فاطمـــــة المــــــرنيسي والــحــــب فـــي زمـــــن الانــتـــرنـــت
المعطي قبال
عندما التحقت فاطمة المرنيسي في نهاية السبعينات بالجامعة المغربية، وتحديدا بكلية الآداب والعلوم الإنسانية في الرباط، كان المناخ السياسي والفكري يعتمل بأفكار يسارية، اشتراكية ماركسية – لينينية، وبنظريات سليلة الفكر البنيوي – الشكلاني (رولان بارت – تزفيتان تودوروف – ميشال فوكو الخ…)، والفكر التاريخاني (عبد الله العروي)، وعقلانية محمد عابد الجابري، أو فكر الاختلاف (جاك دريدا، جيل دولوز، فيليكس غاتاري)، الذي كان عبد الكبير الخطيبي أحد الممهدين لرواجه في المغرب. بتكوينها السوسيولوجي الأنكلوساكسوني، كان عليها إذاً أن تنحت مجال تدخلها بمنأى عن التنظير المجرد. أي أن تخرج إلى حلبة الواقع والميدان. وهذا ما قامت به في فترة كان ينظر فيها الى البحث السوسيولوجي كممارسة مشاغبة، إذ القيام باستمارات واستبيانات لمعرفة بما يفكر الشباب، وما هي الآليات الخفية للسلطة، وما هي تبعات الحداثة على سلوكات الأفراد…، كانت عبارة عن قنابل موقوتة عملت السلطات آنذاك وبكل الوسائل على إلغاء مفعولها. لم تتأثر فاطمة المرنيسي بإجراءات الزجر التي طالت العلوم الإنسانية آنذاك وبخاصة إغلاق معهد الدراسات السوسيولوجية، بل تابعت بمعية مجموعة من الطلبة التحقيق في أرضية الميدان، وبخاصة في الأرياف والضواحي، لمساءلة أفراد المجتمع المدني، وفي أفقها النظري والتطبيقي إعطاء المزيد من الشفافية لهذا المجتمع وبخاصة النسائي منه. لربما أمكن تلخيص المشروع السوسيولوجي، وهو مشروع سياسي في عمقه، لفاطمة المرنيسي في طموحها إلى منح كامل الشفافية لدور المرأة بما هي فاعل حيوي ضمن الميكانيزم الاجتماعي والثقافي والسياسي. لا يمتثل هذا المشروع إلى نزوة أكاديمية، بل ينبع من مسارها الشخصي، إذ عرفت حياة الحريم (ولدت في أحضان حريم مدينة فاس عام 1940)، وعاينت مقاومة النساء، سعادتهن، عزلتهن في فضائه المغلق، كما عرفت مختلف أشكال تحرر المرأة الغربية عندما كانت طالبة في أميركا. جعلت من تجربتها هذه مادة مرجعية لمساءلة وضعية النساء بمنأى عن أي تشفٍّ أو ارتداء لجلد الضحية. وعليه، سخرت فاطمة المرنيسي ثقافتها السوسيولوجية لتصحيح، بل لإصلاح صورة المرأة في مجتمع أبيسي يقوم على المخيل القضيبي للرجل. وليس من السهولة محاربة فانتازم، أو استيهام متجذر في صميم اللاوعي العربي. جاءت مؤلفاتها “الحريم السياسي” (1987)، “سلطانات منسيات” (1990)، “أحلام نساء” (1996) و”الحريم والغرب” (2001) كردّ اعتبار الى المرأة، جمالها، غوايتها، رغبتها الجامحة في التحكم بمصيرها. كان لهذه النصوص التي كتبتها المرنيسي إما بالإنكليزية، وإما الفرنسية، وقع عالمي جعل منها إحدى “الباسيوناريات” العالمية لقضية المرأة، بعيداً عن أي توجه ايديولوجي نسائي ضيق. وقد كلل إنتاجها عام 2003 بالجائزة القيمة لأمير آستوريا في إسبانيا والتي أحرزتها مناصفة مع الكاتبة الأميركية سوزان سونتاغ. إن كان مشروع المرنيسي يطمح إلى رد الاعتبار الى المرأة العربية المسلمة، فإن شقاً منه يعدّ مجابهة لنظرة اختزالية غربية، لا تزال أسيرة لفكر استشراقي مفاده أن المأوى المثالي للمرأة العربية هو الحريم وأن “الحجاب لزيمها الأبدي”. يقرب هذا التصور محجبات الحريم من التصور الذي انطبق على دور العهارة المغلقة التي كان الرسام الفرنسي تولوز لوتريك أحد المجسدين لها. أما منمنمات الرسامين المسلمين فتظهر النساء دائما في وضع مكشوف يركبن الخيل ويتعاطين الصيد. في نظر المرنيسي، فإن هذا التصور لا يعدو كونه محصلة فانتازم جنسي.
وتضيف الباحثة أن الغرب لا يهتم إلا بالنساء المضطهدات وليس بمن تفوّقن في حياتهن الخلاّقة أو المهنية. تطل علينا المرنيسي هذا الأسبوع ببحث في عنوان “الحب في الدول الإسلامية” (منشورات ألبان ميشال من 198 صفحة). تأخذ المرنيسي المجرى المعاكس للتصور الغربي، لإظهار أن الحب في الدول الإسلامية كان دائما محط عناية الشعراء والمتصوفة والفلاسفة والأدباء الذين جعلوا منه “بانتيون” لخلود الأنثى.
وخلافا لما أشار إليه دونيه دو روجمون في كتابه “الحب والغرب”، على أن الحب خاصية من خاصيات أوروبا المسيحية، تؤكد المرنيسي أن معالجة الحب في الثقافة العربية الإسلامية كانت دوما أحد روافد حضارتها، والدليل على ذلك المؤلفات التي خصصت للموضوع.
تشير المرنيسي الى أن الحب مفهوم عربي، ويرشدنا من دون عناء محجم الديلمي، وهو متصوف من القرن الخامس الهجري، الى ثراء الحب، كما يعرّفنا كتاب “روضة المحبين” لابن قيم الجوزية الى الوفرة المعجمية لكلمة حب، والتي تقارب مرادفتها 99 كلمة من بينها: المحبة، العلقة، الهوى، الصبوة، الشغف، الوجد، السجو، الشوق، اللوع، الجنون، الهبل، الغرام، الهيام، التدلعة، الوله… الخ. في أيام الرسول، وفي عهد الخلفاء الراشدين، كانت النساء متحررات، واحتفين بجمالهن وذكائهن وغوايتهن. في الأزمنة الحديثة تغيرت بالكاد أعراف الحب في هذه المجتمعات، بفعل المطالبة السياسية الدينية، وبفعل الوثبة السوسيولوجية التي عرفتها وضعية المرأة التي تتزوج متأخرة إن لم تفضل البقاء وحدها، وبفضل الطفرة التكنولوجية التي غيرت العلاقات والتعامل مع الآخر حيث نبتث كالفطر المواقع الالكترونية الإسلامية والتي تسيرها على نحو خاص شريحة معينة من الشباب تبحث عن حلول لقلقها حيال المجتمع الاستهلاكي. ماذا يقول الماضي عن الحب والعشق؟ ماذا يقول تراثنا العربي الإسلامي عن مختلف مظاهر الحب والغواية، الجمال، الزواج؟ كيف ينظر الأئمة إلى الحب وانشراح القلوب؟ هل تتحدث السلطات الدينية عن الحب؟ وماذا تقول في هذا المجال؟ إنها بعض الأسئلة التي تطرحها المرنيسي من دون روح سجالية أو استفزازية. عندما ننصت الى حكي النساء عن الحب ندرك مدى فرادتهن وغوايتهن. ولهذا لا تتردد المرنيسي في التوجه بالسؤال إلى مشارك أسوجي أو فيليتيني، في منتدى عالمي، لمخاطبتهما: حدّثني عن حياتك الغرامية. كيف أحببت؟ “يقربني هذا السؤال من ثقافة الشخص عوض تبادل خطب مطولة جافة عن الازدواجية اللغوية وسواها من المواضيع ذات الطابع التقني”، تقول المرنيسي. من ابن حزم إلى سيغموند فرويد، ثمة إجماع على أن الحب عصي على المعالجة والإدراك بواسطة القول والكلام، وأن التجربة وحدها قادرة على تقريبنا من لغزه أو ألغازه المحيرة، لأنه لا إجماع في وصفه أو تحليله بالرغم من تزاوج آراء البعض في الموضوع. فالتعريف الذي قدّمه مثلا دونيه دو روجمون مشيرا إلى أن الحب طاقة إيروسية، هو بالضبط ما تحدث عنه قبل قرون ابن حجلة في “ديوان الصبابة”. وتخصص فاطمة المرنيسي حيزا وافرا لابن حزم صاحب “طوق الحمامة”، إذ تشير إلى أن الوزير القرطبي أصبح على شبكة الانترنت نجما “للحب الرقمي” أو ما سمّته “الحب الديجيتالي”. وقد انتبه “الإسلام أونلاين” بزعامة الشيخ القرضاوي إلى أهمية “تعاليم” ابن حزم في مجال الحب، وخطورتها، ولذلك سارع إلى الدعاية له بهدف الحد من غواية النزعة الاستهلاكية التي تهدد شخصية الشباب المسلم. شهرة نصوص ابن حزم على “النيت” مردها إلى رغبة الشباب في إيجاد الحماية والدفء للتخلص من قلق الحاضر بما يمثله من عنف وعزلة، وتشتت للشخصية. “ابن حزم الذي عاش في فترة قلقلة مثل ما هو عليه وضعنا اليوم، والذي كان وزيرا لمرتين، قبل أن يلقى به في السجن في عهد الأمويين، خلص إلى فكرة أن العلاج الوحيد ضد التفكك هو الحب الصادق. فاليوم على شبكة الانترنت، يجهد عشاقه في تطبيق هذا السلوك وإدامته.
باريس