صفحات سوريةميشيل كيلو

حجب الخفايا عن البرايا

null
ميشيل كيلو
هناك مسلمة تدمغ حياتنا، نجدها في أسلوب من التعامل مع المواطن يعتبره ضيفاً في بلاده، ليس له الحق في معرفة ما يجري من حوله، ناهيك عن حق المشاركة فيه.
وقد سادت في السنوات الأربعين الماضية صيغة للإعلام، تقول للمواطن: إن فلاناً وفلاناً قد التقيا وبحثا الشؤون المشتركة لبلديهما، وتدارسا ما يهمهما من أوضاع. هذه اللغة الخشبية تحجب حقيقة ما حدث، فلا يعرف أحد شيئاً، مع أن موضوع البحث والتدارس قد يهم المواطن وربما انعكس عليه.
تعكس هذه الصيغ طرقا في التفكير والتعامل، تتنكر للشفافية وتحصر الشأن العام في أشخاص بعينهم لهم وحدهم حق تقرير الأمور، فلا حاجة إلى مشاركة أي شخص من خارج دائرتهم في أعمالهم، وإلا تبلبلت أفكارهم، واضطربت رؤيتهم، وغابت الحقائق عنهم، واختلط الحابل بالنابل، واختلطت الأمور، وخاصة منها تلك المكرسة لخدمة المجتمع والدولة، التي يوجد عادة خلافات كبيرة حولها بين المواطنين، بحكم انتماءاتهم إلى مواقع اجتماعية ومنابت فكرية وأيديولوجية متباينة ومتناقضة، وبسبب مصالحهم المتشعبة والمتفاوتة.
ثم إن للعمل العام أسراره التقنية ومتطلباته النفسية والمعرفية، التي لا تتوفر في كل شخص، فهي، على حد قول أصحاب هذه النظرة، اختصاص نخبة قليلة من ذوي المواهب الخاصة، التي يفتقر إليها المواطن، بما أنها لا تنتمي إلى حياته الطبيعية، ولا يمكنه تعلمها. وتالياً، فإن نظام الأشياء يحتم ابتعاده عنها، وتركها لمن يصلون ليلهم بنهارهم كي يتملكوها لصالح الشعب والوطن. صحيح أن هؤلاء يخفون بواطن الأمور عن مواطنيهم، لكنهم يفعلون ذلك لمصلحتهم، وليس لأنهم ينكرون حقهم في معرفة ما يجري، أو يرغبون في إخفاء الوقائع عنهم. إلى هذا، فإن سلوكهم لا تمليه رغبتهم في الانفراد بأسرار لا يريدون أن تكون معرفتها عامة، وإن بدا احتكارهم لها جزءاً تكوينياً ورئيسياً من رأسمالهم الرمزي، المتصل بتفرد مواقعهم وأشخاصهم، ويعد مصلحة وطنية قبل أن يكون مكسباً شخصياً، فلا يجوز لهم التخلي عنه حباً بالشفافية أو بالعلنية أو بسواهما من ألفاظ براقة تخلب لبّ البسطاء، لكنها ليست من مستلزمات الإدارة الرشيدة والوطنية الصادقة.
يضيف أصحاب هذه النظرة أن معرفة الأمور يجب أن تبقى مقتصرة على النخبة، التي تكتسب شرعيتها من تمثيل الشعب، بقوة أفعالها صحيحة، فالمعيار هو هنا صحة الأفعال وليس عدد من يبتّون فيها ويتخذون القرارات بشأنها. وصحة الأفعال تتصل مباشرة بالرؤية الصائبة، التي لا تشوبها شائبة، ولا يخالطها ما ليس منها كالتشاور المفتوح الذي يدخل كل من هبّ ودبّ على خط القرار، بمن في ذلك من يعرفون جزءاً من الحقيقة، إما لنقص ما يملكونه من معلومات، أو لقصور في نظرتهم. من الخطأ الجسيم، إذاً، أن يستمع صاحب القرار إلى رأي هؤلاء، وأن يركن إلى مصادر معلومات خلاف مصادره، ومن ينفرد بالجلوس على قمة السلطة يرى ما لا يراه من هم أدنى منه، فلا يحق لهم التدخل في خياراته وقراراته، ولا بد أن ينفذوا ما يراه من دون تردد أو عوج، ويتبنوا ما يصدر عنه، لأنه الجهة الوحيدة العارفة بالواقع والمؤهلة للتحكم في مساراته.
لا عجب أن تكون شؤون الحكم من أسرار الدولة في عالم عربي تحكمه هذه النظرة، وأن تكون لغته وقنوات تواصله وأشخاصه ووقائعه اختصاص مهنة من نمط جديد تشبه مهنة كاهن العصر الفرعوني، الذي أتقن اللغة الهيروغليفية: وكانت سراً يجهله عامة الناس، تحفظ بواسطته ملفات الدولة ووقائعها وتتحول بفضله إلى أسرار مقدسة، خاصة بفرعون: الشخص الذي أضفت السرية طابعاً إلهياً وسرمدياً عليه، وحولت مساعديه وموظفيه إلى كهنة، لاتصالهم به، وإتقانهم اللغة التي لا يتقنها غيرهم من الشعب. في أيامنا كما في زمن الفراعنة: المعرفة سلطة، والسلطة تنتج معرفة، لكنها تحرص على ألا تدعها تصبح عامة، لأنها معرفة أسرار عمل الدولة، الذي يتوقف نجاحه على جهل العامة بمفاتيحه، ومنع تدخلهم فيه، إلا إذا أخذ صورة تأييد مطلق، أعمى، يحدد كهنة السلطة مضمونه ومداه وديمومته، فهو، في نظرهم، طقس من طقوس عبادة فرعون وليس تعبيراً عن رأي الناس.
تقدم العرب باتجاه الفرعونية وهم يظنون أنهم يتقدمون باتجاه العصر الحديث. واكتسبت حياتهم العامة، وخاصة السياسية / الرسمية منها، طابعاً نافياً للشفافية والعلنية والعمومية، حوّل الشأن العام إلى طقوس سرية، البشر أضاحيها وليسوا حملتها العارفين بأمورها المشاركين في تقريرها. لا داعي للقول: إن هذا النمط من تقسيم العمل السياسي أبعد الناس عن أوطانهم، وجعلهم يستغنون بالخوف عن شفافية السياسة، وبالعزلة الطوعية عن المشاركة فيها، وبالتقوقع الكامل على النفس عن حقوقهم. مع هذه الإنجازات، استراح الحاكم من الناس، واستراح الناس من السياسة، وها هي أمة العرب تعيش في سبات ونبات وتخلف صبياناً وبنات، بينما يعم الاستقرار كل قطر ومصر، وتبدو الأمة من بعيد، ولمن لا يعرفها، أسعد أمم العالم قاطبة، ينطبق عليها ما أطلقته عبقرية من عباقرة السينما في المغرب العربي على فيلم لها، يلخص اسمه “صمت الحملان” حالنا أحسن تلخيص.
يقول اللسان الشعبي العربي، وهو يكثف خبرته في الخيبات والمآسي: فالج، لا تعالج. ونقول مع هذا اللسان: ذنب الكلب أعوج. ونضيف بحزن: فالج، لا تعالج.
الخليج

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى