رحلة في مجاهل الرقابة السعوديّة
سماح إدريس *
على امتداد عشرة أيّام (من ٣ إلى ١٣ آذار/ مارس الحالي) شاركتُ في «معرض الرياض للكتاب». كانت مهمّتي أن أساعدَ مسؤولَ المعارض في «دار الآداب» على بيع كتب دارنا، وشرحِ نبذة عنها للسائلين والسائلات. وهناك أمضينا أياماً مليئةً بالتعب و«الطوز»… ومفعمةً بالإثارة أيضاً، ولا سيّما بسبب صراعنا مع الرقابة.
……
في زيارتي لمعرض الرياض الأول للكتاب (1987)، كانت الرقابة مخيفة. فقد فوجئنا يومَها، داخل المعرض، برجال ملتحين عرفتُ في ما بعد أنّ اسمَهم «المطاوعون». كان المطاوعون «يكْبسون» أجنحتنا بين الفينة والأخرى، فيصادرون ما طاب لهم من كتب: من دواوين المتنبّي، وأبي نؤاس، إلى دواوين أدونيس و(بعض) درويش، وكلّ ما يخطر أو لا يخطر في البال، من حب وجنس وتشيّع وماركسيّة ومعارضات سياسيّة مختلفة. بل أذكر أنّ أحدَ المطاوعين زار جناحَنا وسحب من الرفّ رواية «الحيّ اللاتينيّ» لأبي سهيل. ابتسم أبي وسأله عن السبب، فقال المطاوع (ولم يكن يعْلم أنه يتحدّث إلى سهيل) إنها روايةٌ غيرُ أخلاقيّة، وأكمل: «على الصفحة 24 يقول الكاتب: وأحسّ بهما، بنهديْها، يرتعشان على صدره، فيما هو يشدّها إليه، وشَعَرَ بجسدها…». عندها، رجا منه أبي أن يتوقّفَ، وسحب نسخةً من الرواية، فبحث عن الصفحة، ثم نظر إليه مدهوشاً، وصاح: «اللي ذكرته مضبوط. يبدو أنّكَ استمتعتَ بهذا المقطع حتى حفظتَه. فلماذا تحْرم غيرَك من الاستمتاع؟!». وقبل أن يستشيط المطاوعُ غضباً عرّفه والدي بنفسه، وقال له إنّه سينسحب هو ودارُه وبعضُ الدُور اللبنانيّة الأخرى إنْ تعرّضتْ روايتُه لأيّ سوء. وهكذا بقي «الحيّ اللاتيني»… ورحل المطاوع!
في ذلك المعرض الأول نشأتْ ظاهرةٌ أسمّيها «ثقافة ما تحت الطاولة»، تحدّياً لسلطة الرقابة، واستجابةً لرغبات الجمهور السعوديّ التوّاق إلى الممنوع… المرغوب. هكذا وُضعت الكتبُ الممنوعةُ في أكياس تحت الطاولة التي يجلس إليها العارضُ أو الناشر، فيأتيه الشاري والشارية (في أيّام مختلفة درءاً لما لا تُحْمد عقباه) بعد أن ينتشر الخبر، ويَطلبان إليه (بغمزة أو من دونها) كتباً من نوع الـ«كذا مذا». إذّاك، ينظر العارضُ يمنة ويسرة، ليتأكّدَ من غياب البصّاصين والبصّاصات، فيَسْحب من تحت الطاولة كتبَ الكذا مذا، ويدسّها في كيس، ثم يقبض ثمنَها خلسةً. بل أذْكر أنّ بعض العارضين اللبنانيين دار على أجنحة أخرى، فاشترى الممنوعات من تحت طاولاتها، وباعها لزبائنه «المخلصين»!
لا، لم أفضحْ مستوراً، ولا شهّرتُ بأحد على وجه التعيين. ومهما يكن الأمر، فقد بات مطاوعو اليوم وإدارةُ المعرض أكثرَ تنبّهاً لـ«ألاعيب» الناشرين على ما سأبيّن.
…..
تلك كانت السياسة المتّبعة في المعرض الأول، الذي يبدو أنّه أثار حفيظة السلطات، فلم تقمْه في العام التالي. لكنْ هل تغيّر الكثيرُ بين معرض 1987 ومعرض 2009؟
إنّ جولةً سريعةً على بعض الأجنحة تُظهر أنّ بعض الممنوع سابقاً قد بات مسموحاً: نزار قبّاني، أدونيس، عبد الرحمن منيف، ومئات الكتب المترجمة وغير المترجمة. لكنّ الرقابة ما زالت طاغية، والمنع والتهديد بالمنع (والأخير لا يقلّ فعّاليّة) يطاولان ما هبّ ودبّ: للسعوديّ عبد الله ثابت، والسودانيّ الصادق النيهوم، ولكتب عن الأصوليّة وحزب الله والخليج، ولروايات بالعشرات (قال لي مسؤولُ جناح دار لبنانيّة معروفة إنّ المنع طاول 12 رواية عنده). وسيبدو من قبيل الغباء أن يتجاهل المرءُ هذه السمة السلبيّة الفاقعة ليركّز على الإيجابيّات وحدها. فلنقرّ، إذاً، بأنّ الرقابة السعوديّة تراجعتْ كثيراً خلال العقود الثلاثة؛ ولكنْ فلنقرّ أيضاً بأنّها ما زالت ضخمةً (وعبثيّة كما سنرى)، وأنّ معرض الرياض أقلُّ حريّةً من الكثير من المعارض العربيّة الأخرى (علماً بأنّ الرقابة تزداد سوءاً في معارض الكويت، والأردن… والقاهرة أحياناً!).
……
الرقابة السعوديّة رقاباتٌ متعدّدة: رقابة الحكومة المباشرة، ورقابةُ الجمعيّات المشرَّعة شبه السلطويّة، ورقابةُ الجمهور نفسه. لكنّي، قبل أن أتطرّق إلى كلّ منها تباعاً، أودّ أن أذْكر أنّ إدارة المعرض فاجأتْ دارَنا بأنها خَصّصتْ لها 12 متراً فقط بدلاً من 24 كما وُعدنا. تملّكتنا «نظريّةُ المؤامرة»، لكننا صمتنا حين رأينا بعضَ زملائنا الـ«حداثويّين» يرْتعون بأمتارهم الفسيحة، وكظمْنا غيظنا حين قال لنا بعضُ المسؤولين: «ما عجبْكم؟ لا تِجوا السنة القادمة!». فكّرنا في الانسحاب (وأعلنّا عن ذلك في الصحف)، ثم أقنعنا أنفسَنا بأننا نحْمل رسالة قوميّة ويساريّة وعلمانيّة ومعادية للولايات المتحدة وإسرائيل والأصوليّات؛ لذا فإنّ علينا أن نمرّر ولو جزءاً من كتبنا وأهدافنا… ولكنْ شرط عدم تملّق أحد، ولا تبرير الرقابة من أيّ جهة أتت. قرّرنا، إذاً، أن نتسلّح بأعصاب هادئة، وأن نجادلَ الرقباءَ بالتي هي أحسن؛ فلعلّ الجدالَ يُشْعرهم بأنّ عملهم ليس أمراً «طبيعيّاً» أو «إلهيّاً»، بل من صنع بشريّ، وقابل ــــ من ثمّ ــــ للنقد والنقض.
أ ــــ فأما الرقابة الرسميّة فتجري على الشكل التالي: يأتي مسؤولون من إدارة الرقابة التابعة لوزارة الثقافة والإعلام، فيطلبون إلينا أن نسحب من رفوفنا كتباً بعينها، وأن نضعَها في أكياس لن نتسلمَها إلا بعد انتهاء المعرض. إنّه إجراءٌ جديدٌ ذكيّ كما تروْن، إذ لم يعد في مقدور العارض أن يبيع «ما تحت الطاولة» من الممنوعات الرسميّة. لكنْ سرعان ما تنبَّهَ الجمهورُ إلى الإجراء الجديد، فصاروا يرغبون في لقائنا خارج المعرض أو بعد انتهائه للحصول على مبتغاهم… وهو ما لا يستطيع الناشرون أن يلبّوه، وبخاصّة أنّهم شعروا أنّ بعض ذلك «الجمهور» ليس إلا عيناً دسّها الرقيبُ الرسميُّ لكشف الناشرين المشاغبين. وقد تكون عقوبة التمرّد منعهم من الاشتراك في المعرض المقبل، وهو ما لا طاقة لهم عليه لأنه يعني خسارةَ آلاف الدولارات في خضمّ أزمة نشر خانقة.
انتصارُ الرقيب الرسميّ هنا شبهُ حاسم للأسف؛ غير أنّ ما قد يخفّف منه هو إجراءُ نقاش معه، لن يبدّل النتيجةَ في كلّ الأحوال، إلا أنّه قد يُشعره بتهافت منطقه: فحين تُبيِّن له أنّ من الكتب المسموحة ما يتجاوز الكتبَ الممنوعةَ إباحيّةً وتمرّداً و«شذوذاً» (ولكنْ إيّاكَ أن تفصح عن عناوين الكتب الأولى!)؛ وحين تشْرح له أنّ بعضَ «الإباحيّة» مقدّمة لحلول أكثرَ «أخلاقيّةً» مما يظنّ؛ فقد يزرع ذلك في نفسه الشكَّ حيال عبثيّة إجراءاته، وربما نقلَ ما جرى معه إلى الدوائر العليا. لعلّي أمارس ههنا تفكيراً رغبويّاً، لكنّ اقتراح «المواجهة اللطيفة» جديرٌ بالتأمّل في كلّ حال… ولا سيّما إذا شهدها بعضُ المارّة الفضوليين!
ب ـــــ وأما الرقابة شبهُ الرسميّة فهي التي يمارسها أعضاءُ جمعيّة أخلاقويّة هي «هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر». هؤلاء يطالبون العارضَ بسحب كتب محدّدة بجريرة عناوينها أو أغلفتها على الأرجح. لكنهم لا يأخذونها معهم، كما يفعل الرقباءُ الرسميّون، بل يكتفون بوعظ العارض (وزجره). في هذه الحال يُخفي العارضُ الكتبَ الموبوءة يوماً أو بعضَ يوم، في زاوية ما، أو يضعها تحت الطاولة، ولكنه لا يلبث أن يبيعها علناً أو من تحت الطاولة… ويدُه على قلبه.
ج ــــ وهناك، أخيراً، رقابةُ الجمهور. ولا أقصد البصّاصين (بلغة جمال الغيطاني)، أو عيونَ السلطة، لأنّ هؤلاء جزءٌ من الرقابة الرسميّة كما أظهرنا. بل أقصد الناسَ العاديين، الذين استبطنوا الرقابةَ، واستدخلوا القمعَ، وتبرّعوا لنشر الأخلاق بين الناس. هؤلاء الـ«مطاوعون المتطوِّعون» كما أسمّيهم قد يبدون أخطرَ الرقباء لأنهم يعْكسون مدى تغلغل السلطة في ثنايا المجتمع (كما كان فوكو سيقول). فمثلاً، سمعتُ زائراً لجناحنا يقول لزميله إنّ كتاب كولن ويلسون «ما بعد الحياة» يجب أن يُمنع «لأننا، نحن المسلمين، نعْرف ما يحدث بعد الحياة أصلاً»! وجاءتني سيّدةٌ متعلّمة مع زوجها و«نصحتنا» بألا نبيع كتبَ سماح إدريس للأطفال (لم أفصحْ لها عن هويّتي) لأنها تفسد أخلاقهم بسبب استخدامها نعتيْن شنيعيْن: «ملعون» في وصف أب لطفله الذكيّ المتمرّد، و«كلبة» في وصف طفل لكهرباء لبنان التي تنقطع مراراً. شرحتُ لها أنّ «ملعون» في لبنان لا تقتصر على المعنى الدينيّ المذموم بل قد تأتي من باب التحبّب (مثل «الشياطين الصغار» بالإنكليزيّة)، وأنّ «كلبة» وصفٌ شائعٌ لما لا يُستحبّ لدى الأطفال ولدى غيرهم. ويبدو أنّها اقتنعتْ بعد 10 دقائق، وهذا مثالٌ بين عشرات الأمثلة التي تفيد بأنّ على العارض ألا يكلَّ من جدال الزائرين، خصوصاً إذا كانوا يتمتّعون بحظٍّ من العلم والانفتاح.
……
ما الكتب التي طاولتها الرقابة، بأشكالها المختلفة، من منشورات «دار الآداب» في معرض الرياض؟
1 ــــ «حوض السباحة» (2001) لليابانيّة يوكو أوغاوا (ترجمة الراحل بسّام حجّار). هذه الرواية الصغيرة، الرقيقة، لا جنس فيها، ولا قبلة، ولا لمسة. ولكنّ الغلاف، الذي أغاظ أحدَ ممثّلي «هيئة المعروف والنهي عن المنكر»، ورسمتْه مها نصر الله، يُظهر الشقَّ الأيسرَ من صبيٍّ بمايوه سباحة، وإنْ لم يبدُ منه ثديٌ ولا خصْيةٌ ولا مَن يحزنون.
2 ــــ «مأساة ديمتريو» و«الولاّعة» لحنّا مينة. وقد طالبت إدارةُ الرقابة بسحبهما بسبب غلافيْهما أيضاً. الغلاف الأول، وهو لريم الجندي، مستندٌ إلى عمل للمصوّر مان راي (بعنوان «لو فيولون دانْغر» ــــ 1924)، ويُظهر بروازاً لجذع امرأة عارية ولرأسها من الوراء. وقد راعت ريم أن تطمس شقَّ المؤخّرة الذي كان أشدّ وضوحاً في الأصل، لكنّ ذلك لم يشفعْ لها عند إدارة الرقابة؛ كما لم يشفعْ للرواية أنّ عنوانَها المأساويّ ذاته أبعدُ ما يكون عن الإثارة الجنسيّة!
أما غلاف «الولاّعة» فهو الآخر لريم الجندي، ويُظهر رسماً لملامح امرأة عارية نائمة على بطنها. وقد راعت ريم أن تخربش على الفرْج (المطموس بكثيب رملي أصلاً)، لكنّ ذلك لم يُرْضِِِِ إدارةَ الرقابة السعوديّة من جديد: فخربشتْ على الخربشة نفسها، أيْ مَنعت الرقابة الذاتيّةَ ذاتَها!
3 ــــ «حين مات النهد» و«عاهرة ونصف مجنون» لحنّا مينة أيضاً، وقد طالبتْ إدارةُ الرقابة بسحبهما بسبب العنوانيْن هذه المرّة. الرواية الأولى (2003) تبدأ برجل يتخيّل النساءَ اللاتي عاشرهنّ وقد جئن لمحاكمته في الغابة، وتنتهي بعودته إلى المدينة مع إحدى حبيباته الكثيرات «لأنّ المرأة هي التضحية». إنها، كما نرى، روايةُ لا تخالف المنظورَ الذكوريّ التقليديّ (لماذا لا يكون الرجلُ هو التضحية يا ترى؟)، رغم ما فيها من جنس لا يبلغ، في أيّ حال، درجة الإباحيّة التي بلغتْها مئاتُ الكتب المسموحة. فلو لم يكن في العنوان «نهد» (بل «نهر» مثلاً)، لكانت الرواية حلالاً بالتأكيد!
والأمر نفسه ينطبق، إلى حدٍّ ما، على «عاهرة ونصف مجنون» (2008)؛ فثمة عشرات الروايات المسموحة التي تتحدّث عن نساء تعهّرن بسبب الأوضاع المادّيّة البائسة… لكنْ بعناوين مختلفة لا تثير حفيظة الرقابة. وفي كلّ الأحوال، مسكين حنّا مينة: فلقد أعدمت الرقابةُ الرسميّةُ أربعاً من رواياته بسبب أغلفتها أو عناوينها، ولم يشفعْ لأغزر روائيّ سوريّ أنّ العلاقات بين محورَي «التشدّد» و«الاعتدال» العربيين تشهد اليوم انفراجاً ملحوظاً!
4 ــــ «عالمٌ يسع الجميعَ» (2008) لكاتب هذه السطور، والرسومُ لحاتم الإمام. في اليوم الثالث، أبلغني مسؤولُ الجناح أنّ ثلّةً من أعضاء «هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» طلبتْ إليه عدمَ بيع قصّتي الموجّهة إلى الأطفال. السبب؟ غلافُها، الذي يُظهر أختين تتنافسان في الجلوس على كرسيٍّ هزّاز. المفارقة الكبرى هنا هي أنّ المطاوع تطوّع بأن يَخْرج من العالم الذي يُفترض (بحسب العنوان) أن يتّسعَ للجميع!
وإلى جانب الكتب الستة الممنوعة أو المزجورة أعلاه، تناوبتْ إدارةُ الرقابة و«هيئةُ الأمر بالمعروف…» على منع الروايات التالية من «دار الآداب»: «حُبّ في السعوديّة» لإبراهيم بادي، و«وجوه وأماكن» لباحميشان، و«خذها لا أريدها» لليلى العثمان، و«إنها لندن يا عزيزي» لحنان الشيخ، و«حبّ بيروتيّ» لسحر مندور، و«التشهّي» لعالية ممدوح، و«كاباريه سعاد» لمحمّد سويد. فيصبح المجموع ثلاثة عشر كتاباً من دارنا وحدها (ما عدا السهو والخطأ)، علماً بأننا اضطُررنا إلى حجب نصف كتبنا عن العرض بسبب ضيق المساحة المعطاة لنا أصلاً كما سبق الذكر. ويلاحظ القارئ أنّ المنع طاول كتّاباً من السعوديّة والكويت وسوريا والعراق ولبنان واليابان، وأنّ الجنس يكاد يكون الشغلَ الشاغلَ للرقابة السعوديّة. لم تعد حداثةُ الليبراليين (أدونيس مثلاً)، ولا كتبُ غيفارا وماو وماركس أو القوميّة العربيّة، هي ما يقضّ مضجعَ الرقابة السعوديّة، بل الأصوليّات المقاتلة، جنباً إلى جنب (ويا للمفارقة) مع الروايات التي تتضمّن الجنس: مثليّاً أو غيرَ مثليّ، مكتوباً أو مرسوماًً أو موحىً به من خلال نصف مايوه!
…..
هل يعني تعرّضُنا للمنع والزجر على ذلك النحو أنْ نمتنع عن نشر الأعمال الجيّدة لمجرّد خوفنا من الرقابة؟ على العكس؛ فالتراجعُ أمام الرقابة يدفعها إلى المزيد من الاستئساد على الإبداع والتحرر وحريّة القول والنشر. أنطالب رسّامي أغلفتنا بشيء من «الحشمة» و«المراعاة»؟ على العكس، نطالبهم بأن يزدادوا إخلاصاً لإلهامهم وفنّهم… ولو غضب الغاضبون!
* تنشر هذه المقالة، بشيء من التوسّع، في العدد المقبل من مجلّة «الآداب»
منع وترهيب واعتداءات: هل انتصرت السلفيّة؟
بدر الإبراهيم
من المجحف إنكار الإيجابيات التي سجّلها «معرض الرياض الدولي للكتاب» الذي نقل، هذا العام، مقرّه إلى مركز أكبر هو «صالة الرياض للمعارض»، ما أمَّن تنقلاً أسهل للزوار. فقد شهدت الدورة الحاليّة تحسناً تنظيمياً ملحوظاً، مقارنة مع السنوات الماضية، لناحية زيادة ساعات الزيارة، وإتاحة الفرصة للجميع رجالاً ونساءً لزيارته من دون تركيز كبير على الفصل بين الجنسين. لكنّنا نلاحظ ــــ في المقابل ــــ أن المعرض شهد تراجعاً متزايداً على مدى دوراته الثلاث الأخيرة، إن على مستوى العناوين المعروضة، أو لناحية الفعاليات الثقافية المصاحبة. يبدو أنّ نفوذ الرقابة الدينية ممثلةً بجهاز «هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» يزداد كل عام باطّراد. هذا العام، داهمت الهيئة المذكورة أجنحة دور النشر، لتصادر ما تشاء من الكتب… بل إنّها افتعلت المشاكل مع المثقفين، كما حصل مع عبده خال وعبد الله ثابت. هذه الأجواء ساهمت في قتل الفعاليات الثقافية المصاحبة، بسبب الضغط المستمر على المنظمين لتجنب الندوات والنقاشات الحقيقية.
القصة بدأت قبل ثلاث سنوات، حين شهد «معرض الرياض الدولي للكتاب» ما يشبه «الثورة». وجدت عناوين ممنوعة كثيرة طريقها إلى العرض (بعضها يصيب القارئ بالذهول لمجرّد وجوده في الرياض)، كما نُظِّمت ندوات ثقافية شارك فيها مثقفون وكتاب سعوديون وعرب، ناقشت مواضيع مثيرة للجدل. هذا الأمر أثار حفيظة التيار السلفي المتزمِّت، فارتفع صراخه ضد ما حصل في المعرض باعتباره «فساداً وإفساداً».
كانت الصدمة كبيرة لهذا التيار، إذ بدا أن زمام الأمور يفلت من يديه، وشعر أنّ حرباً ثقافيةً ما تشنُّ عليه، وأنّه يفقد سيطرته على مصادر المعلومات، وقدرته على منع الأفكار «الهدّامة» من الوصول إلى المتلقي السعودي. هكذا، كان لا بد من الضغط، واستخدام النفوذ، في سبيل وقف تلك «التطورات الخطيرة».
وبالفعل، نجح التيار السلفي في إجبار المنظمين على التراجع عن معظم النجاحات التي سُجلت في دورة 2006 وفي الدورة التي تلتها. هكذا أصبحت الفعاليات الثقافية بلا لون ولا طعم، تحمل عناوين بلا أهمية، وازداد منع الكتب والروايات واستمر الوضع بهذا الشكل في الدورتين الماضية والحالية. لكن هذه «الانتصارات» لم تكن لتكفي التيار السلفي، إذ واصل شن الحملات على المعرض والقائمين عليه: فهو لن يرضى إلا بالسيطرة الكاملة على هذه التظاهرة وكل ما تقدّمه أو تعرضه. تلك السيطرة المطلقة لم تتحقّق بعد، لحسن الحظ، إذ إنّ هذه الدورة اشتملت على عناوين كثيرة أثارت حفيظة المتشددين، كما أنّ رتابة الفعاليات الثقافية هذا العام، شهدت خرقاً لا يستهان به، هو الندوة التي دارت حول محمد عابد الجابري.
عنوان الندوة «تجربتي التأليفية»، حاول من خلاله المنظمون الابتعاد عن إثارة الجدل. لكنّ اسم الجابري وحده كان كفيلاً بإطلاق صيحات الاعتراض والاستهجان من السلفيين. الجابري لم يلتزم بالعنوان المحدد، بل راح يتحدّث عن سلطة المؤلف وموته، منتقلاً بسلاسة إلى الحديث عن اللوثرية، وعصر التنوير الأوروبي، ثم إلى الحديث عن ثورة الطلاب في فرنسا والبنيوية والتفكيكية… وكل هذا لا يعجب أصحاب الفكر المتزمت بأي حال. ولأن هذا الحدث الثقافي المهمّ في السعوديّة، حافظ على حدٍّ أدنى من الحيوية، فقد صدرت بيانات وفتاوى تندِّد بالمعرض والعناوين المعروضة فيه. كل ذلك في سياق حملة الضغط والترهيب ذاتها، المتواصلة منذ ثلاث سنوات، بغرض إنهاء هذه الظاهرة التي تمثّل متنفساً ثقافياً، واختراقاً لآليات الوصاية السلفية على الأفكار والآراء.
إنّما يمكن القول إنّ الرقابة السلفية نجحت، إلى حد بعيد، في قتل الفعاليات الثقافية المصاحبة للمعرض مع استثناءين أو ثلاثة… ورغم إيجابياته ومحافظته على حيوية نسبيّة لجهة الكتب المعروضة، فشل المعرض في صناعة موسم ثقافي ناجح، وتحريك المياه الثقافيّة الراكدة في السعودية. وإذا كان من عبرة نحفظها من تلك المواجهة، فهي أن «وزارة الثقافة والإعلام»، غير قادرة على مواجهة التيار السلفي، وأنّ المعرض على مدى أربع دورات، تقدَّم خطوتين وتراجع ثلاثاً، ما يجعله مثالاً نموذجيّاً لحال «الإصلاح في السعودية».
فهل تكون الثقافة مجرّد قضيّة موسمية تنتهي بانتهاء فعاليات معرض الكتاب؟ أمام «وزارة الثقافة والإعلام» تحدٍّ حقيقي لتثبت أنها تستحق اسم الثقافة التي تحمله، ويتمثل بدعم فعاليات ثقافية على مدار العام لا تنحصر بالنخبة وتكون مفتوحة للجميع. وهنا، يمكن الحديث عن ندوات ثقافية وأمسيات شعرية ومسرحيات وغيرها من النشاطات التي يحتاج تنظيمها إلى «شجاعة» من الوزارة، في ظلِّ الممانعة السلفية وقيامها بتخريب بعض الفعاليات… وهو أمر لم تحاسب عليه في السابق، وخصوصاً بعد اعتدائها على مثقفين أثناء أنشطة المعرض. إذا لم تكن الوزارة على قدر هذا التحدي الثقافي ــــ وهي حتى الآن تثبت أنها كذلك ــــ فالأفضل لها ولنا أن تنسحب من الساحة منعاً للإحراج.