صفحات ثقافية

كيف رصدت آغاتا كريستي الحياة في الجزيرة السورية؟

null
سالار أوسي
لعل آغاتا كريستي أكثر وأشهر من تناولت عالم الجريمة، وكتبت الرواية البوليسية المعتمدة على الدراما التخيليّة، في القرن الماضي. وقد لازم اسمها هذا النوع من الروايات التي كتبت العشرات منها، وتحوَّل معظمها إلى أفلام سينمائية، حتى أصبحت مدرسة قائمة بذاتها في هذا الجانب. إلاّ أن كتاب كريستي الذي بين أيدينا، يخرج عن الإطار المذكور، ولا يمت بصلة إلى عالمها الروائي البوليسي. فهي في هذا الكتاب “هكذا عشت في سوريا”، الصادر عن دار الزمان للنشر بدمشق، ترصد حياة جزء من المجتمع السوري في منتصف ثلاثينيات القرن الماضي، وتصف طبيعة مدن وقرى وتلال الجزيرة السورية، من خلال مشاهداتها العيانية لتلك المنطقة النائية في أقصى الشمال السوري، ومن خلال العيش بين أبنائها والعمل معهم.
تجري أحداث هذه الرواية في مدن (القامشلي، عامودا، الحسكة)، والتلال الأثرية (شاغر بازار، تل براك، تل موزان، تل أبيض)، والقرى المحيطة بها. وتبدأ هذه الأحداث منذ وصول آغاتا كريستي إلى المنطقة برفقة زوجها ماكس (عالم الآثار الإنكليزي)، وباقي طاقم البعثة الأثرية المكون من السائقين الأرمنيين اريستيد وميشيل، والمهندس ماك. للتنقيب في تلال الجزيرة بين أنهار الجغجغ والخابور والبليخ. وإذ يبدأ ماكس بالحفر والتنقيب وسبر أغوار تلك التلال لاكتشاف الغامض في تاريخ تلك المنطقة التي انطلقت منها حضارات عديدة، تنتقل كريستي بحسها الروائي إلى ضفة أخرى، فتتابع شكل الحياة التي يعيشها سكان المنطقة، وترصد طريقة تفكيرهم ونظرتهم إلى الحياة والموت والاقتصاد والعمل والعلم، وعلاقة الرجل بالمرأة، وتكشف عن الاختلاف في العادات والتقاليد بحسب الاختلاف العرقي والديني داخل المجتمع.
يمكن القول إن كريستي في عملها هذا، أنجزت رواية وثائقية بامتياز. فالأماكن التي تجري فيها الأحداث لا تزال قائمة وتحمل أسمائها القديمة المذكورة، وشخوص الرواية هم أناس حقيقيون عاشوا في القرن الماضي، وربما لا يزال بعضهم على قيد الحياة حتى هذه اللحظة. لذلك فإن الغرائب والطرائف والنوادر التي تملأ صفحات الرواية لا تخفف من واقعيتها، بقدر ما تكشف عن جوانب غير معروفة في حياة هذا الجزء من المجتمع السوري في تلك المرحلة.
تشير الكاتبة إلى صعوبة إقناع القرويين بالعمل مع البعثة في الحفريات، فهم يرددون: “ما حاجتنا إلى المال، فقد كان موسم الحصاد خصباً والغلال وفيرة، ولبساطة أولئك الناس اعتقدت جازمة بأن هذا المكان هو الجزء السعيد من العالم”. وتتحدث عن النساء الكرديات والعربيات واختلافهن، في إشارة إلى التنوع العرقي في تلك المنطقة: “في هذا الجزء من العالم تتساوى القرى الكردية والبدوية عدداً. إنهم يعيشون الحياة نفسها وينتمون إلى دين واحد، ولكنك لن تخطئ في تمييز المرأة الكردية عن المرأة البدوية. النساء البدويات هادئات، يؤثرن العزلة وحين تتحدث إليهن يدرن وجوههن ونظراتهن تتجنبك، يرتدين الملابس الداكنة والقاتمة الألوان. لا تجد امرأة بدوية تتحدث مع رجل. أما النساء الكرديات فيرتدين الحلل البراقة، يعصبن رؤوسهن بمناديل صفراء برتقالية، وهن حسناوات ومرحات، فارعات الطول يمشين بقامات منتصبة تظهر عليهن مخايل الزهو والترفع والإباء. المرأة الكردية تجد نفسها مساوية للرجل”. كما لا تنسى الكاتبة التوقف عند التنوع الديني، فتأتي على ذكر تجمعات الأرمن، وتصف أحوالهم، وبؤسهم ومآسيهم من جراء المذبحة التي تعرضوا لها على يد الأتراك، وتعرج على أوضاع المسيحيين الآخرين، من غير الأرمن، لتصل إلى أحوال الإيزيديين، وطقوسهم وعقائدهم والمظالم والمضايقات التي يتعرضون لها من قبل المتعصبين الإسلاميين من الكرد والعرب.
تتوقف آغاتا كريستي في أكثر من مكان في هذه الرواية، على خصائص هذه المجموعات الثقافية، وتكشف عن صراعاتها من خلال صراعات العمال الذين كانوا يعملون مع البعثة في الحفريات، فأرستيد وميشيل الأرمنيان لا يتورعان عن التصريح بأنهما ينزعان دوماً إلى دهس أي مسلم بالسيارة، والعرب والكرد كانوا دائماً يسخرون من ديانة الإيزيديين ويعتبرونهم كفاراً، وكانوا يمقتون الطاقية التركية على رؤوس العمال الأتراك “كان المسلمون من العرب والكرد والتركمان، يصرون على أن تكون العطلة في يوم الجمعة، والمسيحيون من الأرمن والسريان يصرون أن تكون العطلة في يوم الأحد، فاضطر ماكس أن يجعل من الثلاثاء يوم عطلة”.
تشير الكاتبة باستغراب إلى كيف أن الشرقيين لا يقيمون وزناً للحياة: “أتت امرأة تصرخ وتولول راجيةً ماكس في أن يتوسط لإبنها كي يطلق سراحه من السجن، فسألها ماكس عن السبب في سجن ابنها. فقالت أنه سُجن ظلماً، أنه فقط قتل رجلاً!”.
الرواية مليئة بالأحداث الطريفة التي لا تخلو من الألغاز والإشارات المرمّزة إلى التناقض لدى العقلية الشرقية.
المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى