صفحات ثقافية

وداع القلم

null
محمد علي فرحات
صديقي الشاعر استقال من عمله في المركز الرئيس لوكالة أنباء عالمية لأنه لم يطق الكومبيوتر. كان يرى الشاشات في قاعة العمل الفسيحة شواهد للقبور، وعاود سيرته في مجلة أسبوعية تسمح باستخدام القلم والورق. قال إن الشاشة تعني السينما والتلفزيون ولا شيء غيرهما.
لم أستقل بل «قاومت» الكومبيوتر ما استطعت مكتفياً بدائرتين للمعارف تحتلان مكتبي مع عدد من القواميس، لكن لـ «ممانعة» التكنولوجيا حدوداً فصار لزاماً عليّ استخدام الكومبيوتر.
تعلمت نظرياً وتطبيقياً وكان الأمر أسهل مما تصورت. ذكرني ذلك بتعلمي قيادة السيارة، كنت في الثامنة عشرة من عمري أتهيب الأمر، لكنني تذكرت نسيباً لي اسمه بديع محدود الذكاء ويقود سيارته ببراعة لافتة، قلت: لا يمكن أن أكون أقل ذكاء من بديع، وساعدتني الفكرة في تخطي الخوف وقيادة السيارة. وإذا كان كثيرون من أمثال بديع يستخدمون الكومبيوتر فلا اقل من أن أستخدمه أنا أيضاً.
وصلت أخيراً الى التنضيد الذي أتعلمه ببطء. أستطيع تعديل نص أو تصويبه أو تنضيد رسالة قصيرة، لكن الكتابة، وبالتحديد الكتابة الإبداعية، شيء آخر (أعني بالإبداع هنا الشعر بما هو تخير صعب للكلمات والصياغات وليس الرواية التي يمكن تنضيدها، بل ان الكومبيوتر يساعد في إعادة ترتيب مقاطعها/ مونتاج السرد).
هل أرمي ورائي تاريخاً من الكتابة بالقلم، علماً أنني خطاط، وأحسب نفسي واحداً من رعيل أدباء اتقنوا الخط العربي اتقانهم اللغة (أبرزهم إبراهيم اليازجي وجبران خليل جبران وخليل رامز سركيس ونزار قباني)، يلاعبون الكلمات والصياغات وصولاً الى أفضل بناء لغوي جمالي ممكن، وفي مصاحبة ذلك الوصول الى أفضل خط ممكن لكلمات النص: الجمالية هنا شكل بارز ومضمر سابق لجوهر مكنون يسمونه المعنى.
بل إن خط الكلمة نفسه تعبير عن الإحساس بها، إذ تتقارب الكلمات في حال التركيز ووضوح المعنى، ثم تتباعد حين يغمض المعنى فيصل الأمر الى كلمتين كبيرتين تحتلان السطر الذي يتسع عادة لعشر كلمات. هنا الروح والجسد يتشاركان في تسطير الكلمات: «نون والقلم وما يسطرون».
لا بد من أن يغيرنا تبدل الأحوال والوسائل، ولعل استخدام الكومبيوتر وترك الكتابة بالقلم أقل إيلاماً مما حدث للخطاطين في مرحلتين عصيبتين: ذكر كراتشكوفسكي في كتابه «مع المخطوطات العربية» مشاهداته في بيروت الرعيل الأخير من ناسخي المخطوطات وقد صاروا عاطلين عن العمل بفعل وجود المطبعة وإنتاجها الوفير. وشاهدت كما شهد غيري خطاطي الصحف وقد فقدوا مهنتهم، ولم يبق من آثار جمالياتهم سوى أسماء الصحف الكبرى. نذكر هنا أن الخطاط البيروتي كامل البابا هو من خط اسم جريدتنا «الحياة» عام 1946.
الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى