صفحات مختارة

حول إبطال فتوى ابن تيمية في شأن الجهاد

خالد غزال
في خطوة مهمة وجريئة، لم يسبق اللجوء اليها من قبل، أبطل علماء دين مسلمون فتوى تعود الى القرون الوسطى في شأن الجهاد، كان الفقيه المسلم ابن تيمية قد أصدرها قبل سبعة قرون، وتقضي بخوض الجهاد واستخدام العنف المتشدد ضد غير المسلمين، بعدما جرى تقسيم العالم الى «دار إسلام» و«دار حرب».. أتى إبطال الفتوى في «مؤتمر ماردين» في شرق تركيا، شارك فيه خمسة عشر عالما من علماء الدين في بلدان من بينها الكويت والمملكة العربية السعودية وتركيا والهند والسنغال وإيران وإندونيسيا.
تكمن اهمية إبطال الفتوى من كونها، اولا وقبل كل شيء، صادرة عن علماء دين، تعطيهم المؤسسة الدينية الحق في التشريع واصدار الفتاوى، وهو امر مختلف كليا لو ان هذه الفتوى صدرت عن فلاسفة او مفكرين علمانيين او مؤمنين، حيث كان يمكن رميهم بتهم شتى تصل الى حد التكفير. أما وان علماء الدين هم من بادر الى إلغاء الفتوى، فهو يعطيها قوة مادية وصدقية في الآن نفسه، وتشكل رادعا لرجال دين من شتى أنحاء العالم العربي ممن لايزالون يتمسكون بحرفية فتاوى تسيء الى الاسلام اكثر مما تخدمه.
ليس من قبيل المبالغة وصف هذا الإبطال بمثابة خطوة صحيحة على طريق الإصلاح الديني، بما يطال كثيرا من الأحكام والاجتهادات، ويزيل التشوهات التي ألصقت بالإسلام من خلال إعلان التمسك بها.. يصعب أن يدق العالم الإسلامي باب الإصلاحات الضرورية من دون دور فاعل للمؤسسة الدينية، أو على الأقل لرجال دين متنورين يدركون متطلبات العصر، وضرورة مماشاة الدين الاسلامي لأحكام العالم الراهن.. ان التشديد على اهمية دور رجال الدين في القيادة، أو المبادرة في الاصلاحات، تنبع من كونهم الجهة المنصّبة والمدافعة عن النصوص وتفسيراتها وتطبيقاتها.
لم يكن للاصلاح الديني الذي انطلق في اوروبا مطلع القرن السادس عشر ان ينجح، لو لم يكن المبادر فيه من رجال الكنيسة المسيحية، من امثال مارتن لوثر، وكالفن وغيرهما.. كما لم يكن في الإمكان في التاريخ الاسلامي الحديث عن ضرورة الاصلاح للمؤسسة الدينية، لو لم يكن قائد الدعوة الشيخ محمد عبده مفتي الديار المصرية، ومعه علماء دين من امثال جمال الدين الافغاني ورفاعة الطهطاوي وغيرهم..
تكمن الأهمية الثانية للفتوى بإخضاعها لمنطق التطور التاريخي، ونسبتها الى مرحلة محددة من التاريخ الاسلامي، حيث كان المغول يغيرون على اراضي المسلمين.. تشكل القراءة التاريخية للنصوص الاسلامية والفتاوى والفقه المتكون حولها، واحدة من القضايا التي يدور سجال كبير حولها في الفكر العربي والاسلامي.. تدور احدى المسائل على التمييز بين ما يتصل بالعقيدة والايمان وجوهر ما يدعو اليه النص الديني من عبادة الله والايمان باليوم الآخر وبالتوحيد والمعاملة الحسنة والتسامح وكل ما يتصل بالجوهر الانساني، بحيث يجري تصنيفها في كونها تتجاوز الزمان والمكان وتتصف بالديمومة من جهة، وبين احكام وتشريعات صدرت في زمان محدد او في مكان معين، وكانت تجيب عن اسئلة ومشكلات تواجه المجتمع، فنجم عنها احكام وفتاوى وتشريعات، لم يعد الكثير منها يتوافق مع الزمن الراهن والتحولات التي شهدها العالم.. هذه الفتاوى يمكن القول في شأنها ان الزمن قد تقادمها، وليس من الممكن اسقاطها على عصر يختلف في سياقه وثقافته وقضاياه عن زمن الصدور السابق. بهذا المعنى تأتي اهمية الغاء الفتوى واعطاء التفسير العلمي بانها تعود لتاريخ سابق لا تنطبق شروطه ومقاييسه على الزمن الراهن.
اذا كان العالم العربي والاسلامي يعاني اليوم من انبعاث الحركات الاصولية وافكارها المتطرفة وممارساتها الارهابية واعتمادها على فتاوى ونصوص ديينة تبرر لها اعمالها، فان صدور هذه الفتوى ضد الجهاد تمثل واحدا من الاسلحة الفعالة في مواجهة هذه الحركات. لا يمكن الادعاء او الاتهام الاصولي للقائلين بالغاء الفتوى بانهم غير صالحين لاصدارها، فنحن هنا امام علماء دين وليس امام رجال من العامة. كما ان اعادة الفتوى الى الظروف التاريخية التي قيلت فيها يسحب البساط من تحت اقدام منظري الحركات الدينية المتطرفة الذين يدمجون ويخلطون بين ما يتصل بالجوهر الروحي والانساني والاخلاقي للنصوص الدينية، وبين الاجتهادات الفقهية التي تعتبر ابنة الظرف المحدد. وهي نقطة ذات اهمية كبيرة في السجال ودحض تنظيرات المتطرفين. يكفي التذكر ان اسامة بن لادن وسائر زعماء تنظيم القاعدة، وغيرها من التنظيمات ذات الطابع الاصولي، ترى في فتوى ابن تيمية احد الدعائم النظرية والايديولوجية التي تلهم ممارساتهم الارهابية. هنا يكتسب الابطال كل اهميته، عبر نزع الغطاء «الفكري» عما يسمى بالنضال الجهادي لنشر الاسلام في العالم.
كما تكمن اهمية ابطال الفتوى من حيث انها تعيد الاعتبار الى موقع الدين الاسلامي في العالم.. ومما لاشك فيه ان اندلاع الفكر الاصولي وتحوله الى ممارسات عنفية، واستخدام الاسلام بالجملة في كونه مبررا للارهاب، سواء من خلال النصوص الرسمية او من الفتاوى، اعطى فكرة في العالم ان الاسلام يشجع الارهاب.. وفاقم الامر سلسلة الهجمات الارهابية التي جرت في العالم منذ العقد الاخير من القرن العشرين، وعلى الاخص هجمات ايلول (سبتمبر) في الولايات المتحدة الاميركية، وما تبعها لاحقا في انحاء مختلفة من اوروبا، حيث كان متطرفون اسلاميون يقومون بالتفجيرات الانتحارية والارهابية. من دون اغفال ان الغرب يحمل على العموم نظرة سلبية الى العالم العربي والاسلامي تتصل بظروف تعود الى التاريخ السابق في نهضة الدولة العربية والاسلامية، او الى شبكة المصالح الغربية ومرحلة الاستعمار، الا ان سلوك الحركات الاصولية و«اعتقالها» للاسلام والنطق باسمه بالجملة، وضع هذا الدين في موضع سلبي تجاه المجتمع العالمي، خصوصا ان المؤسسات الدينية ظلت محجمة الى حد كبير في تفنيد ورفض مزاعم الحركات الاصولية حول ممارستها وانعدام صلتها بالاسلام.. لذا يأتي الابطال لفتوى ابن تيمية ليشكل خطوة هامة في مسار تصحيح النظرة الخاطئة الى الاسلام والمجتمعات التي تعتنقه.
لا تكفي هذه الخطوة للقول ان الاصلاح قد انطلق بقوة، لكن التجرؤ عليها يشكل شرطا ضروريا في هذا الانطلاق.. مما يدعو الى التفاؤل، وان كان بحذر، ان البيان الصادر عن المؤتمر اختتم بدعوة لعلماء الدين المسلمين لاجراء مزيد من البحوث لتفسير سياق الفتاوى التي صدرت في القرون الوسطى، واعادة النظر بها في ضوء العصر الراهن.
أوان

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى