القطار
نوار الماغوط
بينما كنت أهبط الدرج مسرعا في أحد الأبنية في دمشق و رأسي منشغل بالواسطة التي ستقلني الى بيتي البعيد و بالواسطة التي يمكن أن أحصل منها على ترقية في وظيفتي . لفت نظري عدد من النسوة يقفن بالدور بشكل رتل أحادي أمام مدخل و على درج البناء كالتلاميذ بإنتظار العقوبة , و عندما إقتربت منهن , عرفت ما الخبر , إنهن مذيعات التلفزيون العربي السوري , يقصدن عيادة طبية تقدم خدمات التجميل و تخفيف الوزن , فقلت في نفسي حيا الله المدير العام على قراره الذي أصدره منذ أيام بخصوص منع ظهور المذيعة على الشاشة التي يزيد وزنها عن الرقمين الأولين من طولها , فبعد أن زالت عن التلفزيون كل الأسباب التي يمكن أن تعرقل مسيرة الإعلام السياسية و الإقتصادية و الثقافية , لم يعد في الواقع ما يزعج المشاهد إلا بعض الكيلوغرامات الزائدة لدى المذيعات . المهم راعني المشهد و تخيلتهن يحاورن الطبيب المعالج الحوار التالي : تقدمت إحدى المذيعات و هي تهدر و تشكو و تتذمر , قالت : أنا يا دكتور عصبية , و أعمل مذيعة نشرة الأخبار , وكلما قرأت خبراَ و أعلم أنه غير صحيح أو تليت تصريحا و أعرف أنه نفاق َ أو أجريت مقابلة مع مسؤول و أنا متأكدة من أنه يكذب , أعبر عن إنفعالي فور إنتهاء النشرة بتناولي عشاءاَ دسماَ , وهي الطريقة الوحيدة التي أعبر فيها عن رأيي الطبيب : لا عليك , خذي هذه الحبوب , و تناولي حبة واحدة قبل كل نشرة اخبار , إذ تجعلك هذه الحبة تصدقين كل ما تقولينه , فتشبعي كلام حتى موعد النشرة التالية للأخبار .
ثم تقدمت مذيعة ثانية و قالت أنا يا دكتور مندوبة أخبار التلفزيون لتغطية إجتماعات المسؤولين , هناك سيارة تقلني لمكان الإجتماع , و أصعد الطوابق بالمصعد الكهربائي , و هناك ينتظرني مدير المكتب الصحفي يعطيني نصاَ جاهزاَ أتلوه أمام الكاميرا , و ظرفاَ اضعه في حقيبتي اليدوية , و عندها كل خلية من جسدي تنتعش و يتضاعف حجمها , فكما ترى لا وقت لدي لأن أتحرك أو أتنفس فكل شئ مرسوم بعناية و إتقان كما يريدون
فما عليك إلا أن تبتسم و تشكر و تسترخي حتى موعد بث التقرير و موعد إعداد التقرير التالي .
الطبيب : أنت بحاجة إلى أن تذهبي الى المهمة بسيارة المراَب أصولاَ ( و أصولا هنا معناها توقيت الذهاب للمهمة عند موعد الفترة) وهنا تتلقي الإزعاج رقم 1
تصلين متأخرة و الجميع يلوموك على التأخير و هنا الإزعاج رقم 2 .
ترفضي أي إملاء أو نص يفرض عليك و تصرين على متابعة تفاصيل الإجتماعات حتى النهاية و هنا ينظرون اليك كما المصورين الذين معك بإزدراء لأنهم يعتبرون الإعلام من المراسم و ليس متابعاَ و راصداَ لإجتماعاتهم أو أعمالهم , وهنا الإزعاج رقم 3 .
رفض أي مبلغ يقدم لك و لفريقك و هنا الإزعاج رقم 4 .
تحمل تبعات التقرير الذي سيبث علي الهواء الذي كتبتيه بموضوعيه و بمهنية نزيهة تفرضها أخلاق المهنة , منها أن يسقط إسمك من البيان المالي أو من دورة تدريبية داخلية أو خارجية , أو أن يقيم أداؤك بأنه ضعيف و تنقلي للبرامج التنموية , وهنا الإزعاج رقم 5 .
و مع كل هذه الإزعاجات تصابي بقهم عصبي يمنعك من الأكل و تصبحين مجرد جلد على كومة عظام .
ثم تقدمت المذيعة الثالثة , بصعوبة , و قالت مشكلتي يا دكتور أنني و منذ عشرات السنين و قبل البث الفضائي عندما تعالت الأصوات المنادية بتحرير الأراضي المحتلة حتى أخر متر و تحرير الإنسان من كل ما ينغص حياته و التزامه بكل ما هو جاد في الحياة إستعداداَ للمعركة الإستراتيجية مع العدو , ومنع الهدر بإطفاء أجهزة الإنارة عند عدم الحاجة و النظر الى الإنسان الذي يخالف القوانين بإذراء إذا كان يعرف إنه يخالف و ننبهه إذا كان لا يعرف , لذلك التزمت بكل ما هو جاد في الحياة فلم أعد أقدم إلا البرامج الجادة في الأدب و المسرح و السينما و الحب و الرياضة و الفن بشكل يبقى المشاهد عاقد الحاجبين من بداية البرنامج حتى نهايتة متمنيا رمي نفسه مع جهاز التلفزيون من أقرب نافذة تصلها قدمية َ و بعدها جاءات شعارات التطوير و التحديث وثم شعار الإصلاح في جميع مؤسسات الدولة الإنتاجية منها و الخدمية إعتقدت أنهم جادون في ذلك فكانت هذه الشعارات منهاج عمل لي فلم أعد أتحدث إلا عن التطوير و التحديث المطلوب في أداء السلطات الثلاث التشريعية و التنفيذية و القضائية و أشيد بالتقدم غير الملموس في ذلك بإعتبار أننا لا نملك عصا سحرية و المسألة فقط نحن بحاجة الى شوية و قت لذلك أنا ضجرة دائماَ فأنقرش ما تطاله يدي من أطعمه و ألتهي بالسكاكر و الحلويات بإنتظار دلائل و علامات النجاح في عملية الإصلاح لذلك تراني حزينة دائماَ و وزني يزداد و طولي ينقص و أفقي يضيق و تفاؤلي يتضائل .
و عندها نظر الطبيب الى المذيعة نظرة حزينة منكسرة و تنهد و قال : ومن قال لك أن كل ما يقال هو الذي يجب أن نصدقه و نعتمدة في عملنا مثل الإقتراب من الناس في برامجنا و تشجيع المبادرات و المواهب الجديدة للإعلاميين و تنمية الحس النقدي لدى المشاهدين لإنتقاد حكوماتهم
وهل وجود وزارة للإعلام تعني أنه لدينا إعلام أو وجود وزارة المالية أنه لدينا مال أو وجود وزارة عدل يعني توفر الحقوق
نحن بإختصار في قطار كل في مقعده و مقطورته نسير على سكة لا تتغير و لا تتزحزح و يخطئ من يظن أن بمقدور القطار الصعود فوق هضبة أو جبل أو بإمكان أي شخص الوصول دون ركوب هذا القطار و نحن و في أحسن الأحوال يمكن أن نجري إصلاحات للقطار و تحديث لأثاثة و نفض الغبار عن موجوداته أو سكته ولا يفرق معنا من يسوق القطار أو يفتش عن تذاكر الركوب طالما السرعة وتوقيت الوصول للمحطات ثابتة لاتتغير و محددة سلفاّ و أي تفيير في السرعة أو الزمن يعرضنا لكارثة .
ثم تقدمت مذيعة رابعة , و قالت : مشكلتي يا دكتور أنني و منذ سنوات و أنا أعد و أقدم برامج الصحة في التلفزيون , و خلال هذه الفترة إكتسبت معارف و معلومات و خبرة صحية يعجز جل ّالأطباء أن يكونوا ملمينَ بها , فإعتراني شيء من الغرور و الثقة الزائدة في النفس مم دعاني أن أعلن بأنني أملك إختصاص قل نظيرة و أعتبر نفسي أفهم من ضيوفي في البرامج التي أقدمها , و قد تأثرت بالطبيب المرحوم صبري القباني لدرجة كبيرة و أتخذ من مقولته التالية شعار و منهج عمل لي و هي : لولا الأطباء لعاش الناس بسعادة أو بمعنى أخر لا تسمع كلام الأطباء تعش سعيداَ , فما كان من كلام ضيوفي الاطباء عن الروجيم و تخفيف الوزن و الحمية الغذائية و النظام الغذائي و في الحركة بركة إلا دافعاَ قوياَ نحو مزيد من السمنة و الأكل الدسم ومزيد من الكسل و قلة الحركة .
فلم يبادر الطبيب بأي تعليق …………فقد ينصحها بخف للركض فتبادر الى الإستخفاف برأيه .
ثم تقدمت مذيعة خامسة , وقد إختلطت تفاصيلها , و الزبد يتطاير من شفتيها و قالت ألم يشاهد المدير العام أشهر و أوزن مقدم برامج حوارية الأستاذ عماد أديب و هذا أكبردليل على خطأ قراره عندما ربط المذيع بوزنه متجاهلاَ ثقافته . فرد الطبيب قائلاََ : معك حق فأنا مستعد أن أقف في الشارع العام و في البرد و أشاهد له برنامجاَ حوارياَ ولكن أعطني أسم واحد فقط من المذيعين لدينا يشبه أو قريب من شبه عماد أديب في ثقافته و أنا مستعد لا أن أبوس شوارب المدير العام فقط ليعدل عن قرارة بل شوارب و رؤوس جميع العاملين في التلفزيون من البوفيه و حتى العلم الذي يرفرف على السطح .
و عندها راقت لي فكرة أو حل للمشكلة أردت أن أقولها للطبيب و هي أن المشكلة ليست في المذيعات أو المذيعين مهما تكن أوزانهم أو أطوالهم, المشكلة بالأساس في بنية الإعلام السوري , بالمذيع الذي يخاف أن يقول رأيه الصريح بخطاب رئيس حكومة أو تصريح رئيس مجلس شعب أو وزير أو تعليق سفير أو محلل سياسي و الحل برأيي بعودة الإعلام كسلطة رابعة و متحرر من السلطة التنفيذية مرتبطاَ بأعلى هيئة في الدولة
وبعدها انتظرت حتى خلت العيادة من المذيعات , دخلت الى الطبيب , و قد بدا منهكاَ من التعب و يدفن رأسه بين راحتيه بشكل يخفي وجهه , وعندما بدأت بالحديث , رفع الطبيب وجهة و لكم كانت دهشتي كبيرة , لقد كان الطبيب هو نفسه المسؤول عن الإعلام
خاص – صفحات سورية –
من أفضل ما قرات من مقالات لتشخيص حالة الإعلام السوري التافهه
لقد انقضت سنوات ونحن نتحدث عن تطوير الإعلام، والتلفزيون تحديداً، وأجد أن إعلامنا المكتوب تطور أكثر من الإعلام المرئي، لاسيما في مجال المحليات (تحقيقات / اقتصاد / فن الخ…) كذلك الإذاعة ، أما عدم مواكبة التلفزيون لهذا التطور فيعود برأيي بعد عمل قارب العشرين عاماً فيه إلى مجموعة من العوامل أبرزها:
· لا تزال العلاقات والوساطات تحكم مختلف التعيينات لمختلف المفاصل الرئيسية.
· استمرار الاعتماد على كوادر من خارج التلفزيون سواء في الإدارات أو في العمل البرامجي!.
· غياب الحوار حول ما هو كائن وما يجب أن يكون من برامج ليس بين الإدارات العليا، بل مع الإدارات الأدنى أيضاً القادرة على أن تقول رأيها دون أن تخشى معاداة الإدارات العليا لها، ومع أصحاب هذه البرامج أيضاً!.
· عدم الاهتمام بتأهيل قيادات وكوادر صف ثاني وثالث!.
· استمرار التعامل بذهنية أن من (نحبه) يفهم بكل شيء وله كل ما يريد، ومن (لا نحبه) لا تعجبنا حتى أفكاره.. ولا شكله!!. وليذهب و(يبلط البحر)!..
· لا يزال الكم هو ما يمكن أن يشكل حجر عثرة أمام النوع، ولاسيما أن من يشكلون هذا الكم هم الأكثر قدرة على الوصول إلى ما يريدون!..
مقالة ممتازة نوار الماغوط نود التواصل عبر الهاتف
وزن زائد لمذيعات التلفزيون السوري و بنية الإعلام الهذيلة