في أحوال المسرح العربي.. العقل مُهاناً
أنور محمد
المسرح قد يحرِّرُ العبيد من سلطة الأسياد، و يعطي صلاحيةً-صلاحياتٍ واسعة للقطيع، إلا أنَّه لا يتكفَّل بوضع عينين مبصرتين للأعمى؛ أعمى البصيرة. فلماذا نخافُ من المسرح..؟
ثمَّة سبب للخوف منه؛ فالطغاة أصحاب الرؤية الأحادية والرأي الواحد الصائب الذين لا رأي فوق رأيهم؛ يرون أنَّ المسرح ومهما كانت الذات الإنسانية تعاني من ضعفٍ في روحها، فإنَّه يردُّ لها اعتبارها، يُفرجينا كم هي ذات نبيلة وكريمة.
عندما نتحدَّث عن مسرحٍ قومي؛ مسرح عربي، فإنَّنا نقصد مسرحاً نبيلاً، لا مسرحاً يسيطر ويتسلَّط، نقصد مسرحاً ينقذ العقل لايهينه- يهين عظمته؛ مسرحاً بقدر ما يتعصَّب لقوميته بقدر ما هو إنساني: مسرح سعد الله ونوس، وممدوح عدوان، وألفرد فرج، وصقر الرشود، ونعمان عاشور، ويوسف العاني، ومحمود دياب، وشكيب وجلال خوري، ويعقوب الشدراوي، وعز الدين المدني، والطيب الصديقي، وجهاد سعد، وسعد الدين وهبة، وفرحان بلبل، وعبد الكريم برشيد.. لأنَّ المسرح المثالي والثقافة المثالية غير قائمة.
هناك مسرحٌ مشترك، ثقافة مشتركة. أو عندما نصرُّ على التعصُّب لقوميتنا، أو عندما تتعصَّب أيُّ أمَّة لثقافتها ولمسرحها ولـ (عقلها) فإنَّها تتعصَّب للاستبداد، لعجرفةٍ وتكبُّرٍ وتعالٍ مسرحي/ ثقافي وربَّما عسكري على بقية الأمم.
يمكن أن يكون هناك مسرح مختلف، وثقافة مختلفة. يحقُّ لألمانيا أن تعتزَّ بهيغل وماركس وبيتهوفن وغوته وبشيللر، مثلما يحقُّ لفرنسا أن تعتبر موليير وهوغو وبومارشيه وفلوبير وفولتير وروسو وآراغون هم جزء، أو يشكِّلون جزءاً من الثروة الثقافية للأمَّة الفرنسية. بمعنى أنَّ هناك ذاتٌ ثقافية قومية، لكن ليس هناك عرقٌ أو أمَّةٌ (سوبر).
الأمَّة اليونانية- وحدهُ المسرحُ الذي حفظها من التعفُّن ومن (الخممان). ما كتبه أسخيلوس ويوربيدس وأريستوفانيس. والمسرح هو الذي أسَّس للثقافة الوطنية، للثقافة القومية. طبعاً كانت هناك دولة يونانية، دولة حملت مشروع مسرحييها، حملته وحمته معنوياً ومادياً، دولة كانت تدعم المسرح ولا تدعم رغيف الخبز، دولة كانت تدفع للمتفرِّج أجر يوم عمل لكي يحضر العرض المسرحي، دولة كان يقول عنها أفلاطون: أثينا أمَّة ديمقراطية لأنَّها أمَّة مسرحية.
عربياً لم نبنِ؛ نخبنا السياسية والاقتصادية لم تبنِ هذه الدولة المسرحية، الدولة القومية؛ رغم أنَّنا نملك مقوِّمات الأمَّة أكثر من أيِّ أمَّةٍ على وجه الأرض. بالعكس نخبنا هذه صارت تهاجم العقلَ- العقلَ لأنَّه صار ينتقِدُها. نخبٌ وموظفون لا همَّ لهم سوى هدر المال والزمن والعمل على موت المسرح، والذين لا ينفكُّون يردِّدون أنَّ المسرح في أزمة، أنَّ الأزمة في المسرح. وهنا يجب أن نفرِّق بين الموظَّف والمبدع. فالموظَّف كان ومايزال يدقُّ المسامير في نعش المسرح، بينما المبدع كان ومايزال يدفع عنه أذى الموظفين هؤلاء- هؤلاء الذين يفضِّلون بناءَ سجنٍ على بناء مسرح. فما أكثر السجون في الأرض العربية، وما أقلَّ المسارح. المسرح وُلِدَ لمَّا ولدَ؛ وُلِدَ بمثابة مجلس نيابي (برلمان)، وليس معملاً لإنتاج البيرة أو الألبسة، أو صالون حلاقة أو دكَّان صرافة عملة. هذا المسرح الدكَّان الصرافة الذي افتعل الأزمة، وصرَفَ المتفرِّج، صرف الناس عن المسرحِ؛ المجلسِ النيابي الذي كان يضحك فيه المتفرِّج ضحكةً من أعماقه، ويبكي فيه بكاءً على حلم (قومي). على مشروعٍ (نهضوي). على أحلام (شخصية) طارت، تبخَّرت أمام قسوة وسطوة الشرط الاقتصادي والسياسي الذي يحكم الأمَّة.
وبالنسبة للمهرجانات المسرحية فنحن لانريدها أن تكون اجتماعاً مثل اجتماعات مؤتمرات القمة، أو مثل اجتماعات جمعية الأمم، أو مثل اجتماعات مجلس الأمن؛ فنختلف ونتَّفق ونعترض، ثمَّ نصدر بياناً ختامياً، هذه المهرجانات برأيي يجب أن تكونَ أهمَّ من أيِّ مؤتمرٍ لأيِّ قمَّة؛ لأنَّها بالأساس فرصة لكلِّ (متمهرج) كي يطالع ما عنده من أدبٍ وذوقٍ وغيرة على الإنساني، فنبحث -مثلاً- لماذا يصير فعل القتل محرَّماً في السلم؛ أو في حالة اللاحرب، بينما يصيرُ مباحاً، بل مستحبَّاً نذهبُ إليه وكأنَّنا نذهب إلى الحياة، وتدعمه الكثير من النصوص الدينية والأقوال والأمثال في حالة الحرب/ حين يشنُّ العدو -أيُّ عدو- الحربَ علينا؟
النهضة الأوروبية- و لو أنَّ الفلسفة هي بابها إلا أنَّ المسرح هو أعمدتها. النهضة الأوروبية هذه قامت على الآداب والفنون، والمسرح اليوناني قبل أكثر من ألفين وخمسمائة سنة كتابةً وفرجةً هو الذي أسَّس للديمقراطية وللحريَّة. لأنَّه- لأنَّ المسرح يعني فيما يعني إعادةُ الاعتبار (للفروسية)، لزمنِ الفروسية الذي يرفض قتلَ الغيلة والغدر كما يفعل (القناصة) اليوم. ولأنَّه أيضاً خطابٌ نوعي موجَّه إلى جماهير، إلى قطاع من الناس هم من خاصَّة الأمَّة لكنَّهم عامَّتُها؛ ضميرها، وجدانها. وهو خطاب يتطلَّب مشاركة مباشرة، لأنَّه خطاب إنساني ذو ملامح، بل ذو إشارات (قومية) لها خصوصيتها: عربية، هندية، فرنسية، رومانية، إلخ…. الهَمُّ الإنساني واحدٌ ومشترك بين الشعوب، لكن لكلٍّ منها رائحته الخاصة، وألوانه المفضَّلة. ولكلٍّ طقسه في العبادة وفي الزواج وفي الموت. فلا يقبل أن نسمي المصادرات تأميماً، والثورات إرهاباً، والقراصنة مبشرين، والمحتل الأميركي النبي المنتظر. والمال العربي السائب، والأرض العربية السائبة، والإنسان العربي المسيَّب؛ هو قضاءٌ وقدرٌ كتبه مَنْ كتبه علينا. وأنَّ الثروات القومية هي ملك لأفرادٍ وليست ملكاً للأمة.
المسرح يعالج كلَّ هذه الأمراض، بما فيها أمراض السأم من الحياة، والضجر من القراصنة ومن الطغاةِ وبلمسةٍ واحدة؛ حين نرى قيم الجمال تنتثرُ، تنتشرُ في فضائه فنقبض عليها، تقبض عليها روحنا بهدوء، فيما العقلُ؛ عقلُنا يجرِّدُها بقسوةٍ ليطالع منها عصير المعرفة المغمَّس بالصبر، الذي يرى أنَّه إذا كان للمرض ألفٌ علَّةٍ سحرية وسريِّة، فيكفي أن تكون له علَّة فيزيولوجية واحدةٌ لنشفى، لتشفى الروح منها عندما نجسِّدها بالحركة، وبالحركة على المسرح فنقول: هذا لصٌّ كان يشتغل عبداً عندنا، وسنفرجيكم كيف أصبح سيِّداً؛ سيِّداً علينا.
ناقد وباحث مسرحي سوري