جنسية أبناء المرأة السورية.. قضيّة مواطنة و مساواة
ياسين السويحة
مع عودة قضية حق المرأة السوريّة منح جنسيتها لأولادها (من أب غير سوري) إلى فضاء الإعلام الاجتماعي عادت الأصوات و الآراء الرافضة أو المتحفّظة على هذه المطالبة و لأسباب متنوّعة, منها ما هو مبدئي و منها ما هو “إجرائي”, و تنوّعت نبرة هذه الأصوات بين ما يمكن (و يجب) مناقشته و محاولة الرد و التوضيح عليه و بين ما ﻻ يخرج عن إطار الشعارات التمييزية الشوفينية و العنصرية التي ﻻ يمكن عند مشاهدتها إلا الأسف على وجودها.
لقد دافع كاتب هذه السطور المتواضعة في مناسبات عديدة سابقة عن شرعية و ضرورة هذه المطالبة كونها, في منظوري و منظور الكثيرين, ليست مسألة براغماتية يجب الوقوف عندها على طريقة ميزان (إيجابيات – سلبيات) و بعدها تقرير ما نفعل أو محاولة إيجاد حلول وسط “ترضي الجميع” بل هي قضية حق و مبدأ أساسي و إنساني و عضوي ﻻ يمكن التعامل معه بتدرجات رمادية, بل أن السؤال الجوهري و الأساسي هو إن كان هناك إيمان بمبادئ المواطنة و المساواة التامة بين المواطنين (بغض النظر عن الأخطاء على الأرض) دون أي استثناء من أي نوع. و لكي نبدأ بالحديث عن المعوقات أو الصعوبات المفترضة (بقصد حلها و إذلالها و إبعادها عن طريق نيل الحق) يجب أن نتفق على أن الجواب هو “نعم”, فإن لم يكن كذلك فهذا يعني أننا ﻻ نختلف على صعوبات أو معوقات (أو حتى موانع) بل أننا نختلف في المبدأ و الجوهر, أﻻ وهو الإيمان بالمواطنة الديمقراطية و المساواة التامة بين المواطنين (باختلاف جنسهم و عرقهم و دينهم) تحت سقف الوطن. عندها سيكون نقاشاً مختلفاً تماماً, و على الأغلب سيكون نقاشاً عقيماً.
يسهل حل أغلب (أو جميع!) الصعوبات التي يسردها أولئك المتحفظون على منح المواطِنة السورية حقها بالمساواة لو وُجدت نيّة حقيقية لتحقيق هذه المساواة, و هي نيّة وجدت في أقطار عربية أخرى و في أغلب دول العالم و يجب أن نصل إلى إنجازها ليس فقط كحل لهذه القضية بل كخطوة لبناء مجتمع حديث أكثر إنسانية و مساواة و عدالة لما فيه الخير للجميع.
لعل أكثر النقاط تكراراً (وحساسيّة) في النقاش هي تلك الخاصة بوضع أبناء السوريات المتزوجات من فلسطينيين, حيث يقول الكثيرون أن منح أبناء هذا الزواج الجنسية السورية قد يعني توطيناً يتعارض مع الإصرار على حق الشعب الفلسطيني في العودة إلى دياره, و ربما يجب التأسيس لمفاهيم و أفكار واضحة حول هذا الشأن من خلال مناقشة هذه الحالة, لكن يجب اﻻنتباه إلى أن حق عودة الشعب الفلسطيني ليس قضية إدارية تخص أوراقاً هنا أو هناك, و ﻻ يثني الفلسطيني عن عودته إلى دياره نيله جنسيّة أخرى, فاللاجئون في الغرب مثلاً ليسوا أقل فلسطينية من اللاجئين في مخيمات الدول العربية أو في الداخل الفلسطيني (أم أن ادوار سعيد, الأمريكي الجنسية, أقل وطنية من محمد دحلان؟). وأحد ابرز الشخصيات الفكرية و الإعلامية في هذه الفترة, الدكتور عزمي بشارة, يحمل (أو كان يحمل) جنسية إسرائيلية! و بالتأكيد ليس و لم يكن أقل وطنية من أي فلسطيني أو عربي آخر.
من الممكن إيجاد الحلول و بناء الأسس المناسبة لهذه الحالة الخاصة بالنقاش و البحث, و من المؤكد أنه نقاش سيسعد بخوضه الكثير من المثقفين و المثقفات السوريين و الفلسطينيين. لكن يجب تذكير (و تكرار, اعتذر) أنه نقاش ذو معنى فقط في حال كان في سياق نيّة للحل.. أما إن كان مجرد حجّة للتعقيد فهو نقاش غير ذي معنى.
يكثر الحديث كذلك عن النسب و الولاء و اﻻنتماء عند مناقشة هذه القضية, و في هذا الحديث خلط واضح بين شبكات العلاقات اﻻجتماعية في بُنى ما قبل (أو ما دون) الدولة الحديثة و آليات عمل هذه الأخيرة. ﻻ علاقة بين الجنسية, و هي إجراء يخص تعريف الوطن لذاته و لمواطنيه و لعلاقته معهم (و معهنّ), و بين النسب و هو معرّف الشخص أمام المجتمع و له علاقة كبيرة بعلاقة هذا الشخص بذاته و بمجتمعه, و بالتأكيد ليست قضية إدارية أو قانونية مانعة لنيل الجنسية في بنيان الدولة الحديثة. أما الحديث عن الوﻻء و اﻻنتماء فهو عودة إلى منطق تمييزي بين الرجل و المرأة (و هو ما يُفترض أنه مرفوض في حال أجبنا بنعم على السؤال المبدئي حول الإيمان بالمواطنة و المساواة التامة), فابن السوري يُفترض أنه ينتمي لسوريا و يحب سوريا حتى و إن ثبت العكس, و ابن السوريّة ﻻ يشعر بشيء إيجابي تجاه سوريا حتى و إن ثبت العكس. أي أن ابن السوري سوري قانوناً حتى لو لم يزرها يوماً و لم يتكلم لغتها (أو لم يعلم أصلاً أين تقع على الخارطة), و ابن السوريّة أجنبي حتى لو لم يخرج من سوريا في حياته! ثم أننا نتحدث عن (حق) الحصول على الجنسية, و الحق يُمارس أو ﻻ يُمارس, و من المفروض أن نعتبر أن من يسعى للحصول على الجنسية يريد أن يكون سورياً. فالجنسية السورية ﻻ تعني امتيازات و رواتب مالية أو إعفاءات ضريبية كي نقول أن هناك دافعاً مصلحياً (و هذه النقطة تدحض حجج المهوّلين بوفود أعداد كبيرة من الناس و سعيهم للزواج طمعاً بالجنسية فقط في حال إقرار هذا الحق).
إن أغلب المستفيدين من صدور هكذا قانون (و هنا نتحدث عن فائدة و ليس فقط عن حق) هم من المقيمين في سوريا منذ سنوات طويلة و أغلبهم ولد فيها, و ربما ﻻ يعرف أصدقاؤهم أنهم ﻻ يملكون الجنسية بسبب غياب هذا الحق. و بالتالي تسقط أيضاً حجج المهددين بـ “مشكلة اجتماعية كبيرة” في حال تم إقرار هذا القانون, و حتى لو كان هناك بعض المشكلات (و ليس هناك ما يجعلنا نعتقد ذلك) فالحل هو باستخدام الوسائل القانونية و الإعلامية و الثقافية و التعليمية لمواجهته و ليس حجب الحق عمّن يستحقه.
هناك حالة أخرى يجري الحديث عنها في سياق هذا النقاش, و أعتقد أنها مسألة مهمة ليس لجزئية الجنسية بل كقضية إنسانية و حقوقية. هناك من يقول أن إعطاء المرأة حق منح الجنسية لأولادها سيتسبب بمشكلة تخص أولاد أولئك الذين قدموا للسياحة في سوريا و تزوجوا مؤقتاً من سوريات (أو دعونا نقول بصراحة أنهم مارسوا دعارة مقنّعة). إن طرح منع هؤﻻء الأطفال من التجنيس كأسلوب مقبول للتعامل مع هذه المعضلة يفتقر إلى أي حس إنساني بالحد الأدنى, فهذا الطرح يقترح التعامل مع مشكلة بمعاقبة أضعف ضحاياها! تحدث المأساة الإنسانية بسبب غياب الحماية القانونية و ترك نساء (و طفلات صغيرات) في مهب الرّيح في ظل أوضاع اقتصادية صعبة. و بالتالي يجب حمايتهن و ليس معاقبتهن و أطفالهن. من المؤسف أن هذه القضية تهم البعض فقط عندما ينبرون لرفض منح المرأة السورية حق تجنيس أولادها. إن إيجاد حل لهذه المأساة و وقف هذا النزيف الأخلاقي هو واجب إنساني و وطني تجاه النساء السوريات في وجه من يستغل ميلانات الزمان, و لدى الدولة ما يكفي من السبل القانونية لمنع هذه الظاهرة (ليس لحل مشكلة الجنسية بل لحل المأساة من أصلها) إن كان عن طريق إقرار قوانين تضمن حق النساء السوريات و أولادهن من إعالة و تعويضات وغيرها, و توقيع اتفاقات ثنائية مع الدول التي يأتي منها هؤﻻء” السوّاح” تضمن هذه الحقوق و ملاحقة و تشديد عقوبات المتاجرين و المستفيدين و المسهّلين لهكذا ممارسات إجرامية بكل معنى الكلمة.
أما تعليقات من طراز “ﻻ أقبل أن يكون ابن الـ (جنسية يعتبرها القائل أدنى من مستواه) سورياً” أو “الجنسية أغلى من أن يحملها أي شخص كان” (و كأن مولدك لأب سوري يضمن لك أن تكون إنساناً جيداً) أو أحد “الأساتذة” الذي قال أنه يرفض رؤية أشخاص داكني البشرة أو سمر يحملون جنسية سورية فتصب في خانة الشوفينية الجوفاء الجاهلة و العنصرية البغيضة, و ليست إلا تأكيداً على أننا بحاجة لنشر ثقافة المواطنة ليس فقط لنيل حقوق المرأة بل لمكافحة هذه النعرات المعادية للحس الإنساني.
إن الداعين و الداعيات للمواطنة الديمقراطية و المساواة يسعون بهذه المطالبة (و ﻻ شك أنهم سينجحون في الحصول على هذا الحق) إلى إنجاز خطوة أخرى في الطريق, أي أنها ليست الطريق كلّه بل جزءاً صغيراً منه, لكن الحماسة و البهجة التي نراها في نشاطهم المحموم و دعواتهم الواثقة الصوت تجعلنا نشعر بأن الغد الجميل و العادل قد أصبح أقرب مما يبدو.
http://www.syriangavroche.com/