الإبداع العربي الفورة والتراجع والتعبير عن التحولات: نحو إعادة صوغ الإشكالية
محمد برادة ()
لا بأس من التذكير، في مفتتح هذا التحليل، بأننا لا نتوفر في الحقل الأكاديمي والثقافي، على معاهد أو تخصصات تهتم بسوسيولوجيا الأدب والفن، خصوصاً الجوانب المتصلة بالانتاج والاستهلاك، وتقديم احصائيات عن عدد القراء والمتلقين والموضوعات التي تحظى بالرواج وتثير الجدال.. وغياب مثل هذه الدراسات الضرورية يضع الباحث والمحلل أمام شاشة مضببة تقوده إلى التخمين والافتراض بدلاً من الاستعانة بأرقام تحدد حجم السوق والإقبال، ومدى التأثير والانتشار.
تأسيساً على ذلك، ينفتح المجال لطرح أسئلة انطباعية تتراوح بين تضخيم حجم ودور الانتاج الفكري والإبداعي، أو التقليل منهما استناداً إلى مقاييس غائمة، ما يكون وراءها مقارنات غير مبررة مع انتاجات عالمية.
ما نتوخاه من التحليل الآتي، ليس تقديم إجابات أو تصحيح انطباعات منتشرة، وإنما السعي إلى إعادة صوغ الإشكالية المتعلقة بحجم الإبداع وعلاقته بأسئلة المجتمعات العربية، حتى نتمكن من تأطير الموضوع وتفكيك الأحكام شبه الجاهزة التي تطالعنا كلما طُرحت معضلة الإبداع للنقاش. نقترح لإنجاز ذلك، أن نتناول القضايا التالية:
1 ـ كيف نقيس الانخفاض والفورة؟
2 ـ الإبداع والتعبير عن المجتمع.
3 ـ إعادة صوغ الإشكالية.
1) كيف نقيس الانخفاض والفورة؟
أشرنا، آنفاً، إلى غياب دراسات متخصصة في سوسيولوجيا الأدب والفن لضبط احصائيات الانتاج والاستهلاك في مجال الإبداع والثقافة.. وهذا لا يعني أن توافر إحصائيات وتفاصيل عن الفئات القارئة والمتلقية للأعمال الفنية، كاف لقياس “جودة” الإنتاج أو مدى تأثيره في مشاعر المتلقين ووعيهم، ولكنه يبقى، مع ذلك، عنصراً مسعفاً على تصنيف الإنتاج واستبار مفعوله.
في ظل هذا الشرط المتصل بوضعية الإنتاج والتلقي، سننطلق من التساؤل الوارد في هذا المحور، وهو “هل انخفضت فورة الإبداع العربي في مجال الفكر بشكل عام، والإبداع بشكل خاص؟”.
عندما نحاول استكناه الخلفية التي ينطلق منها التساؤل، نجد أنه يصدر عن خلفية تربط تأثير الفكر والإبداع بمدى إحداثه لفورة تثير اهتمام الرأي العام وتغدو جزءاً من حديث المتتبعين والعاملين في الحقل الثقافي.. ويمكن أن نستتشف أيضاً أن صاحب السؤال يستحضر في ذاكرته، لحظات بارزة من تاريخ الحقل العربي الثقافي والإبداعي، أثارت الاهتمام وحرّكت الألسنة والأقلام لتسجيل ردّة فعل تنبئ عن حدوث تفاعل يخلف رجّة واهتزازاً في مجال التلقي، نتيجة لارتياد مناطق “جديدة” من الوعي والحساسية.
لتوضيح هذه المسألة، استحضر بعض اللحظات البارزة في مسار الفكر والإبداع خلال الستينات والسبعينات من القرن الماضي، حين كان هناك شبه تواطؤ أو تناغم بين الثقافي والسياسي، ضمن شروط مرحلة تصفية الاستعمار، وتشييد قومية عربية متفتحة، واحتضان قضية فلسطين في وصفها جسراً يوطد العلاقة بين الاستقلالات والمضمون الثوري النهضوي المتصاعد آنذاك.. بالفعل، منذ خمسينات القرن المنصرم، ارتفعت أصوات وظهرت كتابات وإبداعات تؤشر على ما يشبه القطيعة مع التوجهات الثقافية والإبداعية التي ازدهرت في مرحلة مقاومة الاستعمار وانكبت على إحياء التراث وقيم الهوية الوطنية وروح الممانعة.. ومع التطور السياسي عرفت حركة التجديد العامة في الثقافة والإبداع، انفتاحاً أوسع على مرجعيات تشكل معالم مضيئة في أفق التجديد الكوني للفكر والإبداع. ونكتفي بالإشارة هنا إلى ثلاث منارات جاذبة، في تلك الفترة، كان لها صداها الواسع في الحقل الفكري والإبداعي العربي، وهي: الماركسية، ووجودية جان بول سارتر، وكتاب “معذبو الأرض” لفرانز فانون. ويمكن أن نلمس التفاعل بين السياسي والثقافي في تلك الفترة، باستعادة بعض أصداء تلك الفلسفات والايديولوجيات داخل الحقل الثقافي العربي:
أ ـ بالنسبة للماركسية، نعلم أن كتاب “في الثقافة المصرية” لمحمود أمين العالم وعبدالعظيم أنيس (1955)، قد أبرز معالم منهج “جديد” في النقد وفهم الأدب قياساً إلى اتجاهات تقليدية وإحيائية وليبرالية كانت سائدة في الثقافة العربية آنذاك. وهو ما أثر في معجم المصطلحات والمفاهيم، وعزز جانب الاتجاه الماركسي في تحليل أوضاع المجتمع، وكذلك في توظيف الإبداع لبلورة مقولات وأطروحات سياسية ـ ثقافية تمتح من نفس النبع الفكري.
ب ـ وجودية سارتر: نستطيع أن نقيس تأثير اللحظة الوجودية في الفكر والإبداع، من خلال استحضار ذلك “الزواج” الضمني بين مجلة الآداب البيروتية والفلسفة الوجودية السارترية ونسقها الإبداعي المنتشر آنذاك انتشاراً واسعاً. ذلك أن الدكتور سهيل ادريس، القومي العروبي، قد وجد في وجودية سارتر ما يستكمل به بعض الجوانب المفتقدة في الفكر القومي العربي، وبخاصة ما يتعلق بمقولة الحرية المسؤولة، وإيلاء الاعتبار للفرد الواعي، بحسب ما ورد في افتتاحية أول عدد من مجلة الآداب (1953).
ت ـ فانون ومعذبو الأرض: حين صدرت ترجمة “معذبو الأرض” سنة 1961 والتي أنجزها سامي الدروبي وجمال الأتاسي، لقيت رواجاً واسعاً بين المثقفين العرب لأنها اقترنت بثورة الجزائر، وكشفت عن تفكير جديد بلوره طبيب نفساني مارتنيكي، ناضل في صفوف الثورة المسلحة واستطاع أن ينظر تجربته على صعيد العالم الثالث بجرأة ووعي نادرين. وليس مجرد صدفة أن يغدو فانون رائداً من رواد دراسات ما بعد الكولونيالية، وهو الاتجاه الذي اكتسب أهمية كبيرة في الولايات المتحدة خلال السبعينات، ثم في فرنسا منذ تسعينات القرن الماضي.
إذا كان الفكر العربي، آنذاك، لم يلتقط أهمية التحليلات النفسانية التي أنجزها فانون، والربط الوثيق بينها وبين الخطاب السياسي والممارسة الاجتماعية، فإنّ الفصول التي كتبها عن الثقافة الوطنية قد شغلت المثقفين العرب ودفعتهم إلى طرح إشكالية الثقافة القومية ضمن منظور يستهدف إمكانات تجذير الثورة بعد أن أسفرت الاستقلالات عن انحراف الأنظمة ومهادنتها للاستعمار.
ومن غير أن نسهب في تحليل مظاهر التصادي بين السياسي والثقافي خلال الستينات والسبعينات من القرن الماضي، نشير إلى أن الانتاج الفكري والإبداعي (أدب، مسرح، سينما، فنون تشكيلية) كانت تبدو، فعلاً، بمثابة فورة ثقافية لأنها كانت تتصادى مع التطلعات السائدة لدى معارضي الطروحات المحافظة والأصولية.
بعبارة ثانية، فإن اتساع رقعة التعليم وتطور الصحافة، وظهور فئات اجتماعية جديدة، وعودة الاستعمار والتبعية من “الشباك” واستمرار احتلال فلسطين.. كل ذلك وجد صدى له في الكتابات الفكرية وفي الإبداع على اختلاف طرائق تعبيراته، من ترخص أو استهانة بالقيم الفنية. يتضح ذلك في الطلائع الأدبية والفنية وحركات الشعر الحديث والرواية والقصة والمسرح والسينما، بنسب متفاوتة ودرجات متباينة بين بلد عربي وآخر.
خلال العقدين (1950 ـ 1970) تنامى حجم الانتاج الفكري والإبداعي، واخذت الأجيال تتجدد ضمن سيرورة تتجه أكثر فأكثر نحو التعقيد. واللافت في هذه المرحلة، أن التلقي كان مصحوباً بخطاب نقدي واسع يُنشر في الملاحق والمجلات الأدبية والكتب، وغالباً ما يحمل تصنيفات وتوصيفات توطد الصلة بين الهمّ الأدبي والاهتمامات السياسية من خلال تقييمات كاشفة، مثل “الأدب الملتزم” و”الأدب الهادف” و”الفن الطلائعي” و”الإبداع الثوري”، وكلها تصنيفات تحيل على خلفية سياسية وايديولوجية تبرز “فورة” الإبداع وحضوره بين النخب القارئة والمتلقية، وخصوصاً بين النخب المسيسة.
لكن لا بد من ملاحظة أن تصادي الإبداع مع الاتجاهات السياسية اليسارية، لا يعني أن حصيلته هي مجرد انعكاس و”ترجمة” للمقولات والمبادئ، بل إن قسطاً كبيراً من إبداعات تلك الفترة، ينطوي على رؤية للعالم تجاوز السياق الذي انطلقت منه، لأن مقتضيات التعبير الفني تتعدى إعادة انتاج الأفكار والمشاعر إلى مستوى تعميق الرؤيا والتقاط ما يلتصق بثنايا الحياة اليومية ويسكن في حنايا المبدع ساعة يواجه العالم في شموليته باحثاً عن الحقيقة عبر المحسوس والملموس والمفكر فيه.
والدليل على خصوصية الإبداع العربي وحرصه على التحقق متحرراً من الوصاية والإملاء، هو تلك اللحظة الجديدة التي انفجرت بعد هزيمة 1967، معلنة “انشقاقاً” عن الإجماع السياسي الذي كانت الأنظمة العربية توهم بضرورة استمراره لتحرير فلسطين، جاءت الهزيمة لتكشف المخبوء، وتقنع المفكرين والمبدعين بأن القومية العربية لا تمتلك أسباب التحقق والتطور، وأن كثيراً من الشعارات والتصورات تحتاج إلى النقد والمراجعة والتغيير.
ومنذئذٍ شهدنا لحظة أخرى لفورة إبداعية وفكرية، باتجاه أكثر جذرية واستقلالية عن السياسي والايديولوجي.. هي لحظة ـ منعطف، لأن المفكرين والمبدعين والنقاد تخلوا عن أوهام المرحلة الوطنية والقومية المعاقة، وتوغلوا في تشريح وانتقاد اختلالات المجتمعات العربية الفاقدة لأسس الصراع الديموقراطي وحرية التعبير والاعتقاد.
سنة 1967 هي سنة الفرز ما بين أنظمة متسلطة، متشبثة بالحكم، معتمدة على قوى القمع وأجهزة ايديولوجية تستغل الدين والترهيب، وبين طلائع من المفكرين والمبدعين الذين انشقوا عن الإجماع القومي، الوهمي، ليعبروا عن المسكوت عنه ويستنطقوا مكامن الحياة والتحدي والتوق إلى التحرر.
من هذه الزاوية، يمكن أن ندرك القيمة الرمزية لانتاجات وإبداعات ما بعد 1967، لأنها بلورت تحولات في المسار الإبداعي والفكري وفي العلائق بين الثقافي والسياسي: يتجلى ذلك، من دون ذكر أسماء، في استيحاء الموضوعات والقضايا المحرّمة، سواء تعلق الأمر بتعذيب المواطنين والمناضلين وسجنهم وتقتيلهم، أو بإفساح المجال أمام الفرد العربي ليُسمع صوته ويستبطن آلامه وأحلامه واستيهاماته وشهواته، ضمن سياق مطبوع بالقمع والقيم البطركية، والتضخم الديموغرافي، والعولمة الربحية، وتفاقم الفروق الطبقية.. صار الإبداع بمثابة عين سرية تتغلغل في الأعماق الفردية والجماعية لتستجلي المستور وتجهر بما تكتمه خطابات السلطة الرسمية ورقابتها، وهذا ما جعل المجتمعات العربية تنتبه إلى الانفصام بين الدولة والمجتمع المدني، بين الحلم القومي التحرري وبنية الواقع السلطوي سليل الهزائم.
في هذا السياق، وخصوصاً في السبعينات والثمانينات، سيتسع حجم الإبداع، ليس في الأدب وحده، بل في أشكال عديدة، خصوصاً الفن التشكيلي والسينما والمسرح والأفلام الوثائقية والفيديو والمنشآت.. ولن تكون هذه الفورة مقتصرة على أقطار المركز، بل ستشمل أقطار المحيط (بلدان الخليج، السعودية، اليمن، الأردن، السودان..)، لأن الإبداع والتعبير الفني والكتابات الفكرية والتاريخية، غدت هي المتنفس الذي يستطيع العربي من خلاله أن يجهر بإحساسه واعتقاده، وأن يتلمس عبره “الحقيقة” التي تسعى أجهزة الأنظمة إلى طمسها.
لكن ما يجب الإلحاح عليه، ونحن نحدد لحظات الفورة والتجدد، هو أن ذلك كان يتم ضمن شروط مجتمعية صراعية، تتبوأ الدولة داخلها مكان المسيطر، المتحكم في مصير البلاد والعباد، وتتخذ موقعاً ملتبساً إذ تزعم السهر على تطبيق القانون وحماية حرية المواطنين من عدوان الأصوليين، في حين أنها لا تتورع عن استعمال منطقهم وحججهم للحفاظ على غطاء ديني يمتص غضب الشعب المقهور، المهمش. بعبارة أخرى، فإن حرب الاضطهاد والقمع التي أعلنتها الأنظمة العربية على النخب المثقفة والمناضلين منذ الخمسينات، قد فتحت الطريق أمام انبثاق واتساع الفكر الغيبي والأصولي، وأمام توظيف الدين لأغراض سياسية يحرف الصراع الديموقراطي عن أغراضه الحقيقية.. من ثم فإن إنتاج الفكر التنويري، والإبداع الفني والأدبي المتحرر من وصاية الايديولوجيا وإغراءات التدجين، يعيشان محاصرين وسط رجعية الدولة وسطوة الأصولية الدينية المصادرة لحرية الناس.
لكن ما يسند تجربة الإبداع العربي، على الرغم من الشروط القاسية المصاحبة له، هو ما تعيشه المجتمعات العربية من تحولات متلاحقة داخل عالم متغير بإيقاع سريع، وإقبالها على استكشاف حياة الأزمنة الحديثة وما تنطوي عليه إمكانات العقل والعلم، فيزيد ذلك من إصرارها على مقاومة الجمود والماضوية. من هذا المنظور يقف الإبداع والفكر إلى جانب الانفتاح والاستمرار في البقاء، لأن الإبداع هو تأمل في الحياة لا في الموت والآخرة، وهو استنهاض للتحدي والمواجهة ودعوة إلى ممارسة الحرية ضمن جدلية مخصبة بين الفردية والغيرية.
هناك سبب آخر ضاعف من إشعاع الإبداع العربي الجديد، هو أنه لم يكن يوجد أدب وإبداع “تقليديان” قادران على المنافسة والوصول إلى المتلقين في سياق التحولات المتسارعة منذ ستينات القرن الماضي. كان الشعر والرواية والقصة والمسرح يغيرون اللغة ويلقحونها بنسغ حيوي يمتح من المعيوش والوافد والمتلألئ في معجم الصوفية؛ وكان التشكيل يرتاد أصقاع اللون والحلم والتجريد؛ والصورة تكتسح شاشات العين لتنقل إليها طراوة الإحساس ولحظيته وإيحاءات الظلال والضوء.. وهذه جميعها تعبيرات اقتحام وتجريب، لا تعبيرات نكوص واجترار. لذلك فإن دعوات الأصوليين إلى ضرورة ابتداع أدب وفن “إسلاميين” باءت بالفشل ما دام التعبير الإبداعي أقوى وأوسع من أن يُسجن داخل أروقة الوعظ والإرشاد، واسترجاع ذكريات الأمجاد.
وهناك لحظات أخرى لفورة الإبداع العربي منذ الثمانينات، تتجلى في دفق انتاجات قصيدة النثر، وروايات الشباب، وكتابات المرأة الجريئة، ومئات الأفلام الوثائقية والتخييلية، ومعارض الفنون التشكيلية، والتأليفات الموسيقية، والمسلسلات التلفزيونية.. هل يجوز أن نغمض العين عن كل تلك الإبداعات بدعوى أنها تتوخى مجرد الترفيه والتسلية؟ أم أن علينا أن نحلل هذه الانتاجات “الشابة” التي توظف حوامل تعبيرية جديدة لنبلور رؤية تجعلها تحمل، إلى جانب التسلية، قيماً إنسانية تبث وعياً انتقادياً؟ هذا جانب من إشكالية الإبداع العربي اليوم، يستحق التأمل انطلاقاً من أهمية وسائط التعبير الألكترونية والرقمية، وطرائق التعامل معها.
بعبارة ثانية، نستطيع أن نقيس لحظات الفورة الإبداعية انطلاقاً من الفترات التي اقترنت بالاتناج والتجديد، في ترابط مع تحولات بنيوية واجتماعية ـ سياسية خلخلت الموروث، وأبرزت أسئلة جوهرية تتصل بحركة التغيير التي تتم، سلباً وإيجاباً، استجابة لشروط ملموسة تحفر في عمق التربة، ولا تكون مجرد تصاد موقت مع موضات إبداعية وفكرية عابرة.
2) الإبداع والتعبير عن المجتمع العربي
عندما ننتقل إلى الشق الثاني من السؤال وهو: “هل عبّر الإبداع عن القضايا والتحولات التي يمر بها المجتمع العربي سياسياً واقتصادياً واجتماعياً؟”؛ تطالعنا صعوبة مزدوجة: أولها، ان “التعبير عن” صيغة لا يمكن أن تحدد مجال الإبداع ووظيفته، إذ لا يعني الإبداع “ترجمة” قضايا وتحولات إلى معادل فني يؤكد على ما يقال ويتداول في مجالات السياسة والاقتصاد والاجتماع. ذلك أن الإبداع، بحكم خصوصية أدواته وارتباطه بذاتية المبدع ورؤيته، لا يمكن أن يكون استنساخاً أو تكراراً لما هو رائج وملحوظ في دنيا الواقع. الإبداع في أشكاله اللامنتهية ومقتضيات وسائله المغايرة لطبيعة التواصل المباشر، ينحو إلى إعادة خلق الأشياء والعلائق والفضاءات، وإلى وضع مسافة جمالية بين المعيش المباشر، والرؤيا الفنية التي تمزج المادي بالنفسي، والملموس بالمحلوم به، ومشاهد الواقع بمخزونات الذاكرة.. وهذا لا يعني أن العوالم الإبداعية مبتوتة الصلة بالحياة وأسئلتها وتجاربها.
والصعوبة الثانية المتحدرة من صيغة السؤال هذه، هي أن حجم التحولات والقضايا التي يعيشها كل مجتمع، حجم كبير ومتشعب لا يمكن لعمل فني أن يحيط به أو يلتقطه التقاطاً موضوعياً. من ثم تكون علاقة الإبداع، في أشكاله المتباينة، بالواقع أو المجتمع، علاقة غير مباشرة وأبعد ما تكون عن التطابق، لأنها تتحقق عبر وسائط وأشكال تقتضي القراءة والتحليل والتأمل لتفرز رؤية تندرح ضمن منظور زمني أطول، وعبر سيرورة تمثّل تستهدف الوعي والمشاعر واللاوعي الثقافي.
لأجل ذلك، نفضل أن نتحدث عن الإبداع بوصفه تعبيراً عن وجود الإنسان داخل فضاء نفسي واجتماعي وسياسي، ينضاف إلى تعبيرات أخرى تمس مظاهر العيش لتشكل في مجموعها خطابات ولغات يتوسل بها الأفراد وينتجونها لفهم العلائق والسلوكات.
بعبارة ثانية، لا يتحقق الإبداع إلا من خلال استقلالية تحمي المبدعين من التبعية لمحافل سلطة أخرى، وتتيح لهم أن يصوغوا رؤاهم وفق تفاعل وتجارب تكون الذات المبدعة فيها هي عصب الموضوع وحامله.
بطبيعة الحال، هذا الإقرار بحرية المبدع واستقلاله تجاه وسائط التعبير الأخرى، يمنحه حق أن ينتج فناً من أجل الفن، كما حدث في تاريخ الإبداع، لكننا عندما ندقق النظر، نجد أن هذه الخصوصية لا تعصم المبدع من التفاعل مع مجتمعه وتاريخه الشخصي، وإن بطرائق ملتوية، غير مباشرة. وهذا ما نتبينه عند تحليل أعمال المبدعين بمن فيهم دعاة الفن المجاني والأدب المجرد عن الغاية.
على هذا المستوى، لا نستطيع أن نلم بجميع الانتقادات وردود الفعل، لذلك سنتلمس الجواب عن السؤال من خلال ايراد ملاحظات منهجية تكمن وراء خلفية هذا النقد وتستبطن سؤال تعبير الإبداع عن القضايا والتحولات.
ولعل من أهم الانتقادات التي وُجهت إلى الإبداع العربي المعاصر، انطلاقاً من تصور فلسفي ـ نقدي متكامل، هو ما كتبه الأستاذ عبدالله العروي في “الايديولوجيا العربية المعاصرة” (1967)، وبخاصة في الفصل الأخير “العرب والتعبير عن الذات” الذي يطرح فيه قضية تعبير الأدب (المسرح والرواية والقصة، تحديداً) عن الذات في مفهومها الجماعي، أي الأسئلة والتحولات التي يعيشها ويواجهها المجتمع العربي. وأهمية الانتقادات التي يسوقها العروي تأتي من استنادها إلى تحليل شامل لإشكالية البحث عن الذات العربية، بترابط مع علائقها بالغرب والعقل الكوني، ومفهوم التاريخ. ويعتمد في تحليلاته على ضرورة اعتماد الوعي النقدي، ليتمكن العرب من مجاوزة وعيهم التلقائي.
على هذا الأساس يرى العروي أن قصور التعبير الأدبي تحديداً ـ من دون إدراج الشعر ـ ناتج عن غياب وعي نقدي للأشكال التعبيرية الجديدة (أي المسرح والرواية والقصة) يجلي تكوينها السوسيولوجي وعلاقاتها بالسياقات العالمية التي رافقت ظهورها وتبلورها. ونتيجة لهذا الغياب، يأتي الانتاج الأدبي صورة محرفة عن موضوعات سبق التعبير عنها في آداب أجنبية، فيظل الإنتاج العربي فاقداً للخاصة المميزة لروح كل أدب قومي.
لا شك أن هذا النقد يضع الأصبع على مسألة جوهرية، خصوصاً ما يتعلق بضرورة توفير الشكل الملائم، حتى لا يكون الإبداع مجرد تكرار أو محاكاة لانموذج مكرّس. ومن ثم لا يمكن قبول ادعاء بعض المبدعين أنهم يصدرون عن السليقة أو الموهبة من استيعاب للأشكال التعبيرية وسياقات تكونها. لكننا قد لا نتفق مع ما يدعو إليه العروي من افتراض “موضوع” جوهري يخص كل مجتمع، ويتوجب على المبدع اكتشافه واستيحاؤه. لأننا نجد في ذلك نوعاً من المعيارية التي تحدّ من حرية التجريب والمغامرة قبل أن يبلور كل مبدع رؤيته والعناصر الفنية المعبّرة عنها.
إذا كنا مع ضرورة وعي المبدع للأشكال التي يوظفها، سواء استقاها من الموروث أو من ذخيرة منجز الإبداع الكوني، فإننا نميل إلى إفساح المجال أمام حرية التجريب من تحديد مسبق للاتجاه الذي ينبغي للمبدع أن يبلوره؛ وذلك لاتساع القضايا والفضاءات وطرائق التعبير، فضلاً عن أن الموهبة والإمكانات الفردية هي العنصر الحاسم في تحقق التجربة الإبداعية.
عندما نطرح السؤال الآن، بعد مرور أربعين سنة على أطروحة الأستاذ العروي، يكون من الضروري أن نمايز بين السياقين لنسجل أن السياق السياسي ـ الاجتماعي ازداد تدهوراً وفقداناً للبوصلة، وبات مطبوعاً بانحصار الدولة والأنظمة العربية في دائرة الحفاظ على السلطة، منفصلة عن المجتمع المدني الذي يتعاظم تعلقه بالدمقرطة والتحديث.
تبعاً لهذه المعاينة، يمكن القول إن الإبداع العربي خلال الأربعين سنة الفارطة، قد تجذر أكثر في المجتمع المدني، لأنه يعبّر عن النزعة التحررية، الانتقادية، ويكشف ثغرات السلطة وتناقضاتها، ويُسمع صوت الذات المتمرّدة على الوصائية والحجر. خلال أربعين سنة، اتسع التعليم الجامعي، وتوالدت أجيال من المبدعين، وترجمت كتب، وعُقدت ندوات ومعارض ومهرجانات مسرحية وسينمائية، وغدا التفاعل بين المبدعين العرب أوثق، وكذلك الحوار مع ما ينتجه العالم.. وكلها عوامل نبّهت المبدعين إلى مشكلات الهوية والشكل والعلاقة بالآخر وضرورة اعتبار الكونية في الإبداع.
وإذا نظرنا إلى الإبداع الأدبي، على سبيل المثال، سنجد أن منجزاته تسجل تحولاً نوعياً على مستويين:
ـ الحرص على توفير عناصر شكلية وفنية تحقق خصوصية الخطاب الأدبي وتميزه عن الخطاب البلاغي المتخشب، المستخدم في غسل الأدمغة وتسطيح العقول.
ـ ارتياد مجالات وفضاءات كانت شبه محرمة، وإعادة بناء عوالم شعرية وتخييلية وسردية تبتعث وعياً نقدياً عميقاً وجريئاً.
ننطلق إذن، من مفارقة لافتة، وهي أن حيوية الانتاج والتجدد في الإبداع والفكر، تتحقق على الرغم من الشروط المعاكسة التي لا تشجع الانفتاح على العصر والأسئلة الكونية التي تهم الإنسانية برمتها. وتتمثل هذه الشروط المعاكسة في ظروف سياسية (انفصال الدولة وأجهزتها عن المجتمع المدني) وأخرى اجتماعية (انتشار الأمّية وتفاقم الفروق الطبقية…) ومناخ ايديولوجي (تراجع قوى الأحزاب التنويرية وصعود الأصولية..).
إنها مفارقة تحيلنا، في نهاية التحليل، على التصدّع المهول الذي تعيشه المجتمعات العربية، خصوصاً في العقود الثلاثة الأخيرة. تصدع يجعل الفكر التنويري والإبداع الطلائعي يعيشان في ما يشبه الحصار وسط مجتمع هو نهب لايديولوجيات ملتبسة، تزعم السعي إلى التحديث والتنمية وفكر الاعتدال، وفي الآن نفسه توظف الفكر الديني الجامد لتبرير الوصاية والحكم الفردي.. وهو أيضاً نهب لايديولوجيا أصولية، ماضوية، تستبيح استعمال تأويل متزمت للنص الديني لكي تخضع الناس إلى روح القطيع وتسعى إلى اغتصاب السلطة بالوعد والوعيد.
وما يزيد من محاصرة الإبداع ويثير الاستغراب، إذ كيف لا يستطيع فضاء عربي يسكنه أكثر من 300 مليون نسمة، أن يجعل كاتباً أو رساماً يعيش من إنتاجه الإبداعي؟
وهذه المعاينة تقودنا إلى لبّ الإشكال، أي الى التساؤل عن إمكان تحقيق استقلال الحقل الإبداعي والثقافي، ليصبح مجالاً متحرراً من تسلط الحاكمين، ومصدر رزق وتواصل بين المبدعين والجمهور المحتمل، داخل هذا الفضاء العربي الشاسع؟
بطبيعة الحال، لا يعني السعي إلى تدعيم استقلال الحقل الثقافي في المجتمعات العربية، أن ذلك سيقدم حلولاً لجميع المشكلات التي تعترض ازدهار الإبداع وارتقاءه إلى التعبير الملائم؛ ولكنه يظل خطوة استعجالية لتمهيد الطريق أمام بلورة موقف متماسك ومقنع تجاه الأسئلة الكبيرة التي يطرحها عالم اليوم على الإبداع والفكر الكونيين.
من هنا تبدو الإشكالية في العالم العربي مزدوجة الحدّين: حالة التداعي والتدهور السياسي والاجتماعي؛ وحالة توغل العالم في أزمة اقتصاد وقيم وثقافة.. وهذا ما يستوجب قيام حركة اجتماعية ـ تاريخية تقلّب تربة المجتمعات العربية، وتثمن مشروعاً للمستقبل يحرّر المواطن ويحمي حقوقه ويؤهله لمجابهة الغد.
[ ورقة قدمت في ندوة مجلة العربي أخيراً حول الإبداع العربي المعاصر: تجارب جديدة ورؤى متجددة
المستقبل