صفحات ثقافية

“دمشق” في مسرح المدينة: البحث الشائق عن أجوبة الاستشراق المستقبلي

null
هل يمكن القول أن ليس ثمة مفاجآت في جعبة قلب المسرحية “دمشق” والتي قدمت لعرضين متتاليين على “مسرح المدينة” في بيروت، وأثارت الكثير من الضجيج والاحتجاجات من الدمشقيين الذين رأوا في شخصيات العمل، نماذج منمطة وبالغة السلبية، مما أدى الى طرح السؤال حول الغاية من تقديمها ككائنات حقيقية تعيش في العاصمة السورية؟
أكثر ما يبدو واضحا من خلال قراءتنا للعمل، أن النص لم يكن مشغولا بهدف مسرحي بحت أو لتقنية تجريبية، كما هي الحال في العديد من المسرحيات الوافدة من بقاع أوروبا البعيدة. بل لغرض يقارب الاستشراق كنتيجة عبر شبكة من الأسئلة المطروحة، الا أنه يبحث دائما عن أجوبة تغذي هذا الاستشراق المستقبلي. تدور الحوادث جميعها في ردهة فندق في دمشق، وقد تعمّد الاخراج تثبيت هذا المشهد على امتداد لحظات العمل بغية الإشارة الى أن الأرض التي يتحرك في مساحتها التفاعل البشري والفكري بين الانسان و”الآخر” هي جد ضيقة بقدر ما تحتمل تباعدا في الطوبوغرافيا. المكان الواحد، هو مكان مضغوط، يتكثف هواؤه أو يتمدد بحسب مستوى حدة التصادم أو الالتحام أو التلامس بين الشخصيات التي اختيرت لتختلف في المزايا والخلفيات الاجتماعية، لكن من دون أن يؤدي هذا كله الى امكان حماية نفسها، أو أفقها الخاص من الالتقاء مع الآخر. يمثل التركيز على حضور المكان الواحد بصمة خفية تضاف الى مزايا هذا العمل الرائع. لأنه المكان الذي لم يؤثر ثباته في بهتان الشخصيات، أو الحوارات، بل كان يؤكد على الدوام، أنه ثانوي وواهن، ومصيره يتشابه ومصائر الشعوب الأوروبية والعربية على السواء. هو مجرد ردهة فندق يتم تجريدها من حيزها أو جغرافيتها، باستثناء الاحتفاظ برمزية واحدة تخصه وتظل حية على امتداد العمل وهي رمزية الردهة التي تحتمل استعمالها كرقعة للانتظار. القصة تتناول بول، مؤلف مناهج تعليمية للغة الإنكليزية، يأتي الى دمشق حاملا برنامجا تعليميا متطورا، بغية بيعه من أحد معاهد اللغة في العاصمة السورية. الا أن مندوبة المعهد منى، تطلب منه إضفاء بعض التعديلات التي تتلاءم وطبيعة المجتمع السوري. هنا تبدأ الإضاءات والتضمينات التي أرادها كاتب المسرحية بالظهور أمامنا، وذلك من خلال مناقشات حادة بين بول ومنى، وهي كلها تقع ضمن دائرة استعراض الاختلاف في العادات الدينية والاجتماعية بين المجتمعين السوري والاوروبي. إضافة الى الاشارة الى النظم السياسية التي تشكل قشرة الهيكل الذي يحدد طبيعة الحياة المجتمعية على الصعيد الفردي بشكل خاص. غير أن بول سوف يضطر الى مغادرة الفندق متجها الى بلاده اسكتلندا للاحتفال بعيد الحب مع زوجته هناك. لكنه لا يتمكن من ذلك، فعلى طائرته التوجه الى بيروت أولا، لكن مطار العاصمة اللبنانية أقفل بسبب تفجير قنبلة داخله، الأمر الذي فرض على بول البقاء في ردهة الفندق ليلتقي منى. منى فلسطينية لاجئة اضطرت لأن تعيش في لبنان ومن ثم تنتقل الى سوريا. هناك أيضا وسيم، مدير المعهد، شخصية انفعالية منافقة، لا يلتزم النظريات التي تطفو على لسانه أمام طلابه. يفعل سرا ما يعلن أنه خطأ أمام الناس، وتستميله نفسه الى منى، فيما تأخذه فكرة أخرى أو حلم بتولي منصب سياسي وهو الذي اعتقل في السابق لصراحته في عرض أفكاره، الا أن كل هذا “النضال” أصبح في الماضي، لأن وسيم لا يتحرك خارج إطار منفعته الذاتية. أما الشخصية الأكثر قلقا وضعفا في العمل، فهي شخصية عامل الاستقبال زكريا، شخص تتلاعب به خيوط الشهوة الجنسية والحلم الكلاسيكي بمغادرة دمشق، والوصول الى هوليوود عبر مخطوطة قصة حياته التي كتبها بنفسه في أوقات متقطعة. زكريا ابتلعته دمشق الفخمة وحجبته بالكامل عن أهله، لتتطور في دواخله فكرة الهجرة كالكثير من شبان العالم العربي، فلا يرى في النساء الاسكتلنديات سوى نموذج سهل للجنس، اذ هن بالنسبة اليه عاريات على الشاطئ، يتمددن ويتلامسن مع الرجال من دون حياء، فيساوي هذا بالنسبة اليه، مدخلا للجنس السهل، ويصبح هذا الأمر هاجسا عنده أو هدفاً لا يمتلك غيره هذا المسكين، الذي ينتحر في النهاية بعدما رفض بول أخذ قصته معه الى هوليوود.
أكثر ما يلفت في هذه المسرحية، الحوارات التي تأخذ مجراها بين بول ومنى بشكل خاص، وتدخُّل وسيم فيها من وقت الى آخر، وحيادية زكريا الذي يغذّي حضوره أو يؤجج فكرة بول عن المجتمع السوري. وتشكل تلك الحوارات محفزا لارغامنا على سؤال أنفسنا عن صورة العربي في مجتمعات الدول الأولى كبريطانيا واسكتلندا وأميركا، وما الذي يساهم في إيصال هذه الصورة التي تختزن الكثير من التشويه من دون أن تبتعد أيضا مسافة كبيرة عن الحقيقة. هل هو الاعلام الغربي؟ أم هي أنشطة الجماعات التي تستخدم الدين كذريعة للقتل؟ أم السياسة الأميركية والبريطانية في أوائل القرن الحادي والعشرين تحديدا (غزو العراق وأفغانستان ودعمهما الأعمى لإسرائيل على حساب عملية السلام، وما افتعله جنودهما في أبي غريب وغوانتنامو مثلا والالتباس القائم حول دارفور وغيرها وغيرها)، وهي السياسات التي أنضجت الكثير من الحقد والكراهية في النفس العربية تحديدا حيال إنسان تلك المجتمعات، وغلّفت الوعي الغربي الانساني بكيس من الظلام، وشكلت اليد التي حملت البيكار لتحدد المسافات الهائلة بين إنسان وإنسان، ولتجدنا كأناس عالقين داخل كلمة “إرهابي” فقط لأننا نحمل هوية عربية. لكن على صعيد آخر، أليست الأنظمة العربية أيضا مسؤولة عما أصاب صورتنا من تشوه لدى المجتمعات الغربية؟ وفي ظل غياب الخطط التنظيمية الاجتماعية على المستوى المدني، وعدم وجود أي استقلالية سياسية ذاتية أو مشاريع إنمائية على المستويين الاقتصادي والتعليمي، أليس هذا الانسان إنتاجاً سوسيولوجياً متوقعاً؟
الا أن ما يقع خلف هذه الأسئلة، هو كيفية تعزيز التواصل الانساني الانساني بين مجتمعات وأخرى، في خضم الزحام السياسي وسلطة الاعلام على مجتمعات دول الشمال بشكل خاص. وما الذي يؤدي بفنانين كديفيد غريغ كاتب المسرحية، الى اتخاذ موضوعات الشرق الأوسط مثلا كجسم غني يحرض على الخلق. المسرحية تعتبر نموذجا تختلط فيه الرغبات، من حب (بول ومنى) وجنس (زكريا وأحلامه) وشهوة. كما يتغير مناخ النص بين ألم وقلق وصدام (بول ووسيم) وخيبة (انتحار زكريا الذي يطوي الكثير من الرمزيات السوسيولوجية التي أرادها الكاتب) وتواصل بين ثقافتين مختلفتين والإلتزام الايديولوجي (شخصية وسيم)، وتصادم العقل والعاطفة، ومصلحة الفرد والقيم المجتمعية (يتردد بول في ترك دمشق بعد أن تجرفه العاطفه في اتجاه منى)، والاستعراض السردي الذي تقوم به عازفة البيانو الاوكرانية خلال العمل، ويهدف الى اطلاعنا على لحظات العيش اليومي الدمشقي، كما العزف الذي تقوم به ويشكل فواصل تريح المشاهد وتغذي الخشبة برومنطيقية تغلف العلاقة بين بول ومنى، ذلك كله متزامنا مع وجود شاشة تلفزيونية صغيرة تستعرض الأخبار على قناتي “العربية” و”الجزيرة”، لتعزيز الاشارة الى تأثير البصري على ما هو خلف الستارة السياسية في العالم ككل.
ديفيد غريغ واحد من أبرز كتاب المسرح التجريبي في اسكتلندا، والمسرحية نفسها كانت قد عرضت للمرة الأولى على مسرح الترافيرتس في أدنبره، قبل أن تتنقل لثلاث سنوات بين أميركا وروسيا، لتكمل جولتها بدعم من المجلس الثقافي البريطاني، ضمن خطة تهدف الى تقريب الجمهور العربي من المسرح البريطاني الذي يتناول صورتهم، وتفعيل هذا الأمر من خلال مناقشات مع الجمهور بعد كل جولة عرض. تم عرض المسرحية ي دمشق (بعد إخضاع النص لبعض التعديلات لجعله ملائما للجمهور السوري) ولبنان، قبل أن تعرض في تونس والأراضي الفلسطينية المحتلة ومصر والأردن. وهي وإن اتخذت من العاصمة السورية عنوانا لها، الا أنها حملت الخطوط العريضة والثقيلة لأفق مهشم يعمل الفن على ترميمه، وهو أفق رؤية الانسان لأخيه الانسان عبر الآلاف من كيلومترات الجغرافيا.

مازن معروف
النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى