“شعب قيد الرحيل”
رستم محمود
(إلى شورش ميرو)
في أماكن شتى، تسمع حكايات هؤلاء الذين يودّون أن يرحلوا إلى الطرف الآخر من مياه المتوسط، هؤلاء المهاجرون الذين رأينا بعض مأساتهم في صور رفاتهم على الساحل الليبي منذ أيام. لكل منهم حكاية ما، قبل أن يطأ مرتبة الرغبة بالهجرة، حكاية تؤهله مع أحبائه وذويه لإمكانية تقبل النهاية تلك.
حكايات هؤلاء يختلط فيها المعاش بالمتخيل، ربما ليصنع الخيال عتبة ما لمغامرة الرحيل، وربما لأن المعاش لمدى قلقه وتركيبيته يكاد أن يكون متخيلا. ليست الحكايات تلك جزءا بسيطا من يوميات الناس، بل قد تسمعها في كل زمان وأي مكان. فبالإضافة إلى أي مشروع يرسمه كل منهم (على أقل تقدير حيث أسكن أنا) لحياته ومستقبله، ثمة مشروع رديف بالهجرة. حتى إن الناس هنا بالجملة يمكن أن يطلق عليهم باللغة الكردية (mileteki li ser re) والتي تعني ترجمتها العربية ” شعب قيد الرحيل “. فالناس كلهم في حالة استعداد نفسية وعقلية للهجرة، في انتظار أن تطبخ الحكاية، والتي تكون بمثابة العذر والسبب والحجة والمعوض، لموت يسمى مجازا هجرة، وأن ينجح النرد في الطريق، وبذا يتحول الفرد لمهاجر مع حفظ الألقاب – وهذه بضع حكايات هؤلاء، والتي ستروى على ألسنة قائليها وبأسمائهم.
[صلاح
أنا والله العظيم، ما كان بدي سافر(هاجر)، وكتير كنت بحبّن لأبي وأمي واخواتي البنات، خصوصا أصغر وحدة نجمة، ومو بس هنن، حتى الحَمامات ما كنت مفكر كيف ممكن أنو أتركهن، فمن لما كنت صغيرا كان الحَمام هو اهتمامي الوحيد، وبتقول أمي أنو أنا بحب الحَمام أكتر منها، وأني تركت المدرسة منشان الحمامات. بتعرف والله العظيم الحَمام عم بيحكي، والمشكلة أنو ماحدا بيفهم منون، ولا حدا مصدق أنون عم بيحكوا، بس أنا مصدق ومتأكد، فيك تقول عني مجنون، بس أنا مصدق حالي مليون بالمليون. كل هاد على راسي وكتير بيغلى علي، بس يا خيو الدنيا مش بس حَمام وسطوح، وشدة ورق وكاس وطاس. الدنيا بتطلب منك بيت وشغل ومرة وكان وبيكون، وأنا والدي زلمة على قد حالو، وأنا لا درست مدرسة ولا تعلمت صنعة، وعندي خمس أخوات بنات، وبدون حدا يصرف عليون لما يكبروا، ومصروف البنات عنب شباط، متل ما كانت ستي بتقول الله يرحمها. والبلد متل ما انت شايف بدو بس حدا يبكي عليه، لا المواسم متل العادة، ولا في توظيف بالبلد، ولا بيخلوا حدا يتاجر، وأنت سيد العارفين بالوضع على كل حال.
يا زلمة وحياتك بعرف أنو الطريق كتير صعب، ويمكن الواحد يغرق بالبحر، أو يقوسوا حارس الحدود بين بلد أوروبي وتاني، وأنو لازم اكذب عالقاضي لما بوصل لهونيك ( لأوروبا) وكمان، ووو، وبعرف أنو انا بحياتي ما تصورت أدخل هيك فوتات، وكتير مستصعبها. بس أنت جاوبني أنا شوفيني ساوي غير هيك، وأنا بربط حالي بمية سلسال وما بروح، بس الله وكيلك ما في حل،…….
على فكرة، أنا وصيت شباب الحارة عالحَمامات لأرجع…. آخ…آخ
[علي
لما بفوت عالمحكمة بينتابني شعور بالتقيؤ، كلو بيدفعك للسأم، من البواب اللي أكيد هو عين لحدا وبتحسو بيراقبك من كندرتك لراسك، وبيتجسس حتى على مشاعرك، للموظفين والكتاب ألي بيطالعولك حجة من تحت الأرض ليعطلولك شغلك ويجبروك لتدفعلون، حتى لو كنت ماشي على الصراط المستقيم، ووصولا للقاضي اللي بيساوي حالو راكز وأبو هيبة، وهو كذاب ومرتشي ورخيص، وببيع ضميرو بنكلة. يا خيو أنا ما فيني أتحمل هالقرف. يعني إما بدك تخسر حالك وتستسلم، وتصير مسطح ومعوم ولا أي شي بهمك، وبتصير تقول: وأنا شو ألي علاقة، وحط راسك بين الروس وقول يا قطاع الروس، وكلو عادي، أهم شي الصحة. يعني بالمختصر واحد معزول ومهمش وباهت ورمادي وحتى عدمي… أو بدك تتحمل وجع الراس وتضيّع حالك وعائلتك وتقضيها خناقات وشنطة، وأنا من بين كل شي صرت محامي، بس والله أنا شايف أنو الوضع كلو نفس الشي، وبكل المستويات. وأنا ما فيني أتحمل، لازم أحافظ على حالي، أقل شي قسمي البيولوجي، والسلامة النفسية الطبيعية. وحياتك بعرف أذا سافرت كتير راح اشتاق للناس وللشوارع ولطفولتي، وذاكرتي راح يصيبها جرح، بس شو بدي ساوي، الموضوع نسبي، وهيك وهيك أنا بحس أني مطعون بكل سيرتي…. بس إذا سافرت يمكن لما بغير الجو، يمكن أتحسن نفسيا شوي… تصور كل لحظة عم بتخيل أنو بيوم من الأيام، ممكن أكون مع زوجتي بالسيارة، وبسرع شوي وأعدي شي حدا يكون من اولاد الذين، فيقوم يبهدلني وحتى يشحططني ويضربني قدام زوجتي، بتخيل شو ممكن ساوي وقتها، بنتحر مباشرة لحظتها، ولا بنتظر لأموت شوي شوي من قهري. هايدا مش خيال، هايدا ممكن جدا، وفي كتير قصص متل هيك صارت مع الناس…. أتركنا يازلمة أنا كتير تعبان.
هونيك أذا سألني القاضي ليش هاجرت، راح ورجيه هويتي تبعيت ممارسة المهنة، وهو قاضي وأكيد راح يفهم معنى أنو يكون في حدا محامي، وما بيلاقي حل غير أنو يهاجر.
[شهناز
لما بفتح شباك البلكونة الصبح، باخد نفس طويل من هاي الجبال اللي مقابيلي، بهاي الجبال أستشهدوا تنين من ولادي، والتالت مقطوعة أخبارو، ما بعرف حي ولا ميت، هي الأرض فديناها بروحنا لنعيش عليها متل البني آدمين، وكل مرة لما بتطلع طيارة فينا من هون للسويد، بحس أن روحي بدها تطلع. بس يعني مش معقولة ننحرم من أولادنا الكبار لأنون استشهدو بالثورة الكردية، وننحرم كمان من الكبار لأنون صاروا بالسويد، لأنو نحنا بعتناهون حتى ما يلحقوا بأخواتون في الجبال. أنا وأبوهون كتير تعبانين، ما بنعرف نترك الأرض ألي فدوها اولادنا بدمّن، وبنموت من القهر. ولا بنترك شوفة أولادنا اللي بالسويد، وبنموت ونحنا مشتاقين للي بقيلنا من هاي الدنيا، بس اذا رحنا عالسويد يمكن شوفة أولادنا تعوضنا شوي، بس والله كتير بنحب هاي الأرض أللي نبتتنا.
أذا بالسويد سألني القاضي: ليش هاجرت من بلادكون، وجيتي لهون. وقتها والله راح قلو: كانون متلك فهمانين وخواجات اللي قسموا بلادنا حطوا بينا وبين أهلنا أسلاك كهربائية، حتى انو بلادنا ما عادت تنعاش، وهلا جاي تسألني ليش تركت البلاد!!
[سوار
بدك بصراحة ومن الأخير، حسد وضيقة عين، نعم سيدي هيك ومش شي تاني. أنا وضعي منيح، عندي أرض زراعية وبيت وسيارة، وفيني بكرا بتزوج وأفتح بيت من مجاميعو. بس هدول اللي عم بيرجعو من أوروبا بالعطلة الصيفية مساوين معي عقدة نفسية، لك يازلمة كل واحد ما بتعرف قرعة أبوه من وين، جاي وراكبلي بي أم دبليو، وحاططلي وحدة أجنباوية شعرها متل القصب الهندي، وبتشوف البنات حواليه متل النحل، والتاني جاي ومساوي حالو فهمان ومحلل وخبير وبيحكي بالسياسية والاقتصاد والفن والكل مصدقينو، لأنو شو، جاي من أوروبا. وهنن وآبهاتون كانوا فلاحين وعمال عند أبوي. وهاي المقطوعة أوروبا ساوت منن شغلة وشغلات. تصور يا عمي جمالو أبن شريفو اللي كان ببيع كاز، صار أسمو جمال هولندا، لأنو كل الناس أللي بتسافر لهولندا صار جمالو بيروح بيستقبلون بالمطار هونيك، والدب عبدو النسونجي صاير أسمو الأستاذ عبد الباقي، لأنون بيقولوا فاتح جمعية للأكراد بالنرويج، ومساوي فهمان بالأدب والسياسية وحقوق الإنسان، وكل يوم عم بيطلع على فضائية، والله متل ما بتعرف أنت كان وبظن لسّاتو طبلة بكل شي … وكمان ما بعرف مين متصور مع رئيس وزراء بريطانيا وملك السويد، وهنن كانوا جوعانين مقطعين مش ملاقين لياكلوا . فدخلك ليش أنا وحدي بكون محروم من هالنعمة.
والله راح هاجر لو حطيط اللي تحتي واللي فوقي، وعمرو ما حدا فتح مشروع بالبلد، ولو كل بنات البلد صاروا عازبات…. شو ما ضل حدا غيري ليتحمل.