صفحات ثقافيةطيب تيزيني

الظلامية في مواجهة الثقافة

null
د. طيب تيزيني
أصدرت إسرائيل قراراً بمنع احتفالية “القدس عاصمة للثقافة العربية” لعام 2009، فجاء هذا القرار “الثقافي” متمِّماً لما تفعله إسرائيل من جرائم عسكرية واقتصادية وغيرها بحق الشعب الفلسطيني. وللحق، لم تقم سلطات الاحتلال الإسرائيلي في القدس بعملية جديدة، بل هي -في أساسها التاريخي وفي بنيتها الأيديولوجية- تفعل ما يستجيب للمبدأ البنيوي الحاسم والناظم لها، وهو كونها كياناً عرقياً ظلامياً: إنها لا تعترف بالآخر، مع أن هذا “الآخر” تكوَّن تاريخياً في ما حولته إسرائيل إلى وطن لها، خاص بها دون غيرها. ومن ثم، لم ترفض غيرها (أي الفلسطينيين) من حيث هم أصل أو أحد أصول التاريخ الفلسطيني فحسب، بل ترفض كذلك أن يكون هؤلاء شريكاً في امتلاك فلسطين، التي عاشوا في أفيائها قروناً، فالأمر يقوم، والحال على هذا النحو، على نمط مرذول وخطير من العرقية الظلامية.
من هنا، كان خطأ تاريخياً كبيراً، حين ألغت الأمم المتحدة عام 1991 القرار الذي حمل رقم 3379 تحت ضغط الولايات المتحدة الأميركية، والذي وسم الصهيونية بكونها “نزعة عنصرية”، ولا سبيل إلى الخلط بين الصهيونية المجسَّدة عملياً بدولة إسرائيل، وبين اليهودية ومن يمثلها من اليهود المناهضين الرافضين لها. وثمة وجه من المسألة يجعلها أكثر تعقيداً وإشكالية، وهو أن الصهيونية -وهي التي تكونت في فلسطين بمثابة عقوبة للشعب الفلسطيني على الجريمة التي ارتكبت في ألمانيا النازية بحق اليهود و(غيرهم)- تظهر هنا هي ذاتها بمثابة جريمة بحق ذلك الشعب. إنه جرم مركب مُسخَّر في خدمة جُناة جدد. والملفت المثير هنا أن منظمة الأمم، التي تكوَّنت -في الأساس- للدفاع عن المظلومين من الشعوب والمجموعات في مناطق متعددة من العالم، تتحول بفعل قوة عسكرية واقتصادية وأيديولوجية طائشة إلى منظمة لحماية الظلَمة والعابثين بحقوق الإنسان، في كثير من الأحوال والأصقاع.
وإيغالا في تلك القوة الطائشة، تمَّ الكشف عن أن الاعتداء السياسي والعسكري على شعب فلسطين العربي لا يجد مُستقراً له، إنّ لم يجد تسويفاً تاريخياً وتنظيراً ثقافياً حضارياً، وهذا ما يجري البحث فيه تحت مصطلح “العمق التاريخي الحضاري”، الذي بموجب الإقرار فيه تكتسب تلك القوة شرعية دولية قانونية وإنسانية (زائفة). في هذا الإطار التاريخي الحضاري والثقافي، يأتي العمل الشائن الذي ارتكبته إسرائيل بحق الفلسطينيين بوصفهم شعباً يمتلك هُوية محدَّدة، هي العربية. وفي هذا، لم تحتمل الابقاء على هوية هؤلاء التاريخية المذكورة، بل سعت وتسعى لإبادة هذه الهوية ومعها الشعب الذي يحملها.
إن منع احتفالية “القدس عاصمة للثقافة العربية”، إنما هو ذو بعد ثقافي حضاري، قبل أن يكون ذا بعد سياسي أو أمني، فهو يهدف إلى تصديع ما يجعل الفلسطينيين، ما هم عليه، أي شعباً يجسد العمومية والخصوصية، اللتين تؤسسان لكونه عربياً فلسطينياً.
وإذا دققنا في تلك المسألة الأخيرة، وجدنا أنها تمثل خصوصية بالغة الأهمية التاريخية التكوينية والسياثقافية الراهنة، ففي جدلية العمومية والخصوصية المذكورة يُفصح عن نفسه واقع كثيف الوجود بصيغة الفلسطيني العربي، الذي لا يوجد في فلسطين وحدها، بل كذلك في الوطن العربي عامة، وبصيغة العربي الفلسطيني، الذي لا يعبر عن ذاته في حضور قومي عمومي فحسب، بل كذلك في تجليات وطنية مشخَّصة في هذا القطر العربي وذاك: إنك لن تستطيع القضاء إن لم نقل إبادة الشعب الفلسطيني، إذا لم تقض على الوطن العربي كله. من هنا، يظهر الأمر كأنه حالة عصيَّة على قوى الإبادة التاريخية أن تُبيد أمة متسعة الأبعاد الجيواستراتيجية والثقاحضارية. ها هنا تبرز الثقافة العربية، بالمعنى الإناسيّ (الأنثروبولوجي)، بوصفها حالة لا يمكن تجاوزها، إلا إذا تحللت في ثقافة أخرى، أو إذا دُمرت حواملها الاجتماعية (الوطنية).
ولن يصح ذلك القول الذي أطلقناه، إذا كانت هنالك من وراء القصد المذكور ثلاثة عناصر كبرى، هي الإرادة التاريخية والوعي التاريخي والفعل الناظم لهما، وبهذا نكون قد ألححنا على أن الأمر لا يدخل في إطار مسلَّمات عابرة للتاريخ، وإنما صنع بشري مفعم -الآن- بكل المسؤولية.
جريدة الاتحاد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى