صفحات الشعر

في الذكرى المئويَّة لميلاده: يانيس ريتسوس بسفنه يلج البحر غرفتي

null
تَرْجَمَةُ وَتَقْدِيمُ رَشِيدْ وَحْتِي
(إلى ذكرى ريتسوس، هذه الصنعة التي ـ كأي صنعة عربية ـ تجعله جزءا أساسيا مِنْ مُنْجَزِنا الشعري)
حَاوَلَ رِيتْسُوسْ أَنْ يَكْتُبَ الْيَوْمِيَّ، لَكِنَّ هَذَا الْيَوْمِيَّ الَّذِي يَبْدُو لَنَا عَادِياًّ يُخَبِّئُ بُعْداً أُسْطُورِياًّ ما. وَلَعَلَّ الْقَصِيدَةَ الَّتِي تُسَمَّى يَوْمِيَّةً لَدَيْهِ لَيْسَتْ قَصِيدَةً يَوْمِيَّةً، فَفِي هَذَا ‘الْيَوْمِيِّ’ بُعْدٌ أُسْطُورِيٌّ وَمِيتَافِيزِيقِيٌّ.
(مَحْمُودْ دَرْوِيشْ، مِنْ حوارٍ مَعَهُ)

وُلِدَ ياَنيِسْ ريِتْسوُسْ Yannis Ritsos بِموُنِمْفاَسْياَ بِمَنْطَقَةِ الْبِلوُبوُّنيِزْ الْيوناَنِيَّةِ فِي الْفاَتِحِ مِنْ أيار (مايو) 1909. يَوْمُ ميِلادٍ نُبوُئِيٌّ لِذاَكَ الَّذيِ سَيِصيِرُ أَهَمَّ مُثَقَّفيِ الْحِزْبِ الشُّيوُعِيِّ الْيوُناَنِيِّ. وَلَوْ أَنَّهُ يَنْتَسِبُ لاُسْرَةٍ عَريِقَةٍ مِنْ مَلاّكيِ الأَراَضيِ، إِلا أَنَّهُ عاَشَ طُفوُلَةً بَئيِسَةً: وَفاَةُ الأُمِّ وَالأَخِ الْبِكْرِ، إِفْلاسُ أَبٍ مُقاَمِرٍ وَإِيْداَعُهُ بِالْمِصَحَّةِ بَعْدَ اخْتِلالٍ عَقْلِيٍّ، وَدُخوُلُهُ لِلْمِصَحَّةِ بِدَوْرِهِ فِي الثاَّمِنَةِ عَشْرَةَ مِنْ عُمْرِهِ، لِسَنَواَتٍ أَرْبَعِ، لِلاسْتِشْفاَءِ مِنْ داَءِ السُّلِّ. ماَرَسَ مِهَنَاً عَديِدَةً: قَيِّماً عَلىَ مَكْتَبَةٍ وَخَطاَّطاً. فِي بِداَيَةِ الثَّلاثيِناَتِ، كاَنَتْ أُوْلىَ لِقاءاَتِهِ بِبَعْضِ مُثَقَّفيِ الْيَساَرِ وَقِراَءاَتُهُ الْمُبَكِّرَةُ [يَعْتَبِرُ ماَياَكوُفْسْكيِ أَهَمَّهاَ] داَفِعاً لَهُ كَيْ يَصيِرَ كاَتِباً فِي زُمْرَةِ الْمُحْتَجيِّنَ. سَيُلَحِّنُ ميِكيِّسْ ثْيوُدوُراَكيِّسْ Mikis Theodorakis، رَفيِقُهُ فِي الدَّرْبِ، بَعْضاً مِنْ قَصاَئِدِهِ فِي أَلْحاَنَ سَيُغَنيِّهاَ الطَّلَبَةُ فِي انْتِفاَضاَتِهِمْ عَلىَ ديِكْتاَتوُرِيَّةِ الْكوُلوُنيِلاتِ فِي 1973. كَتَبَ أَغْلَبَ أَشْعاَرِهِ إِماَّ فِي السِّجْنِ أَوْ فِي الْمَنْفىَ. نَشَرَ دِيْواَنَهُ الأوَّلَ: جَراَّرَاتٌ [1930-1934، 1934] ، مُتَأَثِّراً بِالْمُسْتَقْبَلِيَّةِ الروُّسِيَّةِ، لَدىَ ماَياَكوُفْسْكيِ خُصوُصاً. أَهْراَماَتٌ [1930-1935، 1935]. فِي 1936، دِيْواَنُ مَرْثَاةٌ، وَهُوَ فِي نَفْسِ الْوَقْتِ دَعْوَةٌ لِلْعِصْياَنِ وَنِداَءٌ مِنْ أَجْلِ التَّساَمُحِ. وَماَ كاَنَ مِنْ نِظاَمِ الدِّكْتاَتوُرِ ميِتاَكْساَسْ إِلا أَنْ أَحْرَقَ نُسَخَ الدِّيْواَنِ فِي الساَّحَةِ الْعاَمَّةِ. سَتَعْرِفُ قَصيِدَتُهُ، بَعْدَ ذاَكَ، زخْماً غِناَئِياًّ وَجُنوُحاً نَحْوَ السُّرْياَلِيَّةِ [الانْفِتاَحُ عَلىَ عاَلَمِ الْحُلْمِ، التَّداَعِياَّتُ الْغَريِبَةُ وَالْمُدْهِشَةُ، تَفْجيِرُ الصُّوَرِ]، مَعَ: نَشيِدُ أُخْتيِ [1936-1937، 1937]، سيِمْفوُنِيَّةُ الرَّبيِعِ [1938] الَّتيِ وَزَّعَهاَ ثْيوُدوُراَكيِّسْ موُسيِقِياًّ ، مسيِرَةُ الأُوْقْياَنوُسِ [1940]. فِي دِيْواَنِهِ ماَزوُرْكاَ عَتيِقَةٌ عَلىَ وَقْعِ الْمَطَرِ [1942]، يُهَيْمِنُ الْفَضاَءُ الاِغْريِقِيُّ عَلىَ الْقَصيِدَةِ لأَوَّلِ مَرَّةٍ. تَأْتيِ الْحَرْبُ الْكَوْنِيَّةُ الثاَّنِيَةُ فِي هَيْئةِ حَرْبٍ أَهْلِيَّةٍ بِالْيوُناَنِ، فَيَنْخَرِطُ ريِتْسوُسْ فِي النِّضاَلِ ضِدَّ الْيَميِنِ الْفاَشِيِّ، فَيُعْتَقَلُ، لِيَتَلَقى، عَلىَ مَدىَ أَرْبَعِ سَنَواَتٍ، وَيْلاتِ التَّعْذيِبِ كَمُنْتَسِبٍ لِلْحِزْبِ الشُّيوُعِيِّ، فِي مُعَسْكَراَتِ ‘إِعاَدَةِ التَّرْبِيَّةِ’، لَكِنَّ ذَلِكَ لَنْ يَمْنَعَهُ مِنْ مُواَصَلَةِ الْكِتاَبَةِ فَوْقَ لُفاَفاَتِ السَّجاَئِرِ وَمِزَقِ الْوَرَقِ الْمُخْتَلَسِ، وَهِيَ أَعْماَلٌ ضَمَّهاَ دِيْواَنُ مُجاَوَراَتُ الْعاَلَمِ [1949-1951]. يَنْشُرُ فِي 1954 دِيْواَنَهُ الأَساَسِيَّ روُمْيوُسيِنيِ. فِي 1956، يَناَلُ جاَئِزَةَ الشِّعْرِ الْوَطَنِيَّةَ تَتْويِجاً لِدِيْواَنِهِ: سوُناَتاَ ضَوْءِ الْقَمَرِ. بَيْنَ 1967 وَ1971، سَتَفْرِضُ عَلَيْهِ الطُّغْمَةُ الْعَسْكَرِيَّةُ التَّنَقُّلَ بَيْنَ سُجوُنٍ عَديِدَةٍ لِيَنْتَهِيَ بِهِ الْمَطاَفُ بِالْوَضْعِ رَهْنَ الاِقاَمَةِ الْجَبْرِيَّةِ فِي جَزيِرَةِ ساَموُسْ. لَكِنَّ ذَلِكَ لَمْ يَمْنَعْهُ مِنْ مُواَصَلَةِ الْكِتاَبَةِ. فِي السِّتيناَتِ، سَتَغْتَرِفُ كِتاَباَتُهُ الشِّعْرِيَّةُ مِنَ الأُسْطوُرَةِ الإِغْريِقِيَّةِ: أَكاَمِمْنوُنْ [1966-1970]، اسْميِنْ [1966-1971]، عَوْدَةُ إِفِجيِنْياَ [1971-1972]. وَهِيَ قَصاَئِدُ مَسْرَحِيَّةٌ ذاَتُ لُغَةٍ شِعْرِيَّةٍ فاَتِنَةٍ وَشَفاَّفَةٍ، مُتْرَعَةٌ بِالتَّساَؤُلِ حَوْلَ الْحَرْبِ وَمَعْنىَ السُّلْطَةِ، مَعَ حُضوُرٍ قَوِيٍّ لِلْيوُناَنِ الْمُعاَصِرَةِ بِتَمَزُّقاَتِهاَ الْعَديِدَةِ عَبْرَ الإِسْقَاطَاتِ التَّارِيخِيَّةِ. كِتاَبَةٌ تَتَداَخَلُ فيِهاَ الاَزْمِنَةُ وَيَتْرُكُ فيِهاَ تَواَتُرُ الأَحْداَثِ الْمَكاَنَ لِدَفَقِ التَّفْكيِرِ الشِّعْرِيِّ. بِمُواَزاَةٍ مَعَ هَذِهِ التَّجْرِبَةِ الْفَريِدَةِ كَجِنْسٍ كِتاَبِيٍّ، واصَل ريِتْسوُسْ تَأْلِيفَ الدَّواَويِنِ: الْحَائِطُ فِي الْمِرْآةِ [1967-1971] ثُمَّ أَحْجاَرٌ، إِعَادَاتٌ، قُضْباَنٌ [1968-1969]. فِي أَواَخِرِ حَياَتِهِ، سَيَكْتُبُ ريِتْسوُسْ نُصوُصاً تَتَغَنىَّ بِالْجَسَدِ وَالشَّهْوَةِ الْحِسِّيَّةِ: إِيْروُتيِكاَ [1980]، عُرْيُ الْجَسَدِ، كَلِماَتُ الْجَسَدِ. وَكَتَقْييِمٍ لِمَسيِرَتِهِ، كَتَبَ دِيْواَنَهُ الأَخيِرَ: مُتَأَخِّراً جِداًّ فِي اللَّيْلِ [1987-1989]. تُوْفِيَ فِي 12 تشرين الثاني (نوفمبر) 1990 بِأَثيِناَ.
وَلَئنْ قُمْتُ بِصَفِّ قَصَائِدِ رِيتْسُوسْ فِي هَيْئةِ قَصَائِدِ نَثْرٍ، فَلأَنَّهَا تَحْوِي الْكَثِيرَ مِنْ أَجْوَاءِ وَمُمَيَّزَاتِ هَذَا الْجِنْسِ الشِّعْرِيِّ كِتَابِياًّ: قُدْرَتُهَا عَلَى التَّصْوِيرِ، بِحَيْثُ تَصِيرُ الْقَصاَئِدُ مَنَاظِرَ طَبِيعِيَّةً أَوْ مُنَمْنَمَاتٍ [عَلَيْنَا أَنْ لا نَنْسَى تَعَامُلَ رِيتْسُوسْ مَعَ الْمَادَّةِ فِي بُعْدِهَا التَّشْكِيلِيِّ كَرَسَّامِ لَوَحَاتٍ وَكَخَطَّاطٍ لِقَصَائِدِهِ عَلَى الْحَصَى]، وَاحْتِفَاؤُهَا بِالأَشْيَاءِ، بِحَيْثُ يُمْكِنُ اعْتِبَارُهَا مِنْ أَهَمِّ مُنْجَزَاتِ مَا أَسْمَاهُ رُوبِرْتْ بْلايْ Robert Bly، أَحَدُ رُوَّادِ قَصِيدَةِ النَّثْرِ الأَمِيرْكِيَّةِ، قَصِيدَةَ الشَّيْءِ thing poem.
وَحَسَبَ تِصْنِيفَاتِ بْلايْ هَذِهِ، يُمْكِنُنَا اعْتِبََارُ قَصاَئِدِ رِيتْسُوسْ مَزِيجاً مِنَ الْمُنَمْنَمَةِ وَقَصِيدَةِ الشَّيْءِ. يَزِيدُ تَأْكِيدَ نُزُوعِنَا هَذَا صَدَى تَرْجَمَةِ سَعْدِي يُوسُفْ لِرِيتْسُوسْ [إِيْمَاءَاتٌ، 1979] فِي الشِّعْرِ وَالشِّعْرِيَّةِ الْعَرَبِيَّيْنِ، كَمِهَادٍ لِقَصِيدَةِ النَّثْرِ فِي الْمَشْهَدِ الْعَرَبِيِّ، كَرَافِدٍ مِنْ أَهَمِّ رَوَافِدِ شِعْرِيَّةِ الْيَوْمِيِّ (قَصِيدَةِ التَّفَاصِيلِ).
(المترجم)

1 ـ قِصَّةٌ بِلا أَهَمِّيَةٍ

عِنْدَمَا كَانَتْ صَغِيرَةً، خَرَمُوا أُذُنَيْهَا ـ كَمَا قَالُوا لَهَا ـ كَيْ يُثَبِّتُوا فِيهِمَا قُرْطَيْنِ. كَبُرَتْ، تَزَوَّجَتْ، رَبَّتْ أَوْلاداً. أَمَّا الأَقْرَاطُ، فَلَمْ تَسْتَعْمِلْهَا أَبَداً. ذَاتَ مَسَاءٍ، قَالَ لَهَا ابْنُهَا الْبِكْرُ: ‘أُمَّاهُ، عَلَيَّ أَنْ أَرْحَلَ الآنَ، وَلَكِنْ سَآتِيكِ يَوْماً ـ سَتَرَيْنَ ـ بِقُرْطَيْنِ مِنَ الْفِضَّةِ الْمُصْمَتَةِ، طَوِيلَيْنِ بِحَيْثُ سَيَمَسَّانِ مَنْكِبَيْكِ. ابْتَسَمَتِ ابْتِسَامَةً بَعِيدَةً. ‘يَكْفِي أَنْ تَعُودَ لِي، أَيْ بُنَيَّ’، قَالَتْ لَهُ.
مَرَّتِ السِّنِونُ. تَزَوَّجَ الابْنُ. رَبَّى أَوْلاداً. لَمْ يَأْتِ بِالْقُرْطَيْنِ أَبَداً. دَبَّتِ الشَّيْخُوخَةُ فِي الاُمِّ، تَقَوَّسَ ظَهْرُهَا. بَدَأَ مَنْكِبَاهَا يَمَسَّانِ شَحْمَتَيْ أُذُنَيْهَا. وَكَانَتْ دَوْماً تَقُولُ فِي نَفْسِهَا أَنْ تُرْسِلَ لَهُ الْمَقَاسَاتِ، كَيْ لا يَكُونَ الْقُرْطَانِ أَطْوَلَ. وَذَاتَ يَوْمٍ، انْشَقَّ خُرْمَا أُذُنَيْهَا فَجْأَةً حَتَّى الأسْفَلِ. سَاعَتَهَا أَدْرَكَتْ أَنَّ ابْنَهَا مَاتَ.

2 ـ اَلْمُسَرْنِمُ وَالآخَرُ

لَمْ يُطْبِقْ أَبَداً عَيْنَيْهِ طَوَالَ اللَّيْلِ. كَانَ يَتَتَبَّعُ خُطَى الْمُسَرْنِمِ تَحْتَ سَقْفِهِ. كَانَتْ كُلُّ خُطْوَةٍ، مُتَثَاقِلَةً وَجَوْفَاءَ، تُرْجِعُ الصَّدَى بِشَكْلٍ لا نِهَائِيٍّ فِي رُكْنٍ فَارِغٍ مِنْ ذَاتِهِ. وَقَفَ عِنْدَ النَّافِذَةِ وَأَخَذَ يَتَرَقَّبُ. إِنْ سَقَطَ، سَيُمْسِكُ بِهِ بَيْنَ ذِرَاعَيْهِ. لَكِنَّ الآخَرَ، أَلَنْ يَجُرَّهُ رُبَّمَا عِنْدَمَا سَيَهْوِي؟ أَهُوَ، ثَمَّةَ، ظِلُّ طَائِرٍ يَتَرَاخَى عَلَى الْحَائِطِ؟ نَجْمَةٌ؟ أَهُوَ الآخَرُ؟ أَلَيْسَتْ يَدَاهُ؟
سُمِعَ عَلَى الْبِلاطِ صَوْتٌ مَكْتُومٌ. بَدَأَ النَّهَارُ فِي الطُّلُوعِ. فُتِحَتْ نَوَافِذُ. هُرِعَ الْجِيرَانُ. بَدَأَ الْمُسَرْنِمُ يَنْزِلُ أَدْرَاجَ السُّلَّمِ الْحَدِيدِ أَرْبَعَةً بِأَرْبَعَةٍ لِغَوْثِ الرَّجُلِ الَّذِي سَقَطَ مِنَ النَّافِذَةِ.

3 ـ طَرَقَاتٌ

شَيْئاً فَشَيْئاً تَتَآكَلُ الْبُيُوتَاتُ بِالْمِلْحِ، الشَّمْسِ، الْمَاءِ. ذَاتَ يَوْمٍ، ثَمَّةَ حَيْثُ كَانَتْ نَوَافِذُ وَأُنَاسٌ، لَمْ تَبْقَ إِلا أَحْجَارٌ اعْتَلَتْهَا الرُّطُوبَةُ، وَتِمْثَالٌ، وَجْهُهُ لِلأَرْضِ. الاَبْوَابُ، وَحْدَهَا، تُسَافِرُ عَلَى الْبَحْرِ، صَلْبَةً، مُتَمَرِّنَةً، خَرْقَاءَ. أَحْيَاناً، عِنْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ، نَرَاهَا تَتَلأْلاُ فِي كَامِلِ اسْتِوَائِهَا فَوْقَ الْمِيَاهِ الْمُغْلَقَةِ لِلاَبَدِ. الصَّيَّادُونَ لا يُلْقُونَ عَلَيْهَا وَلَوْ نَظْرَةً. لَقَدْ جَلَسُوا فِي بُيُوتِهِمْ بَاكِراً جِداًّ، أَمَامَ الْفَانُوسِ، يُصْغُونَ لِلأَسْمَاكِ تَنْزَلِقُ مِنْ خِلالِ شُقُوقِ أَجْسَادِهِمْ، يُصْغُونَ لِلْبَحْرِ يَطْرُقُهُمْ بِأَلْفِ يَدٍ [كُلُّهَا مَجْهُولَةٌ]، ثُمَّ يَهْوُونَ نَائِمِينَ، وَالاَْصْدَافُ مُتَشَبِّكَةٌ بِشَعْرِهِمْ. فَجْأَةً، يَسْمَعُونَ دَقاًّ عَلَى تِلْكَ الاَبْوَابِ فَيَسْتَيْقِظُونَ.

4 ـ بُيوُتٌ بيِضٌ..

بُيوُتٌ بيِضٌ، بيِضٌ بِكاَمِلِهاَ، صَفاَئِحُ قِرْميِدٍ مِشْمِشِيَّةٌ، مصْراَعاَ شباَّكٍ زَرْقاَواَنِ، الْخُيوُلُ الْقَرْفِيَّةُ فِي الرَّحْبَةِ. الْبيِضُ فِي الْحَقْلِ الأخْضَرِ. شُرَفُ الذَّهَبِ وَالْبَحْرُ. الْبَغْلاتُ فِي الْمُنْحَدَرِ بَيْنَ الأَحْجاَرِ. وَالْجُحوُشُ الصَّغيِرَةُ بَيْنَ الأَشْواَكِ. حَصاَئِرُ مِنَ الْقَشِّ، سَكاَكيِنُ وَسِلالٌ. وَضَحكاَتٌ بَيْنَ الْكُروُمِ. أَصاَبِعُ وَرُكَبٌ، صُدوُرٌ وَذُقوُنٌ مُدْماَةٌ فِي الْعِنَبِ، صَرَخاَتٌ حَمْراَءُ وَتَصَبُّباَتُ عَرَقٍ، فِي الْمُنْحَدَراَتِ نَقْنَقَةُ الدَّجاَجَةِ الذَّهَبِيَّةُ. وَحيِنَ ازْرَقَّ الْمَساَءُ شَيْئاً فَشَيْئاً، حَجَرِياًّ فَبَنَفْسَجِياًّ، هاَ هِيَ ذيِ السَّيِّدَةُ الْعَذْراَءُ وَفِي فوُطَتِهاَ الْفِضَّةِ عَشْرَةُ أَرْطاَلٍ مِنَ الْعِنَبِ الاَحْمَرِ. وَأَنْتَ وَحْدَكَ مُتَشاَمِخاً كَسَرْوَةٍ، سَيِّداً لِقُصوُرِ الْمِياَهِ الْمُعْتِمَةِ، تَجْلِسُ مُنْتَبِذاً، قُباَلَةَ بُرْجِ الأَجْراَسِ، عَلىَ قِمَّةِ الشَّفَقَةِ وَالْوَحْدَةِ، وَأَنْتَ تَكُرُّ عَلىَ رُكْبَتَيْكَ عَناَقيِدَ النُّجوُمِ الضَّخْمَةَ.

5 ـ مَنْظَرٌ شَامِلٌ

قَالَ: ‘الآنَ ـ أَرَأَيْتَ ـ هُنَا سَتَعِيشُ’. هُنَا. مَا هَمَّ، هُنَا أَوْ هُنَاكَ؟ ـ بَعْضُهُمْ يَنْزِلُ، الآخَرُونَ يَصْعَدُونَ نَفْسَ السُّلَّمِ، ـ لا يُحَيُّونَ بَعْضَهُمْ. نَافِذَةٌ تُغْلَقُ، أُخْرَى تُفْتَحُ. الْمَنْظَرُ هُوَ نَفْسُهُ: وَادٍ، رَابِيَةٌ، شَيْخٌ ذَاهِبٌ فِي الْغَسَقِ، وَحِيداً بِعَصَاهُ. زَيَاتِينُ، كُرُومٌ، الْمَشْنُوقُ، سَرْوَاتٌ وَالْحَوْرُ، بُرْجُ أَجْرَاسٍ، النَّهْرُ، الْكَلْبُ، الاُوْتُوبِيسُ، جَرَّةٌ، تَمَاثِيلُ، تَمَاثِيلُ، أَجْنِحَةٌ ضَخْمَةٌ مِنَ الرُّخَامِ ـ وَحَتَّى لَوْ كَانَتْ مُنْغَرِسَةً فِي كَتِفَيْكَ، أَتَظُنُّ نَفْسَكَ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَطِيرَ؟
03.11.1967

6 ـ بيَاضٌ

وَضَعَ يَدَهُ عَلَى الصَّفْحَةِ، كَيْ لا يَرَى الْوَرَقَةَ الْبَيْضَاءَ. فَرَأَى فَوْقاً يَدَهُ الْعَارِيَةَ. سَاعَتَهَا، أَطْبَقَ الْعَيْنَيْنِ أَيْضاً، وَأَصْغَى لَهُ يَصَّاعَدُ فِيهِ، دَفِيناً، ذَاكَ الْمُعْتِمُ، الْبَيَاضُ الَّذِي لا يُوْصَفُ.
لِيرُوسْ، 10.11.1967

7 ـ تَكَتُّمٌ

الْكَلِماَتُ تُشْبِهُ الأَحْجاَرَ كَثيِراً. بِهاَ يُمْكِنُناَ تَشْييِدُ بُيوُتٍ هاَدِئَةٍ، بِأَثاَثاَتٍ بَيْضاَءَ، أَسِرَّةٍ بَيْضاَءَ، يَكْفيِ أَنْ يَكوُنَ ثَمَّةَ مَنْ يَسْكُنُهاَ ذاَتَ يَوْمٍ، أَوْ عَلىَ الأَقَلِّ مَنْ يَأْتيِ لِيَنْظُرَ مِنْ خَلْفِ أَسْيِجَةِ الْحَديِقَةِ، ساَعَةَ تَتَوَهَّجُ زُجاَجِيَّاتُ النَّواَفِذِ بِلَوْنِ الدَّمِ وَحْيْثُ، مِنْ فَوْقِ التِّلالِ، تَقْرَعُ أَجْراَسُ الْمَساَءِ. بَعْدَ ذَلِكَ بِهُنَيْهاَتٍ فَقَطْ يَرْتَخيِ، يَضْرِبُ لِوَحْدِهِ حَبْلُ الْجَرَسِ.
ليِروُسْ، 12.12.1967

8 ـ بَلْدَتُنَا

ذَهَبْنَا فَوْقَ الرَّابِيَةِ لِنَرَى بَلْدَتَنَا ـ بِضْعَةُ أَرَاضٍ فَقِيرَةٌ، أَحْجَارٌ. زَيَاتِينُ. كُرُومٌ تَهْبِطُ عَلَى طُولِ الْبَحْرِ. قُرْبَ الْمِحْرَاثِ، دُخَّانٌ يَتَصَاعَدُ مِنْ نَارٍ هَادِئَةٍ. مَلابِسُ الْجَدِّ، صَنَعْنَا مِنْهَا فَزَّاعَةً لِطُيُورِ الزَّاغِ. أَيَّامُنَا تَمْضِي فِي طَرِيقِهَا بِقَلِيلٍ مِنَ الْخُبْزِ وَكَثِيرٍ مِنَ الضَّوْءِ. تَحْتَ أَشْجَارِ الْحَوْرِ ثَمَّةَ قُبَّعَةٌ مِنْ قَشٍّ تَتَلأْلأُ. عُصْفُورٌ فَوْقَ السِّيَاجِ. بَقَرَةٌ فِي الاَصْفَرِ. كَيْفَ حَدَثَ لَنَا أَنْ رَتَّبْنَا بِيَدٍ مِنْ حَجَرٍ بُيُوتَنَا، حَيَاتَنَا؟ مَا زَالَ دُخَّانُ شُمُوعِ عِيدِ الْفُصْحِ يَتَصَاعَدُ فَوْقَ إِطَارَاتِ أَبْوَابِنَا ـ صُلْبَانٌ سَوْدَاءُ بَالِغَةُ الصِّغَرِ خَطَّهَا، سَنَةً بَعْدَ أُخْرَى، الْمَوْتَى الَّذِينَ فَرَغُوا تَواًّ مِنَ الاحْتِفَالِ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ، بِتُؤْدَةٍ، بِفَخْرٍ. فِي كُلِّ اللَّيَالِي، مِنَ الْبِئْرِ النَّاشِفَةِ، تَخْرُجُ التَّمَاثِيلُ بِاحْتِرَاسٍ وَتَتَسَلَّقُ الأَشْجَارَ.
ليِروُسْ، 13.12.1967

9 ـ رَغْبَةٌ فِي التَّعْبِيرِ

مَعَ مَرِّ الزَّمَانِ وَالتَّعَبِ، الْكَلِمَاتُ بِدَوْرِهَا تَمُوتُ ـ كَذَا قَالَ. لَمْ يَبْقَ لَهُ شَيْءٌ لِيُعَبِّرَ عَنِ اللاشَيْءِ. صَارَتْ أَصَابِعُهُ دَقِيقَةً جِداًّ. خَاتَمُهُ يَسْقُطُ. يَرْبِطُهُ بِطَرَفِ خَيْطٍ، يُلْقِي بِه فِي الْبِئْرِ، يَسْحَبُهُ لَمْ يَعُدْ فِي الْبِئْرِ مَاءٌ، وَلا لِلْخَيْطِ مَعْنًى. وَرُغْمَ ذَلِكَ فَإِنَّ ارْتِطَامَ هَذَا الْخَاتَمِ بِالأَحْجَارِ كَانَ كَمَا لَوْ أَنَّهُ يَقِيسُ شَيْئاً، يَنْبَغِي قِيَاسُهُ بِأَيِّ ثَمَنٍ لِيَصِلَ، مَعَ حَضْرَةِ الْمَسَاءِ، لِنَفْسِ الْعَدَدِ الْفَرْدِيِّ الْمَكْتُوبِ خَلْفَ الْبَابِ.
17.12.1967

10ـ مَوْكِبُ الْمَسَاءِ

أَرَاضٍ فَقِيرَةٌ، فَقِيرَةٌ جِداًّ. أَيْكَاتٌ مُتَكَلِّسَةٌ، أَحْجَارٌ أَحْبَبْنَاهَا، هَذِهِ الأحْجَارُ، حَرَثْنَاهَا. الْوَقْتُ يَمُرُّ. شُمُوسٌ تَغْرُبُ لألاءَةً. زُجَاجِيَّاتٌ النَّوَافِذِ غَامِقَةٌ، أُرْجُوَانٌ. خَلْفَ التَّرْبِيعَاتِ أُصَصُ زُهُورٍ، فَتَيَاتٌ يَنْتَظِرْنَ. ضَبَابٌ يَتَصَاعَدُ مِنْ غُوَيْبَاتِ الزَّيَاتِينِ. عِنْدَمَا يَهْبِطُ الظَّلامُ، يَصْعَدُ الْمَوْكِبُ الْبَطِيءُ لِصَوَاحِبِ الْخِمَارَاتِ مِنْ خَلْفِ السَّرْوَاتِ، فِي خُطْوَاتِهِنَّ شَيْءٌ مَّا يُوْحِي بِالصَّلابَةِ، كِبْرِيَاءٌ عَرِيقٌ وَحُزْنٌ، تُدْرِكُ ذَلِكَ فَجْأَةً مَعَ الْخَطْوِ: رُكَبُهُنَّ مِنْ رُخَامٍ، مُكَسَّرَةٌ، أُعِيدَ لَصْقُهَا بِالإِسْمَنْتِ.
13.01.1968

11ـ عُمْقٌ

رَأَى الْغَطَّاسَ يَتَحَرَّكُ فِي الْمِيَاهِ الْعَمِيقَةِ بِحَرَكَاتٍ خَفِيفَةٍ، حَرَكَاتٍ شَهْوَانِيَّةٍ. قَلِيلا بَعْضَ الشَّيْءِ، رَأَى إِحْلِيلَ الأَرْضِ وَسَاقَيِ التِّمْثَالِ يَمْشِي بِخُطًى مُتَّئِدَةٍ فِي الْقَعْرِ. كَمَا رَأَى، مُضْطَجِعَةً هُنَاكَ، مُتْرَبَةً، امْرَأَةً كَانَتْ تَنْتَظِرُ، بِرُكْبَةٍ مَرْفُوعَةٍ، وَفِي بَطْنِهَا سَمَكَةٌ كَبِيرَةٌ، حَمْرَاءُ، حَمْرَاءُ بِكَامِلِهَا. لَكِنَّ الطَّحَالِبَ لَمْ تَكُنْ تَتَحَرَّكُ، لَمْ تَكُنْ ثَمَّةَ طَحَالِبُ. فَقَطْ قِطْعَةٌ نَقْدِيَّةٌ لُوِّحَ بِهَا كَانَتْ تَنْزِلُ بِبُطْءٍ لِتَتَوَقَّفَ تَمَاماً فَوْقَ فَمِ الْمَرْأَةِ.
أَثِيناَ، 06.04.1971

12ـ مَعْنَى الْبَسَاطَةِ

خَلْفَ الأشْيَاءِ الْبَسِيطَةِ أَتَوَارَى، كَيْ تَجِدُونِي؛ إِنْ لَمْ تَجِدُونِي، سَتَجِدُونَ الأَشْيَاءَ، سَتَلْمَسُونَ مَا لَمَسَتْهُ يَدَايَ، سَتُلاقِي آثَارُ أَيْدِينَا بَعْضَهَا.

قَمَرُ أُغُسْطُسْ يَتَلأْلأُ فِي الْمَطْبَخِ كَإِنَاءٍ مُبَيَّضٍ بِالْقِصْدِيرِ ـ لِلسَّبَبِ الْوَحِيدِ الَّذِي ذَكَرْتُهُ ـ يُضِيءُ الْبَيْتَ الْخَلاءَ وَصَمْتَ الْبَيْتِ الْجَاثِيَ عَلَى رُكْبَتَيْهِ ـ الصَّمْتُ دَوْماً جَاثٍ عَلَى رُكْبَتَيْهِ.

كُلُّ كَلِمَةٍ انْطِلاقَةٌ نَحْوَ لِقَاءٍ ـ غَالِباً مَا يُلْغَى ـ وَتَكُونُ كَلِمَةً حَقِيقِيَّةً فَقَطْ عِنْدَمَا تُلِحُّ، مِنْ أَجْلِ هَذَا اللِّقَاءِ.

13 ـ علىَ وَتَرٍ مُنْفَرِدٍ (مختارات من متوالية في هيئة أبيات منفردة)

معَ طاَئِرٍ كَوِساَدَةٍ، أَسْهَرُ لَياَليَ بِكاَمِلِهاَ. اَلْكَلِماَتُ الَّتيِ بَقِيَتْ خاَرِجَ الْقَصيِدَةِ خاَئِفَةٌ. اَلْمَعْنىَ خاَرِجَ الْحَواَسِّ، وَوَرَقَةٌ. هَذِهِ الشَّجَرَةُ، خِلْتُهاَ رَجُلا. لَمْ أَنْخَدِعْ بِالأَمْرِ. اَلْقاَرِبُ الَّذيِ ذَهَبَ عِنْدَ الْغَسَقِ، بَحْثاً عَنيِّ عاَدَ. أَناَ وَكُرْسِيَّ، ـ نَتَفاَهَمُ جَيِّداً. شَمْسٌ؛ قَهْوَةٌ؛ دَرَّاجَةٌ؛ زُجَاجِيَّاتُ نَوَافِذَ مَكْسُورَة. خَاتَمُ الزَّوَاجِ، خَبَّأَهُ فِي الثُّقْبِ الأَعْمَقِ. اَلاُسْطوُرَةُ قِناَعٌ جَيِّدٌ لِلْحِقَبِ الصَّعْبَةِ. وَأَنَا الَّذِي أَحَبَّ التَّمَاثِيلَ ـ بَحْرٌ تَمَلَّكَنِي وَتَمَلَّكْتُهُ. يَدٌ رُخَامِيَّةٌ مَقْطُوعَةٌ تُمْسِكُ بِكَ لِوَحْدِهَا فِي غَمْرَةِ الْمُعْجِزَةِ. فَلْيَنَمِ الْمَوْتَى أَخِيراً، كَيْ نَسْتَطِيعَ النَّوْمَ بِدَوْرِنَا. ثُمَّ يَبْدَأُ فَحْصُ جَسَدِ الْغَائِبِينَ. وَلَجْتُ الْحِصَانَ الْخَشَبِيَّ بِسَيْفٍ وَمِرْآةٍ. إِغْرِيقِيُّ. لا اسْتِعْرَائِيُّ. بَلْ عُرْيٌ. ثَمَّةَ حَيْثُ يَرْفَعوُنَ الصَّمْتَ فِي الصَّواَريِ. هَكَذاَ مَرَّتِ السِّنونُ ـ ذِئاَبٌ، كَلِماَتٌ وَأَقْماَرٌ. أَنَا، مِنْ بَيْنِ الْعَجَائِزِ، أَطْعَنُهُنَّ سِنَّا وَابْنُ نَفْسِي. مَا لا يُمَسُّ، أَهَبُهُ كَامِلا. وَلا يَأْخُذُهُ أَحَدٌ. هَذاَ الصَّرْحُ، شَيَّدْتُهُ بِأَحْجاَرِ الرَّجْمِ. خَطاَياَهُمْ، حَمَّلوُهاَ فَوْقَ ظَهْرِ الآخَريِنَ وَصاَرواُ قِديِّسيِنَ. الْمَساَفَةُ بَيْنَ الاَشْياَءِ لا تَتَواَنىَ أَنْ تَزِيدَ وَأَنْ تُوَحِّدَهاَ. كُلَّماَ كاَنَتِ الرُّؤْيَةُ عَميِقَةً، كُلَّماَ انْغَلَقَ الْفَمُ. كَيْفَ يَحْدُثُ لِلأَمْوَاتِ أَنْ يُقَرِّرُوا فِي حَيَاتِنَا؟ نُزْلٌ شَعْبِيٌّ. شَمْعَةٌ فَوْقَ الْمَغْسَلِ. وَأَصْوَاتُ اللَّيْلِ الْمُخْتَبِئَةُ. مَا سَتَقُولُهُ فِيمَا بَعْدُ، سَتَقُولُهُ لَكَ الْكَلِمَاتُ. الْكَلِمَاتُ، رُغْمَ ذَلِكَ، تَنْبُعُ مِنَ الاَفْعَالِ. عَلَى سِتَارَةٍ قِرْمِزِيَّةٍ، ظٍلٌّ ضَخْمٌ لِحِصَانٍ. كَيْ تَجِدَ الْماَضيِ، عَلَيْكَ أَنْ تَتَقَدَّمَ كَثيِراً. أَيُّهَا الشَّفَقُ، ظَفَرُ أَلْوَانِكَ يُخْفِي النِّهَايَةَ. رُخَامَاتٌ مُكَسَّرَةٌ، مَوْصُولَةٌ بِالْجِبْسِ وَالاِْسْمَنْتِ. يَسْتَعيِرُ مِنَ الْغَسَقِ أَلْواَناً لِيَجْعَلَهاَ زيِنَةً جَذاَّبَةً لِجُثَّتِهِ. لَيْلا، بِسُفُنِهِ يَلِجُ الْبَحْرُ غُرْفَتيِ. قَمَرٌ بْرُولِيتَارِيٌّ كَبِيرٌ فَوْقَ الْمَدِينَةِ الرَّاقِدَةِ. مَدَّ حَبْلَ مِشْنَقَتِهِ، وَأَخَذَ يَرْقُصُ فَوْقَهُ حَامِلا مَطَرِيَّةً صَفْرَاءَ. كَمْ يَتَلاشىَ الزَّمَنُ بِهُدوُءٍ فِي الشِّعْرِ. مَا سَرَقُوهُ مِنْهُ، سَرَقَهُ هُوَ بِنَفْسِهِ مِنْهُمْ كَيْ يُهْدِيَهُمْ إِيَّاهُ. أَتْفَهُ تَفْصِيلاتِ الْحُلْمِ هِيَ مَا يُعْطِيكَ قُوَّةً فِي النَّهَارِ. رَحَلَتِ السَّفِينَةُ، أَمَّا أَنَا فَبَقِيْتُ مَعَ عَمُودِ الإِنَارَةِ. تَحْتَ الْوَرَقَةِ الثَّابِتَةِ، رِيحٌ عَاتِيَةٌ تَدْفَعُ الْفُلْكَ فَوْقَ الصُّخُورِ. اَلنِّشاَرَةُ الَّتيِ سَقَطَتْ مِنْ شَعْرِكِ، وَجَدْتُهاَ الْيَوْمَ فِي الْقَصيِدَةِ. أَلَقٌ سِرِّيٌّ، مُضاَعَفٌ فِي الْمَراَياَ الْمُهَشَّمَةِ. التِّكْرَارُ: تَدْقِيقٌ فِي الْمَعْنَى الْغُفْلِ. لِتَعْلَمْ، ـ هَاتِهِ النَّغَمَاتُ عَلَى وَتَرٍ مُنْفَرِدٍ، هِيَ مَفَاتِحِي. هِيَ لَكَ، خُذْهَا. وَالآنَ حَيْثُ نَزَعْناَ كُماَمَتَهُ، كَيْفَ سَيَفْعَلُ لِيَتَكَلَّمَ؟

18 ـ عُرْيُ الْجَسَدِ (مختارات من متوالية في هيئة قَصَائِدَ صَغِيرَةٍ)

تَجَرَّدْتُ مِنْ سُتْرَتيِ. رَمَيْتُهاَ فَوْقَ الْكَتِفَيْنِ. فِي الْجَيْبِ الايْمَنِ ثَمَّةَ حَصاَةٌ بَيْضاَءُ بِكاَمِلِهاَ. ساَخِنَةٌ. نَسِيْتِ مِظَلَّتَكِ فِي الْقِطاَرِ. بيِ كُنْتِ تُفَكِّريِنَ إِذَنْ. مُبَلَّلٌ شَعْرُكِ. مَشَّطْتُكِ. الْمُشْطُ، وَضَعْتُهُ تَحْتَ الْقَصيِدَةِ. تَحْتَ كُلِّ الْكَلِمَاتِ جَسَدَانَ يَجْتَمِعَانِ وَيَفْتَرِقَانِ. مَا جَدْوَى النُّجُومِ إِذَا لَمْ تَكُونِي هُنَا؟ فِي النَّافِذَةِ الْمُقَابِلَةِ، ثَمَّةَ ضَوْءٌ. أَنْتِ تَتَعَرَّيْنَ. هِيَ أَنْتِ دَائِماً. الْفِرَاشُ، السَّجَائِرُ، جَسَدُكِ بِكُلِّ مَكَانٍ مِنَ الْفَضَاءِ ـ تِمْثَالُ دَمِي. لا إِسْمَنْتَ. فَرَاغٌ يَخْتَرِقُهُ قَضِيبٌ حَدِيدٌ. أَتَنَاوَلُ الْمِطْرَقَةَ، أَنْحَتُ الْهَوَاءَ، أَصْنَعُ تِمْثَالَكِ الْمَفْتُوحَ، أَلِجُهُ، أَبْقَى فِيهِ. أَتَحَسَّسُ زَوَايَا اللَّيْلِ ـ مِرْفَقَكِ، رُكْبَتَكِ، ذَقْنَكِ. أَحْجَارٌ تَتَدَحْرَجُ. وَلا ضَجِيجَ. أَيْنَكِ؟ خَمْسَةُ أَكْوَابٍ، تُمْلأُ، تُفْرَغُ. أَقْرَعُ فَوْقَهَا بِقَلَمٍ رَصَاصٍ. رَنَّةً بَعْدَ رَنَّةٍ تَأْتِي الْحِكَايَةُ. يَدَايَ: ذِكْرَاهُمَا عَنْكِ أَعْمَقُ مِنَ الذَّاكِرَةِ. بَحْرٌ شَدِيدٌ، ذُو أَزْرَقٍ عَمِيقٍ، أَضَاءَ وَجْهَكِ. كُلُّ الْمَوْتَى، طَرَدَتْهُمُ الشَّمْسُ. مَرَّ الصَّيَّادُونَ بِسِلالٍ فَارِغَةٍ. كَانَ الْقَمَرُ يَخْفِقُ فَوْقَ رُكْبَتَيْكِ. لَمْ يَعُدْ ثَمَّةَ شَيْءٌ يَفْصِلُ الْفَرَاغَ عَنِ الامْتِلاءِ. الزَّمَنُ يَتَمَدَّدُ، أَنْتِ تَتَمَدَّدِينَ. صُورَتُكِ ثَابِتَةٌ عَلَى الْحَائِطِ الدَّاخِلِيِّ.
أَثِينَا، 24.12.1980

15ـ مَنْظَرٌ

حُمُرٌ مَا زَالَتْ أَظْلافُهَا مُتَّسِخَةً بِالْجَدَاوِلِ الْمُوْحِلَةِ تَدْخُلُ هَذِهِ الْقَرْيَةَ، مُحَمَّلَةً بِسِلالِ الْبَامِيَةِ، الْبَاذِنْجَانِ وَالْبَنَدُورَةِ. تَدْخُلُهَا أَيْضاً شَاحِنَاتٌ مُرْتَجَّةٌ لِتُعْلِنَ فِيهَا عَبْرَ مُكَبِّرَاتِ الصَّوْتِ عَنْ شُحْنَاتِهَا مِنَ الْبَطِّيخِ الأَحْمَرِ الضَّخْمِ، تَحْتَ الشَّمْسِ. وَغَيْرَ بَعِيدٍ مِنْ ثَمَّةَ، يَجُولُ الصَّيَّادُونَ بِسِلالِ الصِّمْرِيصِ وَالسَّرْدِينِ الرَّخِيصِ؛ الْقِطَطُ تَجْرِي نَحْوَ الْحُقُولِ؛ النَّوَافِذُ تَنْفَتِحُ. آهِ لَوْ تَهُبُّ فَقَطْ نَسْمَةٌ عَلِيلَةٌ! ثَمَّةَ حَكَايَا غَرِيبَةٌ وَأَسْرَارٌ مَكْشُوفَةٌ تَحُومُ فِي الْمِينَاءِ؛ فِي الْبَاحَاتِ، تَنْقُرُ مَلاقِطُ الْغَسِيلِ السَّرَاوِيلَ الْقَصِيرَةَ، الْقُمْصَانَ وَالْفُوَطَ. أَمَّا الزِّيزَانُ فَتَنْقُرُ أُغْنِيَتَهَا صُحْبَةَ عَصَافِيرِ الدُّورِيِّ. صَحِيحٌ أَنَّ الأَرْيَافَ أَقَلُّ مُعَانَاةً مِنَ الرَّزَايَا. لَكِنَّ هَذَا لا يَمْنَعُ أَنِّي، مَسَاءً، أَرَى الْعَجَائِزَ يَنْثُرْنَ حُفَنَ الْمِلْحِ خَلْفَ الأَبْوَابِ، كَمَا أَرَاكَ، أَنْتَ، تَنْقُشُ عَلَى الْجِدَارِ لِطَرْدِ الاَرْوَاحِ الشِّرِّيرَةِ الَّتِي تَجُوسُ خَلْفَهَا.

16 ـ حُلْمٌ غَرِيبٌ

لا أَدْرِي ـ قَالَ ـ لِمَاذَا أَحْلُمُ عَلَى الدَّوَامِ، فِي هَذِهِ الأَيَّامِ، بِسُوقِ سَمَكٍ، نَتِنٍ، مُتْرَعٍ بِالْمَسْلُوخَاتِ، الأَحْشَاءِ وَالْحَرَاشِفِ الْيَابِسَةِ. يَقْتَعِدُ الدَّكَّاتِ شُيُوخٌ، عَجَائِزُ وَبَنَاتٌ يَنْظُرُونَ بِحَوَلٍ وَهُمْ يُمْسِكُونَ بِمِسْبَحَاتٍ طَوِيلَةٍ تَنْجَرُّ عَلَى الْبِلاطَاتِ السَّوْدَاءِ دُونَ أَنْ يَصْدُرَ عَنْهَا أَدْنَى ضَجِيجٍ فِي الظِّلِّ الْخَفِيفِ، تَحْتَ زُجَاجِيَةِ الْكَنِيسَةِ الْمُدَخَّنَةِ. لَكِنَّ أَغْرَبَ مَا فِي هَاتِهِ السُّوقِ أَنَّ السَّمَكَ لَمْ يَعُدْ يُبَاعُ فِيهَا، وَلَكِنْ أَقْفَاصٌ بِبَبْغَاوَاتٍ، بَبْغَاوَاتٍ مُبَقَّعَةٍ، غَرِيبَةِ الأَطْوَارِ، خُضْرٍ، حُمْرٍ، زُرْقٍ، بُرْتُقَالِيَّةٍ أَوْ بَنَفْسَجِيَّةٍ. طَارَ أَحَدُهَا، حَطَّ فَوْقَ كَتِفِي وَوَشْوَشَ فِي أُذُنِي: ـ طُزْ!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى