بدايات ذات شأن: المستقبلية في ميلانو
أمبيرتو إيكو
تصادف هذا العام ذكرى مرور المئويّة الأولى على ظهور حركة “فيوترست مانيفستو” (أي الحركة المستقبليّة)، وهي تعبير عن قيمٍ فنّيّة أطلقها الشاعر الإيطالي “فيليبو توماسو مارينيتّي” وتمّ نشرها في صحيفة “لو فيغارو” الفرنسيّة في العشرين من فبراير عام 1909. وفي محاولة للاحتفال بذكرى هذه الحركة وإعادة تقييمها، أقام العديد من المتاحف في أوروبا معارض، وكان قد أثير جدال حاد حول معرض في باريس أشار القائمون عليه؛ إلى أنّ الحركة المستقبليّة قامت بتقليد الحركة التكعيبيّة في حين تصرّ مختلف المعارض الإيطاليّة على أصالة الحركة المستقبليّة وتنوّعها.
ومن بين المعارض الفنية على اختلافها، لم يسحرني سوى معرض واحد في قصر ريال في ميلانو. وتذمّر أحد النقاد الفنيين بسبب غياب لوحات الحركة المميّزة والقديمة الطراز على غرارأي “ديناميّة لاعب كرة القدم” لأمبرتو بوتشيوني أي “جنازة غالي الفوضوي” لـكارلو كارّا. بيد أنّ مسألة مماثلة لا يجدر بها إزعاج أحد، ليس لأنّه تمّ عرض هذه الأعمال مرّاتٍ عدّة من قبل بل لأنّ المعرض يتضمّن لوحاتٍ أكثر وأفضل.
وبدل أن يُظهر المعرض أبرز أعمال الحركة المستقبليّة، أظهر ما سبق الحركة المستقبليّة وما رافقها من أعمال ذات صلة، وبوجهٍ خاصّ في ميلانو حيث نمت هذه الحركة قبل أن تنتشر في فرنسا. ويتطرّق المعرض أيضاً إلى ما تلا الحركة المستقبليّة من أعمالٍ أنجزها بعض أهمّ الفنّانين المعاصرين في إيطاليا، وبالتالي من المسلّم به أنّ تقاليد الفنّان تؤثّر دائماً في مدارس وفنّانين آخرين، إلا أنّ الأكثر غموضاً هو ما حدث قبل عام 1909.
يعتقد معظم الناس أنّه كان ثمّة واقعيّين قبل الحركة المستقبليّة على غرار الرسّام فرانشسكو ميشتّي (الذي كثيراً ما قدّره الشاعر غابرييل دامّونتزيو) ومصوّري سيّدات المجتمع كـجيوفنّي بولديني، هذا فضلا عن رمزيّين أو تقسيميّين كالرسّام غايتانو بريفياتي، علماً أنّ المنتمين إلى الطبقة فوق المتوسّطة الذين غالباً ما يقصدون المتاحف وصالات العرض أعجبوا بهؤلاء الرسّامين كافّة. ومن ثمّ وقعت مشكلة غير متوقّعة وهي أحد تلك الاضطرابات السريعة، كثورةٍ ما أو كارثة طبيعيّة، آلت إلى تغيير التاريخ. فظهرت فجأةً الحركات الطلائعيّة بما فيها الحركة المستقبليّة.
ووفقاً لـ”نظريّة الكارثة”، لعالم الرياضيّات الفرنسي ريني فريدريك تومز، فالكارثة هي “طيّة” مفاجئة أو تغيير ما لا يسبقه أيّ تعديلٍ البتّة بل يليه والعكس صحيح. بعبارةٍ أخرى، قد تشمل الكوارث نوماً أو موتاً، تماماً كانطلاق أغنية الجندي الفرنسيّ قبل موته بلحظة حين كان جاك دو لاباليس لا يزال حيّاً، ولكن وفقاً لبعض التحليلات قد تشمل الكوارث أيضاً أحداثا تاريخيّة متنوّعة كثوراتٍ أو أعمال شغب في السجون، حتّى أنّ أيّ علاجٍ رائع قد يعتبر بمثابة كارثة هو أيضاً.
لكنّ المستقبليّة لم تكن “كارثة” وفقاً لما يظهر في المعرض في ميلانو. فجلّ ما يحتاج إليه المرء هو النظر إلى الأعمال المعروضة ليدرك أنّ معالم حيويّة المستقبليّة انطوت في أماكن لا أحد يتوقّعها وذلك في أوائل القرن العشرين، أي قبل إنجاز روائع الحركة المستقبليّة عندما كان كارّا وبوتشيوني لا يزالان يرسمان لوحاتٍ رمزيّة؛ علماً بأنّ الانتقادات حول هذه الأعمال اعترفت أحياناً بمصدر نشأة المستقبليّة.
وفي عام 1904، رسم الفنّان جيزيبي بيليتزا دا فولبيدو لوحةً بعنوان (أي “سيّارة على ممرّ بينيس”) وفي هذه اللوحة تصعب رؤية السيّارة، بيد أنّ الطريق المصنوع من شرائط الطلاء السريع يظهر بوضوح تامّ. وفي عام 1907، رسم الفنّان بريفياتي لوحةً بعنوان (أي “عربة الشمس”) التي ترمز بشدّة إلى تمثيلٍ ملموسٍ لحركة الشمس التشنّجيّة والسريعة. إنّها مجرّد بضعة أمثلة، لكن يبدو وكأنّ الرمزيّين الأخيرين، على غرار الرسّام الإيطالي ألبرتو مارتيني، يبشّرون بالحركة المستقبليّة في حين كان لا يزال المستقبليّون المقبلون يوجّهون نظرهم إلى التقسيميّين والرمزيّين.
وبين عامي 1904 و1907، كان رسّام آخر هو رومولو روماني يرسم صور أشخاصٍ وأشكال غير محدّدة تحمل عناوين مثل “ولولة” و”تلهّف”، وليس بوسعي سوى أن أعتبر هذه اللوحات رمزيّة ومستقبليّة وتعبيريّة وتجريديّة على حدّ سواء، لكنّها لم تكن واضحة كاللوحات المستقبليّة القادمة. فعندما تنظر إلى تلك اللوحات تستطيع أن تدرك سبب انتماء روماني إلى الحركة المستقبليّة ليتحرّر بعد ذلك وكأنّه يسعى نحو أمورٍ أخرى.
ويقترح معرض المستقبليّة في ميلانو العديد من الانعكاسات على خلفيّة السؤال عن الحركات الفنّيّة. عندما نلقي نظرة إلى التاريخ، نميل إلى رؤية أحداثٍ عظيمةٍ على غرار كوارث تومسيان؛ إذ اجتاح الغضب سجن الباستيل واندلعت الثورة الفرنسيّة، وهجم الآلاف من الفقراء والبؤساء على قصر الشتاء واندلعت الثورة الروسيّة، فضلا عن أنّ أحدهم أطلق النار على الدوق النمساوي فرانز فردينان وأدرك الحلفاء أنّهم لا يستطيعون الاستمرار بوجود القوى المركزيّة، بالإضافة إلى اغتيال الزعيم الاشتراكي الإيطالي جياكومو ماتّيوتتّي وتحوّل الحركة الفاشيّة إلى الدكتاتوريّة.
بيد أنّه تمّ استخدام هذه الأحداث كذرائع أو عناوين لنتمكّن بالتالي من تحديد تواريخ الأحداث التاريخيّة. لم تكن هذه البدايات ذات شأنٍ فالأحداث العظيمة التي باتت رمزاً كانت تنشأ تدريجيّاً من خلال تفاعل التأثيرات والنمو والاضمحلال. إنّ التاريخ مشوّش وليّن في الوقت عينه. وهذا ما علينا تذكّره عندما نأخذ بعين الاعتبار الفنّ والتاريخ على حدّ سواء لأنّ كوارث الغد غالباً ما تكون تتمّة لليوم.
جريدة الاتحاد