ليون غونتران داما الذي أراد أن يكون زنجياً أكثر من إفريقيا نفسها
آسية السخيري
ما أنجزه ليون غونتران داما للأدب الزنوجي لا يمكن التوصّل إلى سرده كما ينبغي مثلما يقول دانيال ماكسيم الذي يطالب بردّ الاعتبار إلى رفيق سيزير وسنغور اللذين كوّنا معه الثلاثي المؤسس للشعر الزنوجي. هذا الشاعر الذي يُعتبر أكثر من وقع تجاهلهم وأُسيء فهمهم رغم أنه كان من أصدق أصوات الكاراييب والعالم الثالث في القرن العشرين.
غنّى داما الألثغ شعوره بالوحدة، غنّى رعبه من أن تتخلّى عنه التي يحبّها وينتظر لقاءها، غنّى الحزن والذل والخضوع إلى “التشذيب” كما هو الحال بالنسبة إلى موسيقى الجاز التي يجلّها. يقول الناقد كاثلين جيسال إن داما كان شاعر الوفاء المطلق للإنسانية، والذي سعى إلى فضح المسكوت عنه، وكان الوحيد الذي استطاع الصدح ملء محبّته في معاركه كلها من أجل إنهاء الاستعمار وإنهاء انتهاك حقوق بني البشر. “هذا الصباح، أستيقظ والألم الأسود يغمرني/ حبيبتي مضت وتخلّت عني / قلبها أسود مثل الفحم” (مقطع من إحدى أغاني البلوز).
لا ينفك داما عن ترديد أنه لم يختر شيئاً يحبّه في حياته، وهل أدهى من أن يحس المرء بأنه أعزل من إرادته في أن يكون هو؟ هل أمرّ من أن “يبيّضوا” إنساناً لا يطمح إلى شيء آخر غير أن يكون زنجياً أكثر من إفريقيا نفسها: “مشذّب/ كراهيتي تنمو على هامش/ الثقافة/ على هامش/ النظريات/ على هامش الثرثرة/ التي كانوا يرون وجوب حشوي بها في المهد/ في حين أن كل شيء فيّ لا يتوق إلا إلى أن يكون زنجياً/ أكثر من أرضي/ إفريقيا التي نهبوها”.
ولد ليون غونتران داما في 28 آذار 1912 بكايين (في غويانا الفرنسية). توفيت والدته وهو في عامه الأول فربّته عمّته. بعد دراسته الابتدائية في كايين، تابع تعليمه في فور دي فرانس بمدرسة شولشر الثانوية حيث كان رفيق فصل لإيمي سيزير. انتقل إلى فرنسا لمواصلة دراسته عام 1928، واستقرّ في باريس عام 1929، حيث بدأ تعلّم اللغتين الروسية واليابانية. وكان يتابع في الوقت نفسه دراسة الحقوق ويرتاد كلية الآداب، قبل أن ينتسب في فترة لاحقة إلى معهد الإيثنولوجيا في باريس. صُدم داما بمظاهر التمييز العنصري في فرنسا وبما يحدث في أماكن أخرى على الجبهة الأوروبية الفاشية وفي بلد العم توم. تابع عن كثب (أكثر من سيزير وسنغور) مشكلة التمييز العنصري في أميركا، وفي غضون ذلك، ترجم مشاعره ومواقفه في جملة من أشعاره التي عكست ألمه أمام الكارثة العنصرية وتابو العلاقات بين مختلف الأجناس وفضح خيالات تستحوذ على الرجل الأبيض بخصوص السود، كما عرّى ما يعيشه الزنوج من إحباطات واضطهاد في مجتمعات البيض.
صار سكرتير تحرير مجلة “الطالب الأسود” عام 1935، وبعد عامين نشر كتيّبه الشعري “أصباغ” الذي كان مرفقاً برسومات من الخشب المحفور لداعية السلام فرانس مازيريل. عاد إثر ذلك إلى غويانا سنة 1938. نشر “نقش أثري” سنة 1953 و”علامة سوداء” سنة 1956: عنوان مُرعد، لمشروب روحي مرير، يبدو مثل موسيقى جاز “العلامة الزرقاء” وكوكتيلات منطقة البحر الكاريبي “كوبا حرّة”.
إلى جانب اهتمامه بالتمييز العنصري على الصعيد العالمي وتضامنه مع الجنود والعاهرات، نجح داما في مسيرته السياسية والأدبية من دون أن يفصل بين أي من هذه الالتزامات. إثر وفاة نائب غويانا، رينيه جافار خلفه داما في الفترة الفاصلة بين عامَيْ 1948 و1951 في الجمعية الوطنية الفرنسية. ارتبط بصداقة عميقة مع آلان لوك وكلود ماكي (الذي نقشه في “علامة سوداء “Black-Label”). في عام 1977، أصيب بورم سرطاني تحت اللسان، ثم بسرطان الحنجرة، وتوفي في 22 كانون الثاني سنة 1978 في واشنطن.
جاؤوا هذه الليلة
إلى ليوبولد سيدار سنغور
جاؤوا هذه الليلة عندما كان
الطام
طام
يدحرج
هيجان
العيون من
إيقاع
إلى إيقاع
يدحرج
هيجان الأيدي
هيجان
أقدام التماثيل
منذ
كم من أنا أنا أنا
هم ماتوا
مذ قدموا في تلك الليلة حيث كان
الطام
طام
يقلب من
إيقاع
إلى إيقاع
جَيَشان العيون
سعار الأيدي
حمى أقدام التماثيل.
هاجس
يعاودني طعم الدم
يعلو فيّ طعم الدم
يهيّج أنفي
يثير حنجرتي
وعيني
طعم الدم يأتيني
طعم الدم يترع
أنفي
يملأ
حنجرتي وعيني
طعم الدم يجيئني
مُرَّاً، لاذعاً شاقولياً
مثل هاجس مباخر
وثنيّة.
هدنة
هدنة البلوز (*)
هدنة طرقات البيانو
والبوق المسدود
هدنة الجنون المقرقع بالقدمين
لانبساط الإيقاع
هدنة الحلقات على حدٍّ سواء السوينغ (**)
حول حلبات
توترها
صيحات الحيوانات الوحشية
هدنة التنازل
هدنة التملق
هدنة اللعق
هدنة مواقف
المفرطين في اندماجهم، المنصهرين
هدنة لحظة
من حياة طفل طيّب
هدنة الرغبات
والاحتياجات
والأنانيات
المميّزة.
* البلوز: نمط موسيقى صوتي وآلاتي نشأ عن أغاني العمل (السخرة) والترانيم الدينية في أوساط العبيد السود ذوي الجذور الإفريقية والمرحّلين إلى أميركا الشمالية لممارسة الأعمال الشاقة. وهو أسلوب غنائي يعبّر فيه المغنّي/ المغنّية عن القهر الذي يملأه جرّاء ضربات القدر القاسية.
** السوينغ: كلمة إنكليزية تعني “التأرجح”. وهو تيار موسيقي يقصد به الطريقة التي يُؤدّى بها الجاز عندما تقع أرجحة الإيقاع. انتشر هذا الأسلوب في ثلاثينيات القرن المنصرم في أوساط السود الأميركيين.
ثمّة ليال
إلى أليخو كاربانتيي
ثمّة ليال من دون اسم
ثمّة ليال بلا قمر
حيث إلى حدّ الاختناق
الرطب
تأخذني
الرائحة اللاذعة للدم
تتدفّق
من كل بوق مسدود
ليال من دون اسم
ليال من دون قمر
الحزن الذي يسكنني
يضطهدني
الحزن الذي يسكنني
يخنقني
ليال بلا اسم
ليال بلا قمر
كنت أودّ لو أني
لا أقدر على الارتياب فيها
ما أكثر ما يحاصرني القرف
من الحاجة إلى الانفلات
بلا اسم
بلا قمر
بلا قمر
بلا اسم
ليالٍ بلا قمر
بـلا اسم بلا اسم
ليالٍ ينغرس خلالها الاشمئزاز في روحي
أكثر عمقاً من خنجر مالي.
بكائية الزنجي
إلى روبرت غوفين
لقد أعادوها إليّ
الحياة
ثقيلة أكثر ومنهكة
أيامي الحالية لكل منها بالنسبة إلى الماضي
عيون كبيرة تتدحرج من الضغينة
من الخزي
الأيام التي حزنها لا يرأف
لم تتوقّف أبداً عن أن تكون
في ذاكرة
ما كان
حياتي المبتورة
بلاهتي
ما زالت كما هي
بلاهة سالف الزمان،
بلاهة جلد الحبل ذي العقد،
والجسد المتفحّم
وإصبع القدم المتفحّمة
واللحم الميّت
وجذوة الجمرة
والحديد الأحمر
والذراع المحطمة
تحت وقع سوط
أطلق عنانه
تحت وقع السوط الذي يُسيِّر البستان
ويرتوي من دم دمي دم السكر
وغليون القائد يناطح السماء، يتحدّاها.
آداب السلوك
إلى إيتيان زابولون
هم لا يتثاءبون في بيتي
كما يفعلون في بيوتهم
اليد على الفم
أريد أن أتثاءب دون زهو
الجسد المتصلّب الملتوي
في العطور المضطهدة للحياة
التي صنعتها لي
من وجههم، خطم (*) كلب فصل الشتاء
من شمسهم التي لا تقدر
حتى على تدفئة
ماء جوز الهند المبقبق
في بطني آناء استيقاظي
دعوني أتثاءب
اليد هناك
فوق قلبي
مذعور
من كل ما كنت قد أدرتُ له ظهري
في يوم واحد.
* الخطم: الأنف عند الإنسان ومقدّمة الأنف والفم عند الدابّة. وخطم الكلب عبارة يُقصد بها في الفرنسية الوجه القبيح أو الشخص السيء.
على بطاقة بريدية
من الوضع الجيد لكل زاوية بفرنسا
أن تكـون
نصباً تذكارياً للموتى
من الوضع الجيد للطفولة البيضاء
أن تنمو في ظلّهم الخليق بالرسوخ في الذاكرة
أولئك الذين يعيشون حشو الجمجمة
بثأر لا بدّ من أن يؤخذ به
من الوضع الجيد للأبله الألماني
أن يعد نفسه بأن يحيا في جلد الفرنسي
وأن يجعل منه
وثبات من السرير
الوضع جيّد لأي حماسة وطنية
للبيرة الداكنة السمراء للبيرنود فيس
لكن يا له من ديناميت رائع!
سيفجّر الليل
المعالم الشبيهة بالفطر
الذي ينمو أيضاً
في بيتي.
مشذَّب
إلى كريستيان وأليون ديوب
هل يمكن إذاً أن يجرؤوا
على معاملتي على أنني المنقَّح
في حين أن كل شيء فيّ
لا يطمح إلى غير أن يكون زنجياً
أكثر من أرضي إفريقيا
التي سطوا عليها
مشذَّب
إهانة بغيضة
وسيدفعون لي الثمن غاليا جداً
عندما تبغي بلادي إفريقيا
السلام والسلام ولا شيء آخر
غير السلام
مؤهّل
كراهيتي تنمو على هامش
فسقهم
على هامش
الطلقات النارية
على هامش
نخّاسي
الحمولات العفنة للعبودية المستبدّة
مُشذَّب
كراهيتي تنمو على هامش
الثقافة
على هامش
النظريات
على هامش الثرثرة
التي كانوا يرون وجوب حشوي بها في المهد
في حين أن كل شيء فيَّ لا يتوق إلا إلى أن يكون زنجياً
أكثر من أرضي/ إفريقيا التي نهبوها.
شبيه بالأسطورة
شعر أملّسه
أرجله
ألمّعه
والآن بما أنه يكلّفني كثيراً
أن يكون مجعّداً
في قوقعة طويلة من الصوف
رقبتي تغرق
يدي تتوتّر
وأصابع قدميّ تتذكّر
رائحة المكلومين الساخنة
وذاتي المثلجة
وشعلات الغاز
مما تجعلهم أكثر أسى
هذه الليالي التي في نهاياتها،
الرجل القرد،
غربياً،
يتقدّم ظلّي
مثل أسطورتي.
نحن المملقون
نحن النزر
نحن اللاشيء
نحن الكلاب
نحن الضوامر
نحن السود
نحن الذين لا تنتمي إلينا
إطلاقاً
لا ننتمي حتى
إلى هذه الرائحة الشاحبة
للأيام الحزينة العتيقة
نحن المتشرّدون
نحن الغثاء
نحن العدم
نحن الكلاب
نحن النحول
نحن الزنوج
ماذا ننتظر نحن
المتسوّلون
النزر
المعدمون
الكلاب
الضامرون
الزنوج
ماذا ننتظر
كي نلعب دور المجانين
كي نتبوّل
للتنافس
ضد حياة
حمقاء وغبيّة
صنعوها لنا
نحن المتسولون
نحن الغثاء
نحن العدم
نحن الكلاب
نحن النحول
نحن الزنوج.
رغبة طفل مريض
رغبة طفل فُطم باكراً عن الحليب النقي
عن الحنان الوحيد الحقيقي
كنت أستطيع أن أهب
الحياة الكاملة للرجل
كي أشعر
أشعر أنك قريبة
قريبة مني
مني وحدي
وحدي
أنت دائماً فاتنة
كما تعرفين
تعرفين جيداً
كيف تكونين دائماً جميلة
بعد أن تبكي.
(جميع القصائد منتخبة من مجموعة “أصباغ”، باستثناء القصيدتَيْن الأخيرتَيْن المنتخبتَيْن من “علامة سوداء” و”آلام الأعصاب/ ألم الرأس”).
ترجمة: آ. س
“الغاوون” العدد الحادي عشر، 1 كانون الثاني 2009