صفحات العالمعبدالله تركماني

بعض مظاهر محنة الأمة

الدكتور عبدالله تركماني()
إذ يمنح التاريخ للأمم لحظات حاسمة من حياتها حتى تقف أمام الحقائق العارية لاستخلاص الدروس الكبرى لمواصلة البقاء، فإننا أمام لحظة فاصلة يتحتم فيها على الأمة العربية أن تحسن استشراف ما هو متوقع ومحتمل، بعيداً عن التمني والرجاء، وبعيداً عن الاستغراق في الأوهام.
وتبدأ محنة الأمة – أية أمة – من نقص كفاءة النظم السياسية السائدة وضعف قدرتها على تفادي توريط شعوبها في مأزق جديد بين حين وآخر، حيث تكون النتيجة هي أن تدفع الشعوب الفاتورة الغالية، بينما تستمتع بعض النظم بميّزات متزايدة وإمكانات ضخمة. وغالباً ما يرتبط ذلك بديكتاتورية الحكم وغياب الديموقراطية وسيطرة التخلف السياسي، بل وشيوع الفساد أيضاً.
إنّ محنة الأمة تأتي من مجموع الفرص الضائعة على مختلف الأصعدة، بدءاً من غياب التضامن العربي وضعف التنسيق السياسي ومحدودية التكامل الاقتصادي، وصولاً إلى تزايد الفاقد من قدرات الأمة والذي يبدو أكثر كثيراً من المتاح منه، فضلاً عن سوء استخدام الموارد أو توظيف القدرات. ولكنّ التأخر السياسي هو جوهر القضية، منه بدأت مآسينا وعنه انطلقت مشاكلنا وارتبطت به نكباتنا وهزائمنا بل كوارثنا.
وإذا كان الفساد ظاهرة عالمية تعاني منها كل المجتمعات وتعرفها كل النظم ويدفع ثمنها المواطن العادي في كل الشعوب، فإنّ شيوع الفساد وتجاوز معدلاته للنسب المعتادة في العالم العربي هو الأمر الذي يدعو إلى القلق ويحتاج إلى المراجعة، علماً بأنّ الفساد كل لا يتجزأ ترتبط عناصره المختلفة بالجوانب السياسية والاقتصادية والاجتماعية، في ظل مناخ عام تغلب عليه المعايير السطحية وتختلط فيه السلطة بالثروة وتغيب عنه ضوابط حماية المال العام ويضعف فيه الشعور بالانتماء إلى الوطن.
ثم فلننظر إلى واحد من معوّقات التقدم في العالم العربي، وهو الفرق بين الكلمة ومعناها، بخلاف الوضوح والتطابق بين المعنى المقصود منها في الدول المتقدمة، وهو الشرط الأساسي لعدم التشرذم في الحركة الاجتماعية المساندة لتحقيق أي هدف عام، وهو الحبل الذي يربط المجموع ببعضه، فحين يقع التضارب بين الكلمة المنطوقة ومحتواها الفعلي يحدث التشوش، والتفكك، والتقاعس، واللامبالاة، وعدم الجدية، وضياع الالتزام. حتى أنّ شعوباً عربية فقدت الإحساس بالمعنى العظيم لكلمة الحرية والاستقلال عندما وجدت أنّ أنظمة الحكم التي نقلتها من عصر الخضوع للاستعمار قد أدخلتها إلى عصر من الحكم الشمولي.
وهكذا، ينطوي الوضع في العالم العربي على عدد من المعوّقات السياسية والاجتماعية والثقافية التي تحول دون النهوض الحضاري:
– تضخم دور الدولة وغياب الدور الأساسي لمؤسسات المجتمع المدني والتي تتعرض لقيود تعوق حركتها في تطوير الممارسة الديموقراطية، بسبب إحكام النظم السياسية قبضتها على تلك المؤسسات من خلال مرحلتين: سيطرة العسكريين أو الأسر الحاكمة على مقاليد البلاد بعد الخلاص من مرحلة الاستعمار، ثم تنامي نفوذ المؤسسات الأمنية بشكل تضخمت معه أجهزة السلطة وتوارت مؤسسات المجتمع المدني وانحسر دور النقابات والجمعيات المهنية المستقلة، إما بسبب القيود التنظيمية أو التدخل الحكومي في انتخاباتها وتوجهاتها.
– ضعف الالتزام باحترام القانون في أغلب المجتمعات العربية، والافتقار إلى سيادة القانون وتساوي كل المواطنين حكاماً ومحكومين أمام القانون، مما جعل معظم الناس يعيشون ثقافة تولد أجيالاً عربية لا تحترم القانون وتنظر إليه على أنه تنظيم لردع الأقلية غير المنضبطة، وليس نظاماً للمجتمع وتوفير أساس لضوابط الحريات والحقوق والواجبات وتحديد المسؤوليات.
إنّ ما أصاب المشروع العربي هو أنه لم يتعزز بالديموقراطية وظل أسير تجاذباته وأزماته ولم يوسع قاعدته على أساس المواطنة والانتماء والتعددية، لذلك لم تظهر الدولة الديموقراطية الحديثة إلا في الشكل التبعي للنظام، وتحول الخطاب العربي إلى قناع يخفي التأخر والعجز والعيوب. ولم تتأسس بالتالي العلاقة التعاقدية بين الفرد والمجتمع، الفرد بصفته مواطناً وليس مجرد عضو في الطائفة والعشيرة والقبيلة، التي بدورها تقوم بالتعاقد مع النظام. ومن هنا يبدأ خلل المعاني والوظائف والأحوال، فلم تعد الدولة المعبِّر الحقيقي عن أهداف وتطلعات وأماني الشعب الذي انبثقت منه، فبدلاً من أن تمارس دورها في تحقيق التغيير لعبت دوراً في تجميد وقمع وتعجيز المجتمعات العربية.
في أي حال، نحن إزاء عجز مضاعف ومركب في العالم العربي، سواء لجهة معالجة المشكلات المتراكمة والمزمنة في الداخل، أو لجهة تطوير صيغ ومؤسسات العمل العربي المشترك، أو لجهة التعاطي مع التحديات الخارجية والتحولات الجذرية والمتسارعة التي يشهدها العالم. والعجز في الداخل المحلي والوطني أو القومي والإقليمي هو الوجه الآخر للتبعية والهامشية لجهة العلاقة مع الآخر والخارج على المستوى العالمي، لأنّ من يعجز عن إدارة شؤونه وتنمية بلده وبناء قدراته، بإطلاق قواه الحية واستثمار طاقاته الخلاقة، لن يقوى على ممارسة دور فعّال على مسرح الأمم.
( كاتب وباحث سوري مقيم في تونس.
المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى