تمهيد في نعي الثقافة العربية
محمد الحدّاد
تحاول كل المجتمعات أن تجد صياغة مقبولة بين ذاكرتها الجمعية وضرورة التكيف مع ضرورات العصر، ويفترض أن تتطور الثقافة وتنمو في اتجاه الصياغات الأكثر نجاعة في تحقيق هذا التوازن، بينما تتقلص المواقف المتطرفة كي لا تحول دون تحقيق انسجام واسع يحفظ الشروط الدنيا للاجتماع.
لكن إذا انقلبت الصورة، وأصبحت المواقف المتطرفة هي الغالبة، كانت النتيجة أحد أمرين: فإما أن تحكم المجموعة على نفسها بأن تعيش خارج الزمان، بكل ما يعنيه ذلك من عجز وانهزام وتخلف، أو أن تساير الأوضاع دون قدرة على فهمها والتحكم فيها، فكأنها ورقات خريف في مهب الرياح لا حول لها ولا قوة.
وما أصبح يُصنف ضمن دائرة الثقافة عندنا خلال السنوات الأخيرة هو أقرب إلى أحد الأمرين: فإما هو طرب وترويح عن نفوس أتعبتها البطالة وكلّسها الاسترخاء، أو هو ذاكرة الماضي تردّد وكلمٌ يقال على المنابر دائما دون أن يميد لما يقال المنبر. وثمة انهيار خطير ومتواصل في مستوى الذوق العام والفهم العام، وخطأ نوهم أنفسنا بأنه أثر للعولمة أو لدخول الوساطات الجديدة مثل الانترنت. فالحقيقة أننا لا نشهد انتقالا من نمط ثقافي إلى آخر بل ما نشهده تراجع عن المكتسبات الثقافية التي تحققت في مجتمعاتنا منذ ما عرف بعصر النهضة، وقد كان قائما على التواصل مع الثقافة العالمية، ولو بالنقد، ونظن اليوم أننا نبلغ الاكتفاء الذاتي ولم نعد بحاجة إلى التعلم والانفتاح، وأننا أصبحنا مستقلين رائدين.
فأين هي هذه الثقافة الذاتية الأصيلة التي بشرنا بها ومنيناها أنفسنا؟ هل نراها في المستوى المتدني للتكوين في الجامعات؟ أم نراها في برامج الثقافة الرسمية التي اخترقها الإسفاف من كل جانب؟ أم في استعصاء اللغة على الكلام وتدني قدرات التعبير في السياسة والصحافة، مع ما يبذل لتضخيم الدراسات اللسانية لأنها محايدة سياسيا ومذهبيا؟ بالأمس كان يطلب من المثقف عندنا أن يبين موقفه من المعركة بين التاريخية والتأويلية أو بين الوجودية والماركسية، والآن يطلب منه أن يتخذ موقفا مما حصل في معركة أهلية بين سنّة بغداد وشيعتها جدّت قبل عشرة قرون، فبعد القومية الغائمة أصبحت الهويات المذهبية هي ثقافة الجموع.
لو كان لي من الأمر شيء لفرضت على كل الجامعات ووزارات الثقافة وهيئاتها أن تعيد سياسة البعثات العلمية إلى الغرب، لأننا فقدنا ما تعلمناه بسبب طغيان الصناعة الثقافية المحلية، وقد أصبح عائقنا أمام التطوير الذاتي هذا الكبرياء المزيف الذي يحوّل الضعف والتخلف أصالة نعتز بها أيما اعتزاز. والأدهى من ذلك أن العالم يتطوّر ويعمّق البون بينه وبيننا ونحن لا نبالي أو ربما لا نعي، وكان أجددانا يظنون أنهم سيلحقون بالغرب أو ربما انهم تجاوزوه، ووضعنا اليوم أقرب إلى إفريقيا منه إلى الهند أو الصين، فضلا عن أن يُقارَن بالغرب.
هل نقبل الطرح الذي يقول إن الخوض في الثقافة ترف وان الأفضل للمجتمعات النامية أن تتوجه مباشرة إلى ما هو عملي، فليس مهما كيف يفكر الناس، المهم أن يشتغل الميكانيكي بإصلاح السيارة والفران بتوفير الخبز وأن ينفذ المهندس بدقة التعليمات التي تعلمها في الكتب؟ هل تكون مجتمعات دون ثقافة أرحم من مجتمعات لا قدرة لها على تجاوز ثقافة الماضي والتفاعل المبدع مع العصر، كلما طرحت فيها كلمة ثقافة إلا وقلبتها قضايا من الماضي السحيق تريد بها أن تفهم قضايا الساعة؟ هل نحن واهمون عندما نتحدث عن إمكانية نهضة ثانية أو مرحلة نقدية أو تجديد وإصلاح وتنوير؟
من الواضح أننا كنا مفرطي التفاؤل قبل عشرين سنة عندما ظننا أن نهاية الأيديولوجيات ستعني بداية الإبداع والتحرر الفكري، فبعد صناعة الأيديولوجيا دخلنا مرحلة صناعة الإسفاف، والخيار المتاح أمامنا هو بين ترداد الذاكرة القديمة أو العيش دون ذاكرة، ونحن في صدد فقدان القدرة على التواصل أو حتى التوصيف الواضح للأشياء، وسنزداد انقطاعا عن المتاح العالمي في المعرفة، وسيحتل الريادة الثقافية عندنا الوعاظ ذوو الأصوات الجهيرة والعقول الصغيرة، وسيتحولون إلى مراجع الفكر ومصادر الحكمة، وحولهم الدراويش يزعمون أنهم ينالون من بركاتهم ويتواصلون مع حقائق الكون بالفناء والكرامات. هذه كانت حالنا الحقيقية عشية النهضة الأولى في القرن التاسع عشر، وإليها نحن عائدون بعدما بات واضحا أن تلك النهضة قد خابت وضعف الأمل في انطلاقها من جديد، وبعد أن أصبح التهديد قائما بأن القليل من مكاسبها سوف يضمحل مع مرور الأيام وتوالي السنين.
هذا تمهيد في نعي الثقافة العربية إلى حين الإعلان الرسمي عن وفاتها.
الحياة