكوب والماء في داخله،/ صمت القمر،/ وهدوء النهار بعيداً عن صخب الشمس/… وثمة صمت هذا الصباح/ الذي كسرت فيه قلمي،/ صمت تكوّم طوال الليل/ مثل ثلج يهطل في عتمة المنزل’.
لم تدخل دنيس ليفرتوف المدرسة، إذ تعلمت في البيت على يدي أمها التي كانت تقرأ لها آداب القرن التاسع عشر. لاحقاً تأثرت بأختها أولغا التي كانت تكتب الشعر، وقد ترك موتها أثراً بالغاً فيها. شعر ليفرتوف المولودة أصلاً في إحدى ضواحي لندن سنة 1923، قبل أن تتزوج أمريكياًوتنتقل إلى الولايات المتحدة سنة 1948، شعرها يتنقل بين عالمين لطالما شغلا الكتابة منذ وُجدت: الحب والحرب. قصائدها العاطفية الرقيقة وموقفها المناهض لحرب فييتنام، تشكل واجهة لشعرها. لكن هذه الواجهة تنم عن ما هو أبعد، أي ذلك البعد الإنساني في شعرها، الإحساس بالآخر تماماً كما الإحساس بالذات: ‘ربما كنت ‘جزءاً مريضاً/ من شيء مريض’/ ربما ثمة ما/ يهيمن عليَّ/ بالتأكيد ثمة/ ضباب بيننا/ لأنني بالكاد/ أراك/ لكنْ يديك/ حيوانان يزيحان الضباب/ ويلمسانني’.

أوكسجين منذ زمن

آيه. آر. آمونز. هذا واحد من الشعراء الرائعين ضمن هذه الترجمات. شعره تقاطع بين مذاهب واتجاهات ومواد مختلفة. مزيج من اليومي والواقعي والميتافيزيقي والتجريدي واللغوي والتجريبي والغنائي والسردي والشفهي البسيط والكتابي المركّب. كل هذه العناصر تجتمع في تجربة آمونز، التي هي في النهاية تجربة داخل اللغة. تجربة تنهض من اللغة لتقيم فيها. الكلمات لعبة الشعر الأثيرة، عالمه المغلق، إشاراته، طرقه، ومسكنه. إلى ذلك، وكما أشار المترجم، ثمة أثر من شعر الهايكو في تجربة آمونز. لكنَّ ‘الطبيعة هنا ليست موضوع تغنٍّ كما في الشعر الرومنطيقي، ليست ‘الجمال’ بالضرورة، بل هي الوجهان معاً، القبح والجمال، الانحلال والثبات، الوهم والحقيقة، الخراب والحياة، إنها المفصل الذي يجمع التناقضات، تناقضات الكائن البشري’ كما تشير هذه النماذج: ‘أحنيتُ رأسي/ لأمرَّ تحت/ الغصون الواطئة/ أساءت شجرة الجمّيز/ فهم مقصدي/ ومالت إلى الخلف.’، أو ‘كم رائع/ أن أمضي في المساء/ إلى الشاطئ/ لأجد/ أكبر شيء/ على الكوكب/ ساكناً نسبياً.’، أو ‘في الرياح العاتية/ لا تسقط الوريقات/ بل/ كالعصافير/ تحلق مباشرة/ من الشجرة’.
لا أبالغ إذا قلت إن تيد كوزر أجمل الشعراء الخمسة عشر الذين قرأتهم في ترجمة سامر أبو هوّاش. ثمة شعراء في هذه المجموعة مشهورون كنت سمعت بهم أو قرأت لهم. لم يكن كوزر بين هؤلاء المشهورين عندي. إنها المرة الأولى التي أسمع فيها باسمه. لكنني حين بدأت قراءته رحت أكتشفه ليس نقدياً بل بمتعة. قلت لبعض الأصدقاء: منذ زمن لم أقرأ شعراً يشعرني بالراحة. ثم كنت أضيف بشيء من المزح: الشعر الحديث كله نكد بنكد، شعر تكره فيه أمك وأباك وجارك وحبيبتك وصاحب الدكان في الحي ونفسك. شعر كوزر شعر انشراح وفرح وحب. شعر مملوء بالأوكسجين. منذ متى قرأتم شعراً فيه أوكسيجن؟ منذ متى قرأتم شعراً وأنتم ممددون على ظهوركم؟ منذ متى قرأتم شعراً من دون أن تحقدوا أو تغضبوا أو تؤنبوا هذا العالم؟ إذا لم تفعلوا ذلك فمن الجيد أن تقرأوا تيد كوزر. كيف لا يكون شعر كوزر على هذا النحو، وهو الذي عاش طوال حياته في أحد الأرياف في نبراسكا مع زوجته وكلبه وحديقته؟ لم يجد كوزر ضرورة في العيش في نيويورك أو شيكاغو أو في أي مدينة مركزية في الحياة الثقافية الأمريكية. حتى صداقاته، كما يرى أبو هوّاش، اقتصرت على الكاتب جيم هاريسون، ولم يعُرف في الأوساط النقدية، هو المولود سنة 1939 إلى سنة 2004، حين عُيّن من قبل مكتبة الكونغرس ‘شاعر أميركا المتوّج’، لينال بعد سنة جائزة بوليتزر. شهرة متأخرة لدى النقاد لكنها كانت متحققة لدى القرّاء الذين كتب لهم بلغة تصل إليهم أينما كانوا موقعاً وثقافة وميلاً.
يدور شعر كوزر حول تجربته الحياتية الشخصية أو العائلية. يتحدث عن تأملات خاصة ومشاهدات شخصية وتجارب عائلية. يتحدث عن الجيران وأهل البلدة حيث يعيش. يتحدث عن كلب أو هرة أو حمامة أو شجرة أو مستنقع. ينطلق من وقائع عادية جاعلاً منها ثيمات عميقة حول الحياة والموت والفرح والسعادة والحزن. ينطلق من هذا كله إلى الشعر: ‘عند طرف قطار شحن يبتعد/ تلوح يد بفانوس./ الأضواء البعيدة تركت في البلدة/ لمبة تشتعل باردة في زنزانة،/ وعالياً في أحد المنازل/ ضوء بطارية/ يجرُّ امرأة عجوزاً إلى الحمّام/ بين عيون قططها الحمراء’، وكذلك ‘نفضت ربطات عنقه/ عن شعرها/ ومزقت ألسنة أحذيته./ حملت الجرة/ ونثرت رماده/ في الهواء الطلق./ للمرة الأخيرة/ فركت أرضية الحمّام/ وشعرت بأنها تكرهه أكثر/ لأنه مات.’، وأيضاً ‘الحمامة طارت إلى عشها/ على حافة نافذة أعلى إشارة السير،/ لكن ظلها الذي لا يسعه الطيران،/ تسلق الجدران بخفة ليلاقيها هناك./ تماماً كما اجتمعنا أنت وأنا عند الخامسة/ دراجتك الهوائية على الشرفة/ ما زالت تطنُّ فيها الرياح،/ وحذائي بجوار السرير،/ ما زال ساخناً/ من سيري إلى البيت/ إليكِ.’.

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى