صفحات سورية

المجتمع السوري تحت خط الفقر

null

معتز حيسو

من الضروري بداية التأكيد على أن الممارسة الفكرية ، وتحديداً الفكر السياسي يجب أن لا يخضع إلى الرغبات والتمنيات في منطقه التحليلي للواقع الاجتماعي المحدَّد. بمعنى آخر، تتحدد موضوعية الفكر السياسي النظري بمدى تجسيده للواقع العياني المشخص بأشكال نظرية مجردة في سياق من الممارسة النظرية الهادفة إلى تحليل الواقع الموضوعي وإدراكه علمياً ، والتعبير عن تناقضاته مفاهيمياً ، لتكون آليات الممارسة السياسية تعبيراً ملموساً عن الواقع الملموس المحدّد والمعيّن وفق منهجية نظرية علمية .

لم يعد خافياً بأن الميول الليبرالية المشوهة للسياسات الاقتصادية الراهنة تقود إلى مزيد من التناقضات الاجتماعية والاقتصادية ، وتتعمق هذه السياسات من خلال السياسات الإعلامية الرسمية التي تساهم في إخفاء الأسباب المحددة للميول الاقتصادية و التناقضات الاجتماعية الناجمة عنها. وقد ساهمت السياسات الاقتصادية القائمة على تحرير الأسواق والأسعار بأشكال تتنافى مع السياسات الاقتصادية التنموية في تزايد حدة الاستقطاب الاجتماعي ، مما أدى إلى انقسام المجتمع السوري إلى ( غالبية تحت خط الفقر ، وأقلية ثرية تسيطر على الميول الاقتصادية و التوجهات السياسية ) .

لقد حذرنا سابقاً وفي أكثر من بحث بأن الاقتصاد والمجتمع السوري سوف يقعان في أزمة بنيوية من الصعب تجاوزها نتيجة للسياسات الاقتصادية المتبعة، لذلك أكدنا مراراً على ضرورة دور الدولة التنموي في ضبط التحولات الاقتصادية ، وضرورة إطلاق الحريات السياسية والنقابية والمدنية لمواجهة التحديات الداخلية والخارجية .

لكن وكما هو ملاحظ بأن من يحدد السياسات الاقتصادية لا تعنيه المصالح الوطنية للمجتمع السوري الذي عانى و يعاني من تزايد حدة التناقضات الاجتماعية الناتجة عن السياسات الاقتصادية التي تمثل مصالح نخب سياسية واقتصادية محددة .

إن قرار رفع سعر المازوت // الحر من ( 7،10 – إلى 25 ليرة سورية ) أي بمعدل بلغ ( 350 % ) وجرة الغاز من ( 145 إلى 250 ليرة سورية أي بنسبة 77% ) والمازوت المدعوم من ( 7،10) إلى (9 ليرات سورية )// يشكل لحظة تحول في السياسية الاقتصادية ، لكونه يتناقض بشكل صريح مع المصالح الشعبية لغالبية أبناء المجتمع السوري والمصالح الوطنية عموماً ، ذلك لأن تأثيراته السلبية سوف تطال كافة المستويات الاجتماعية ، ويأتي في مقدمتها :

1ــ تزايد حدة التباينات و التناقضات الاجتماعية وزيادة معدلات الفقر والحرمان .

2 ــ انخفاض القدرة الشرائية للمواطن . ويأتي هذا في سياق انخفاض قيمة العملة الوطنية .

3 ــ ارتفاع أسعار كافة السلع الاستهلاكية والمواد الأساسية والغذائية بالدرجة الأولى .

4 ــ ارتفاع أجور النقل بمعدلات تتراوح بين الـ : 50 % و 100 % .

5 ــ ازدياد معدلات التضخم النقدي المترافق مع تراجع معدلات التوظيف الاستثماري .

6 ــ ارتفاع تكاليف الإنتاج السلعي ( الصناعي والزراعي ) .

7 ــ انخفاض مستوى المعيشة لغالبية المواطنين لدرجة يصعب فيها تأمين المستلزمات الأساسية ، وبالتالي العجز عن إعادة القوة الإنتاجية للفرد .

8 ــ إن رفع سعر المازوت سوف ينعكس سلباً وبشكل مباشر على معدلات ربح المزارعين أولاً ، وعلى الأمن الغذائي ثانياً نتيجة لانعدام قدرة المزارع على الاستمرار في ري محاصيله الزراعية لعدم امتلاكه السيولة النقدية ، مما يعني تضمين حقوله كمراعي للمواشي وتحديداً ( ( القمح والقطن اللذان يشكلان عماد الصناعات الغذائية والنسيجية محلياً )) ، وهذا يعني أن المزارع سوف يعاني من أزمة لا يمكن الخروج منها إلا عبر سياسية اقتصادية جديدة تتحمل فيها الدولة كامل مسؤولياتها ، وإلا سيعاني المجتمع السوري عموماً من أزمة غذائية بدأت ملامحها المستقبلية تتوضح في اللحظة الراهنة .

9 ــ انعدام القدرة التنافسية للصناعات الوطنية نتيجة لارتفاع التكاليف الإنتاجية ( ارتفاع أسعار المواد الأولية ووسائل النقل والإجور … ) وتتجسد الخطورة في هذا المستوى من خلال تمكين وتعميق اقتصاد السوق الحر ، مما يعني مزيداً من الأزمات الاقتصادية جراء تبعية الاقتصاد الوطني و انفتاحه على الخارج. ومما يعني أيضاً دمار الصناعة الوطنية ذات التكاليف الإنتاجية المرتفعة والجودة المنخفضة نسبياً ، أمام الغزو السلعي الأجنبي الرخيص والعالي الجودة والممتلك للقدرة التنافسية.

10 ـــ انخفاض وتراجع مستوى الاستثمارات الوطنية والأجنبية نتيجة لارتفاع تكاليف الإنتاج وانخفاض القدرة الشرائية ، هذا إضافة إلى أن أشكال الاستثمار الراهنة تعاني جملة من التناقضات والإشكاليات السلبية التي تم تناولها في أبحاث سابقة ( تحول رأس المال إلى أسواق المضاربة والتجارة العقارية والصناعات التجميعية والصناعات اللمسة الأخيرة … ) .

11 ـ تفاقم أزمة السكن نتيجة للارتفاع الكبير على أسعار مواد البناء (ارتفاع أسعار العقارات وأجورها) ، مما يساهم في تزايد الأزمات الاجتماعية في أوساط الشباب ( التخلي عن فكرة الزواج ــ تزايد معدلات العنوسة ــ التحلل الأخلاقي …. ) . بالتأكيد توجد نتائج سلبية أخرى لم نأتي على ذكرها ومن الممكن أن تتوضح في سياق النص .

أما فيما يتعلق بالتراجع اليومي لمستويات المعيشة للمواطن السوري فإن الزيادة الإسمية التي أقرتها الحكومة وفق النصين التشريعيين ( 24 ــ 25 ) بمقدار 25 % على الراتب المقطوع زادت الوضع المعاشي تعقيداً وساهمت برفع معدلات التضخم .

ويمكننا تأكيد ذلك من خلال رصد الارتفاع المتكرر للأسعار، و الذي بلغت معدلاته وفقاً للتقديرات الرسمية ( 60 % ــ 70 % ) بينما تشير الدلائل الواقعية ومن خلال الرصد الميداني لحركة الأسعار إلى أكثر من ذلك لتصل وفق بعض التقديرات إلى حدود ( 100 % ) على الكتلة السلعية بشكل عام . وهذا يعني بداهة واعتماداً على التقديرات الرسمية بأن القدرة الشرائية للعاملين في الدولة وبعد حساب الزيادة الأخيرة تراجعت بمعدل ( 45% ــ 55% ) ، أما فيما يخص باقي الفئات الشعبية فإن أوضاعهم المعيشية ستصل حد المجاعة ، مما يعني بأن الزيادة على الراتب المقطوع يجب أن لا تقل عن ( 100 % ) مع المحافظة على ثبات الأسعار ، وتحديداً المشتقات النفطية ومن الواضح بأن الزيادة بشكلها الحالي سوف تساهم في تعميق الفوارق الطبقية لذلك كان من الأجدى أن يحدّد إضافة إلى الزيادة بالنسبة المئوية على الراتب مبلغ محدد ( على شاكلة الزيادة التي أصدرت في عام 2006 ). من دون إهمال الأوضاع المعيشة لباقي الفئات الاجتماعية للحفاظ على الأمن الغذائي والاستقرار الاجتماعي ، وكان من المجدي أيضاً العمل على أساس سلم أجور متحرك يتلائم مع حركة الأسعار (ربط الأجور بالأسعار ) .

أما وبعد أن تقررت الزيادة بشكلها الحالي ، وبعد ُرفعت أسعار المشتقات النفطية ( المازوت ـ الغاز ) فإن الأمن الغذائي للمجتمع السوري عموماً ، والاستقرار الاجتماعي باتا مهددان بشكل واضح. ومن المرجح في ظل تراجع الدولة عن دورها الاجتماعي ، وفي ظل تغييب المنظمات المدنية والقوى السياسية واحتواء النقابات وتحجيم دورها المطلبي و تحويلها إلى أدوات لخدمة السياسيات الرسمية ، أن تترك الفئات الاجتماعية المسحوقة لمواجهة رأس المال الحر بأشكال منفردة ومتخلعة نتيجة لغياب الحريات السياسية وبالتالي غياب دور القوى السياسية ، وهذا يعني في أبسط المدلولات الاجتماعية ونتيجة للأزمة المتفاقمة ( الاقتصادية والسياسية ) بأن المجتمع عموماً يسير باتجاهات يمكن تحديدها أولياً على الشكل التالي :

ـــ نتيجة للأزمة المادية الخانقة والمتزايدة التي يعاني وسيعاني منها الموطن ، ونتيجة لتزايد الضغوط السياسية يمكن أن تتولد احتجاجات ميدانية وفي أفضل الأحوال تشكّل حالات سياسية عفوية ….. لكن السيطرة السياسية بأشكالها الراهنة تقلل من إمكانية تعمق هذا الاحتمال .

ــــ من المرجح أن تزداد معدلات الجريمة بأشكالها المتعددة لتلبية الحاجات الأساسية .

ـــ ومن الممكن أيضاً أن يزداد التحلل والتفكك الاجتماعي والانحلال الأخلاقي مما يهدد تماسك البنى الاجتماعية وينبئ بمزيد من الكوارث الاجتماعية نتيجة للفقر الذي وصل حدود المجاعة في كثير من الأوساط الاجتماعية .

ومن خلال ما أوردناه فإن على مؤسسات الدولة المعنية العمل للحد من تزايد الأزمات الاجتماعية ، من خلال استعادة دورها الاجتماعي والتنموي و محاربة الفساد المتفاقم والحد من هدر الثروات الوطنية ومكافحة التهرب الضريبي واعتماد سياسات اقتصادية تنموية اجتماعية / شعبية ، و إطلاق حرية العمل السياسي و النقابي لضمان حرية التعبير عن مصالح الفئات الشعبية في سياق مواجهتها للسياسات الاقتصادية الليبرالية .

أما وأن الواقع السياسي والاقتصادي يميل إلى مزيد من التأزم في ظل سياسات اقتصادية تتناقض مع المصالح الاجتماعية ، فإن هذا يعني تفاقم الأزمة المركبة على كافة المستويات وبأشكال متعددة ، وهذا يفترض التأكيد على أهمية وضرورة تفعيل كافة أشكال الممارسة السياسية ببعدها الطبقي والديمقراطي الوطني للحد من تزايد الأزمة الراهنة المرشحة للتفاقم بأشكال تجليات مختلفة ومتباينة ، لذلك فإن على القوى السياسية و المدنية الالتقاء على برنامج عمل وطني ديمقراطي يحمي المجتمع من التفكك والتحلل ويمكّنه من مواجهة التحديات والأخطار الداخلية والخارجية ، وإذا لم تبادر القوى السياسية واليسارية تحديداً إلى القيام بدورها في مواجهة الأزمة الراهنة ونتائجها المستقبلية فمن الممكن أن تؤول المتغيرات إلى : 1 ـ تفتت البنى الاجتماعية في سياق تشكّل تجمعات مذهبية وعرقية وطائفية عشائرية

2 ـ تخلع البنى الاجتماعية والمؤسسات المدنية، وتزايد التحلل الاجتماعي والقيمي ( تزايد معدلات الجريمة والفساد والدعارة ) تلبية للحاجات الأساسية و حفاظاً على الوجود والبقاء البيولوجي .

============================================================

عرض تطورات أسعار المازوت في سوريا بالليرة السورية نقلاً عن جريدة الوطن بعددها(383) : ( 1970- 0،12// 1974-0،15// 1975-0،12// 1976- 0،15// 1978- 0،20// 1978- 0،25// 1980- 0،50 // 1981-0،90// 1982- 1// 1985-1،5// 1991-2،75//1992-3،85//1994-6،1// 2002-7،1// 2008- 25// ) .
الحوار المتمدن – العدد: 2281 – 2008 / 5 / 14

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى