الصحافة الالكترونية: عالم الحرية الافتراضي
بقي موقع “مرآة سورية” لأربع سنوات متتالية يضع عبارة “نطالب الحكومة بالتوقف عن حجب المواقع الالكترونية” في صدر صفحته الأولى، لكنه ومنذ سنتين لم يبق له سوى “صفحة أولى” حملت رأساً منكساً بعد حجب الموقع نفسه، فيما تشكلت مجموعة الكترونية حملت اسم “لا لحجب المواقع السورية” على منتدى الفيس بوك، لكن بعد عدة أيام أغلقت الحكومة هذا الموقع نفسه.
الإغلاق أو الحجب طريقتان للرقابة الأمنية على مواقع الانترنت. هناك طرق أخرى تخطر بين الفينة والفينة لأجهزة الرقابة الحكومية، كالقرار الذي لم ينفذ –لاستحالته- بتسجيل كل المواقع السورية لدى وزارة الإعلام، وإغلاق كل المواقع التي لا تلتزم بالتسجيل، أو كالبدعة الأخيرة لوزارة الاتصالات التي قضت بمراقبة التعليقات وعدم نشر الآراء التي لا تحمل الاسم الصريح لكاتبها… ومع ذلك تبقى المساحة الموجودة لحرية التعبير على الانترنت أعلى بمراحل من نظيراتها على وسائل الإعلام المطبوعة.
قد يقول قائل، إن تفكير الرقابة السورية بحجب المواقع كان سابقاً لتفكيرها بتوفير خدمة الانترنت في سورية، لكن الحقيقة أن مراقبة فضاء الشبكة، كمراقبة الفضاء الخارجي، تكاد تكون مهمة مستحيلة….
إلا أن السؤال الغائب لا يتعلق فقط بكيفية تعامل السلطة مع مواقع الانترنت كأحد وسائل التعبيرعن الرأي، بل يتعلق بالآلية السوسيولوجية التي يعمل بها الانترنت في المجتمع السوري. فإلى أي درجة تعكس مساحة حرية التعبير الموجودة على الشبكة، المساحة الموجودة في الشارع، بل أكثر من ذلك، إلى أي درجة يؤثر حراك الآراء في الفضاء العنكبوتي على الحراك السياسي الفعلي؟
من يراقب آليات المنع والحجب للمواقع الالكترونية في سورية، لن يستطيع تركيب لوحة الأحجية، مثلاً: لا يسمح بدخول جريدة النهار والشرق الأوسط، لكن يمكن مشاهدتهما على الانترنت، بينما جريدة القدس العربي والمستقبل ممنوعتان من الدخول ومحجوبتان على الشبكة أيضاً، تحجب مواقع أخبار الشرق، الرأي، إيلاف، الحوار المتمدن، لكن يسمح بموقع ثروة، رغم أن صاحبه ممنوع من دخول سورية، البوابة والبديل مسموحتان على مخدم الجمعية المعلوماتية، وممنوعتان على مخدم مؤسسة الاتصالات، موقع صفحات سورية بالعكس.
وهكذا، يبدو أن للموضوع فوضاه الخاصة، بحيث يصعب رسم ملامح للقوانين غير المكتوبة التي تسيطر عليه، مثلما يصعب فهم العقلية التي تقف وراء المنع والسماح.
نفس الأمر ينسحب على المواقع السورية الصحفية، فليست جميعها تملك نفس مساحات حرية التعبير، لا يسمح لجميعها بتلقي آراء الناس ونشرها، بحيث تُرك الشارع السوري ينسج حول كل موقع عددا من إشارات الاستفهام. وبغض النظر عن صحة ما يشاع، فالنتيجة أن مواقع الانترنت السورية لم تؤسس لمشاريع صحفية مستقلة، ولم تخرج بالتالي عن الاتهام الذي يواجه الصحافة الخاصة المكتوبة بأنها تابعة لصوت السلطة بتعبيراته المختلفة الأمنية والسياسية.
هذا من جهة، ومن جهة أخرى، حكمت التماس مع الانترنت منذ البداية فكرة اختراق المحظورات. فعندما كانت مجموعة من الصحف العربية ممنوعة من دخول سورية جاء الانترنت كحل للإطلاع على ما كان يعتبر ممنوعا، ثم تطور للتواصل بين السوريين أنفسهم من خلال المنتديات، ومن ثم التواصل مع المواقع التي يديرها سوريون خارج سورية، وصولاً إلى تأسيس مواقع الكترونية صحفية، من داخل سورية، بعضها تحول إلى جرائد الكترونية يومية.
إن المبدأ الذي حكم الصحافة الالكترونية، هي اعتبارها صحافة بديلة، وصحافة ممنوعة أو على الأقل تكسر الممنوع، وصحافة تخترق الخطوط الحمر، ولم ينظر لها أبداً كوجه آخر للصحافة المكتوبة، كما في الصحف الأجنبية مثلاً حيث للصحيفة الورقية مقابل الكتروني، أو على الأقل لا فروق تذكر بين مساحات التعبير في العالم الافتراضي والحقيقي.
إن هذا الاختلاف أسس ويؤسس لاختلاف جذري في التلقي، هو الاختلاف بين رجل يختار جريدته الصباحية من بين الجرائد المعلقة في محلات البيع، ويشتريها ويحملها ويسير بها في الطريق ويجلس في المقهى ويفتحها أمام كل الناس ويقرأها، وبين رجل يفتح موقع الانترنت صباحا في غرفة تتسع له ولجهازه، ليقرأ الأخبار دون أن يراه أحد. تماماً هو الاختلاف بين الفعل السياسي العلني والسري، وهو اختلاف جذري في طبيعته وفي نتيجته أيضاً.
كان الفرق كبيراً، بين أن تنبثق الصحافة الالكترونية من المطبوع، أو تكون حالة مغايرة عنه، فرغم أن هذه المواقع تشكل مساحة حرة للرأي، إلا أن آلية التعامل مع الانترنت تفتح أسئلة غير مريحة عن ميكانيكية تأثيرها المجتمعية، فالتعامل مع الشبكة يتم بشكل فردي وسري لتصبح مكاناً آمناً، وهذا ما يجعل الانترنت، في هذه الحالة، مثبتاً لثقافة الخوف وليس طارداً لها.
والمشكلة في أغلب الأحيان ليست في الكاتب، فمعظم كتاب الرأي يكتبون في الصحافة المطبوعة والالكترونية على حد سواء، إلا أن شرط التلقي الالكتروني، ودون تعميم، يذهب باتجاه تداول النميمة السياسية أكثر منه باتجاه تشكيل المواقف وتغيير السلوك، وهو في شكله المغلق الآمن يشبه الأحاديث المنزلية، أو أمسيات الأصدقاء، التي -كما اختبرنا جميعاً- تفيض بحرية التعبير، إن جاز لنا أن نسميها “حرية”، فمتلقي الشبكة يشعر أنه يكسر القيود التي تربطه، بقراءة ما هو ممنوع، لكنها قراءة قد تذهب به إلى تحقيق تطهير سلبي حيث يتوقف فعل القراءة على القراءة نفسها أي لا تتبعه إمكانية الفعل أو اتخاذ موقف، خاصة على صعيد الحياة اليومية وليس الافتراضية.
كما لا نستطيع أن نتجاهل القناع الذي يتم ارتداؤه، أثناء التلقي الالكتروني، ويبدو ذلك من خلال الأسماء الوهمية، فقد يتم التعبير عن الرأي بحرية، وبعيداً عن ذلك الرقيب الداخلي الذي تدرب لسنوات، لكن، ما يقال هنا لا يقال علناً. هكذا تصبح الصحافة الالكترونية مكاناً لفرز المسموح والممنوع، ليبق الممنوع يمارس بين الفرد وجهازه، فيما يتم التقيد بالمسموح في الحياة العامة، بين الفرد والآخر أياً كان هذا الآخر، سلطة أم معارضة.
الصحافة الالكترونية دون قانون يجيزها أو يمنعها تبقى صحافة خاضعة لمبدأ الفوضى الذاتية والتبعية؛ ودون أن تكون انعكاساً للحريات العامة تبقى أسيرة للارتجال واجترار الإحباط. فلا حاجة كبيرة للسيطرة والمراقبة إذا كانت الحرية تتفرغ من محتواها وتبقى عقيمة عن إنتاج فعل مجتمعي.
مع ذلك يجب أن لا ننكر، أن هذا العالم الرحب الافتراضي احتضن الآراء السورية. والسوري المحكوم بالكثير من القواعد والشروط في الإرسال والتلقي في الصحافة المكتوبة، وجد في الشبكة العنكبوتية نافذة صغيرة على حرية التعبير. وجد ساحة للآراء المختلفة والمتصارعة والتي كانت، ومازالت، مدفونة تحت السطح السياسي السوري الصامت، فخرجت من العمق الأفكار المتضادة، التاريخ المسكوت عنه، التساؤلات البسيطة التي لا يسمح للعامة بتداولها، والآمال التي أشهرت بعد سنوات طويلة حبست خلالها في الصدور.