المرأة والكتابة في “اللبن الأسود” لأليف شفق
بكر صدقي
كآبة النفاس من أجل المبتدئين
تقلب الروائية التركية المتألقة أليف شفق السؤال التقليدي عن سبب وجود عدد قليل من الأسماء النسائية في تاريخ الأدب، والثقافة بصورة أعم، إلى السؤال الآتي: أليس من الغريب وجود هذا العدد الكبير من الأسماء النسائية اللامعة على رغم كل الشروط غير الملائمة التي تجعل من الخلق الثقافي عند النساء ما يشبه المعجزة؟ في رأيها أن كل امرأة أرادت أن تعمل في مجال الخلق اصطدمت، في مرحلة من حياتها، بوجوب الاختيار بين الأمومة والكتابة، وهو شرط في منتهى القسوة لا يواجهه الرجل عموماً. تستعرض أليف شفق في الرواية عدداً كبيراً من الكاتبات عبر العالم لتعطينا لمحة عن سير حياتهن الشخصية وكيف واجهن الخيار المذكور، فنرى معاً أن قسماً منهن رفض إنجاب الأولاد وتفرغ للعمل الكتابي (إميلي ديكنسون وشارلوت برونتي ودوروثي باركر وليليان هلمان وباتريشيا هايسميث وآيريس موردوخ وجانيت وينترسون وزادي سميث وإيمي تان وكيران ديزاي)، في حين جمع قسم آخر بين الكتابة والأمومة (نادين غورديمر ومارغريت أتوود وآنيتا ديزاي ويومبا لاهيري وآن ماري ماكدونالد ومورين فريلي والتركيات خالدة أديب آديفار وسفغي سويسال ولطيفة تكين وشبنام إيشيغوزال). ولكن في الحالتين انتهين غالباً إلى مصائر مروعة. هكذا لم تصل أليف شفق إلى خيار حاسم يريحها، فواجهت مصيرها الفردي بنوع من الاستسلام للمصادفة والقدر. فبعد صراع مرير مع “أصواتها الداخلية” المتعددة، انتهت إلى اختيار الكتابة، منحازة إلى “الدماغ” ضد “الجسد”، والثقافة ضد الأنوثة والأمومة. لكن القدر كان لها بالمرصاد: “آه من العشق!”. بهذه العبارة باللغة العربية عنونت الفصل القصير الذي خصصته للحديث عن وقوعها في الحب الذي سيدفع بها إلى الحمل والإنجاب و”كآبة النفاس” وهو ما شكل العنوان الفرعي للرواية: “كآبة النفاس من أجل المبتدئين”.
تلقن أليف شفق، في هذه الرواية، درساً في كتابة الرواية النسائية، بل وفي الكتابة الروائية عموماً. بناء سردي متين، عمل تحضيري واسع النطاق، لغة بسيطة آسرة صقلتها بعيداً عن ابتذال الإنشاء، احترام لعقل القارئ وذائقته الجمالية. نادراً ما تقع في نص أليف شفق على تشبيهات، فإذا وردت بدت نافرة لندرتها. إلى هذا الحد بلغ بها التقشف “الأدبي”، مقابل حشد من القصص السيرية لكاتبات من العالم ومن تركيا، لا يمكن أن تجدها مجموعة معاً إلا هنا، وفي كل قصة ما يدهش القارئ ويدفعه إلى التأمل في معنى الحياة والكتابة والعلاقات الإنسانية.
البداية الأولى للرواية تتعلق بمنهج للقراءة تقترحه الكاتبة على القارئ: كُتب هذا الكتاب، لا للتذكر، بل للنسيان، تقول في الصفحة الأولى، فهو يتلاشى بقدر ما يتقدم، كل سطر فيه يمحو الذي سبقه ويحل محله، بحيث أن القارئ ينسى أوله قبل الوصول إلى منتصفه، وينساه بكامله، حين ينتهي من قراءته. لعل الكاتبة أرادت من هذا المنهج الغريب الذي اقترحته على القارئ، أن تعبر مجازاً عن تجربة كآبة النفاس، التي بقدر ما هي قاسية على المرأة، يلفّها النسيان بعد أسابيع قليلة.
تنطلق البداية الثانية من لقاء جمع المؤلفة بكاتبة تركية من جيل أكبر هي عدالت آغا أوغلو. مدهشٌ وصفها لبيت آغا أوغلو. إنه مرتب بدقة صارمة، لكل شيء مكانه الذي استقر فيه منذ سنوات طويلة، “بحيث أنني لم أجد مكاناً لنفسي في قاعة الاستقبال”. أينما جلست ستكون كشيء ناتئ أو “ضربة فرشاة نشاز ضمن لوحة كاملة”. جلست في أول مقعد فلم تشعر بالراحة، انتقلت إلى غيره وغيره وظل شعورها بعدم الارتياح وبأنها تفسد تناغم الأشياء داخل الغرفة. تخبرنا الكاتبة، في الخلفية، بأن زميلتها، من الجيل المخضرم، اختارت عدم إنجاب الأولاد وكرست حياتها للكتابة. بيت آغا أوغلو يسوده هدوء تام. “لا أستطيع الكتابة إذا سمعت أي صوت”، تقول في بداية الجلسة، في حين أن أليف شفق لا تستطيع الكتابة إذا لم تؤنسها ضجة الشارع أو أغاني الهارد روك على جهاز الموسيقى الخاص بها. لا يتعلق الأمر بمزاجين فرديين مختلفين، بل بنمطين من الحياة على طرفي نقيض، يعبّر كل منهما عن جيل، لكل واحد نظرة إلى الكون مختلفة عن نظرة الآخر. فآغا أوغلو تنتمي إلى جيل الحداثة الذي يطلق جذوره في الأرض، يميل إلى الاستقرار والهدوء، يرى الكون وحدةً متكاملة، بسيطة وقابلة للتفسير، في حين تمثل شفق جيل الهجرات والتنقل عبر البلدان والقارات والإقامات الموقتة في الفنادق “وحقيبة السفر على الظهر”، يترك شيئا من أشيائه في كل مكان ينتقل منه، يرى الكون أكواناً أو عوالم متمايزة ومتداخلة ومعقدة. التقابل بين النمطين لا يتوقف عند حدود علاقتهما بالمكان، فثنائية الثبات والقلق تخترق أيضاً العالم الداخلي للفرد، وهكذا نجد أنفسنا بين الفرد الحديث الذي يتمتع بوحدة داخلية، والفرد ما بعد الحديث الذي ينقسم ذوات جزئية لا متناهية في العدد والصغر.
هذه الذوات المتعددة، أو الأصوات الداخلية، هي “شخصيات” رواية أليف شفق التي يتجاذبها كل إلى جهته: المثقفة السينيكية، السيدة البيتوتية الأمومية، المرأة الطموحة، المتدينة، الشهوانية، ذات العقل العملي. ست نساء صغيرات تحاول كل واحدة أن تسيطر على الكاتبة وتفرض عليها خياراتها، لم تكتف شفق بوصفهن بدقة، بل زود الرسام لطيف دميرجي الكتاب صوراً كاريكاتورية معبرة لتلك الشخصيات الخيالية، فكادت أن تكون موضوعات مستقلة.
ما هي كآبة النفاس؟
“بعد تسعة أشهر من الحمل، بعدما اعتدتِ على إدراك الروائح والمذاقات وجميع الأحاسيس بطريقة مختلفة، وعلى المشي مثل بطة تتقدمكِ تكويرة بطنك، والتحرك ببطء، والحلم بمنامات مختلفة عما هو مألوف كل الاختلاف، تستيقظين ذات صباح لتجدي جسدك وقد استعاد وضعه الطبيعي ورشاقته كما لو أنه أعيدت صياغته. إنها نقطة تحول مخيفة تعرضتِ لها في يوم واحد، بعملية واحدة. تطير الأم فرحاً بمولودها طبعاً، لكن الجسد يمر بتجربة رهيبة من التقلب الحاد. وقبل أن يلتقط أنفاسه، يجد نفسه محمّلاً وظائف جديدة. مرحلة النفاس هي لحظة تقع بين الحمل الذي انتهى للتو والأمومة التي لم تستوعب بدقة بعد، والحَصَر والتشوش الذهني المرافقين لذلك. إنها عتبة، ربما شريحة من برزخ. وككل عتبة لمرحلة النفاس شياطينها أيضاً، تتسلط على النفساء”.
الصورة الإيديولوجية للأمومة
تقول أليف شفق إنها اعتقدت لفترة طويلة أنها وحدها المرتبكة بورطة الأمومة، في حين أن الأخريات يعشن التجربة بسلاسة، تجربة الحمل والنفاس والأمومة. هذا يعني أن بها نقصاً ما، “خطأً في التصنيع”، على حد تعبيرها، فشعرت بالخجل من فشلها ونقصانها، وأخفت ذلك. ثم قرأت الكثير في هذا المجال، وأصغت إلى تجارب شخصية كثيرة، فأدركت أنها ليست وحدها في هذا الارتباك العظيم، وأن كآبة النفاس شائعة أكثر بكثير مما كانت تظن.
لا أحد يتحدث اليوم، بالقدر الكافي، عن هذا الوجه الخفي للأمومة، تقول شفق، الرائج بدلاً منه هو خطابان رئيسيان يحددان معنى الأمومة “كما ينبغي لها أن تكون”: يؤكد الخطاب التقليدي سمو الأمومة وكونها الوظيفة الأولى لكل امرأة، مطالباً إياها بكل ضروب التضحيات في سبيلها، وبوجوب ملازمتها البيت بقدر المستطاع، في حين يرسم الخطاب الحديث صورة للمرأة السوبر القادرة على إنجاز مختلف الأعمال بلمح البصر، وفقاً لشعار الأمومة والعمل معاً، فهي الجاهزة دوماً لمساعدة الجميع في البيت أو المكتب. إنه خطاب المجلات النسائية الملونة التي تنفخ في صورة المرأة السوبر.
باتت الأمومة لافتة هوية، حلوة ظاهرياً، لكنها أحادية البعد، سطحية إلى أبعد الحدود. لم يبق من الأمومة إلا ذلك السطح البراق، مفهوم للأمومة “مسحوب العصب”.
“كثير من النساء على معرفة بالكم الهائل من المشاعر والأفكار المتضاربة تحت ذلك السطح البراق، لكنهن يشعرن بالذنب والخجل من تلك المشاعر، فيلزمن الصمت. لا يتقبلن الشعور بالكآبة والشقاء الذي يكابدنه، في الوقت الذي “يجب” عليهن أن يكنّ في قمة السعادة بالمولود الجديد، ولا هن قادرات على البوح بذلك لأحد. على أي حال، سرعان ما يحل الربيع من تلقاء نفسه، ويتم نسيان التجربة كلها. ولا بد من النسيان”.
من هي بطلة الرواية؟
“كان بودي لو أقول إنها شخصية متخيلة في رواية أكتبها. لكن هذا ليس صحيحا، فبطلة الرواية هي أنا، أنا التي لم أعرف الكآبة في حياتي، وكانت الحياة بالنسبة اليَّ هي الكتابة، والكتابة هي عشق الأحرف وبناء الحكايات المتخيلة، وها أنا أتحول، ذات يوم إلى بكماء وأمية، فقدت القدرة على القراءة والكتابة. كانت الأحرف عينيّ وأذنيّ ورفيقة دربي، وإذ بي أنسى الأبجدية. بتّ عاجزة عن التفكير والتخيل والكتابة”.
بين الكتابة والأمومة
“الكتابة الروائية هي من أكثر الأعمال أنانية وتمحوراً حول الذات. حين تكتب تظن أنك الإله الخالق في كونك الصغير. العملية الإبداعية إدمان لا شفاء منه، وكل كاتب يدمن عمله الإبداعي، فإذا حرم من جرعة منه يوماً أصيب بأعراض الانسحاب الخاصة بمدمني المخدرات، فارتعشت أطرافه وأحس بالشلل والعمى وتوقف قلبه عن الخفقان. كل ما يقف عقبة في وجه الكتابة يتحول إلى عدو.
“الكتابة الروائية هي من أكثر الألعاب إثارة وحماسة، إنها لعبة أولئك الذين يرفضون النضج ويحافظون على الطفل في داخلهم. على الكاتب أن يصدّق أكاذيبه وتخيلاته بنفسه قبل أن يقنع الآخرين بها.
“يؤمن الروائي، خلسةً، بأنه يمكن أن يبلغ الخلود ويعاند الموت، ويخفي سره الصغير هذا وخوفه من الموت عن الآخرين.
“كل روائي يعاني شيئاً من النرجسية، ولا يفكر إلا بأعماله الروائية أو ما يمكن أن يبدعه بعد. ليس مصادفة أن طائفة الكتّاب تشكو من تضخم مفرط في الذات. إنه، في حقيقة الأمر، تشوه مهني خاص بهم.
“الروائي أناني، في حين أن الأمومة هي نقيض الأنانية. الروائي يتجه نحو الداخل، أما الأمومة فهي أقصى درجات الانفتاح على الخارج. يبني الروائي لنفسه غرفة خاصة داخل ذهنه، يقفل بابها في وجه الآخرين، يخبئ فيها أسراره ورغباته وأحلامه بعيداً عن الأنظار. في حين تشترط الأمومة فتح جميع الأبواب والنوافذ على مصراعيها، في الليل والنهار، في الصيف كما في الشتاء. يدخل الأطفال من الباب الذي يحلو لهم، ويبقون ويتحركون كيفما شاؤوا. لا خصوصية لك أمامهم ولا خلوة.
“تتطلب الكتابة سرقة القصص من الآخرين واقتناص الكلمات من الحياة. إنها قائمة تعريفاً على الأخذ والسلب والسرقة والقنص. يحلق الكاتب في السماء المفتوحة بحثاً عن “المادة الأولية” كالطير يفرد جناحيه ويطير بحثاً عما يأكل.
“في حين أن الأمومة قائمة على العطاء، العطاء بتلقائية وبلا مقابل. العطاء على مدى الأيام والليالي والأشهر والسنوات. تتطلب الأمومة التفكير بشخص آخر قبل التفكير بالنفس، ليس ليوم أو يومين، بل دائماً”.
بين ليون تولستوي وسيلفيا بلاث
تحشد أليف شفق روايتها بعدد كبير من القصص المعبرة عن كاتبات في مواجهة الخيار الصعب بين الأمومة والكتابة، كيف حللن عملياً هذه المشكلة التي لا يواجهها الرجل عموماً. ليس في وسعي إلا اختيار نموذج وحيد هو الشاعرة سيلفيا بلاث. أما قصة تولستوي فهي للمقارنة.
كان فارق العمر بين تولستوي وزوجته صوفيا أندرييفنا 17 عاماً. أنجبت منه 13 طفلاً (وفي مصادر أخرى 19) مات أربعة منهم في عمر صغير. كانت صوفيا هي المسؤولة وحدها عن العناية بهم. في الوقت الذي كان تولستوي يكتب رواياته على ضوء الشموع في غرفته الخاصة، كانت صوفيا تشاغل صغارها لئلا يصدروا الضجيج، فتؤمّن لزوجها البيئة المناسبة للكتابة. تشبّه أليف شفق صوفيا أندرييفنا بالقمر في تحولاته على مدى الشهر بين البدر والهلال والمحاق، فبطنها يتكور وينتفخ إلى أن يعود إلى شكله الأول، ثم يبدأ دورة جديدة من التكور، وهكذا. في أوقات فراغها من العناية بالأطفال كانت صوفيا تساعد زوجها طوعاً، فلم تكتف بتسجيل الملاحظات الخاصة برواية “الحرب والسلم”، بل قامت بتبييض هذه الرواية الضخمة سبع مرات. بعبارة موجزة، كرست صوفيا حياتها لزوجها وعمله.
أرادت سيلفيا بلاث أن تؤكد قدرتها على الجمع بين الكتابة والأمومة والنجاح فيهما معاً. وعلى رغم تجربتها المأسوية في علاقتها الزوجية مع الشاعر تيد هيوز، فقد نجحت كشاعرة وأم فعلاً، لكنها دفعت ثمن ذلك بصورة باهظة، فانتهت حياتها في الثلاثين من عمرها.
كانت بلاث تصف نفسها أنها الفتاة التي تريد أن تصبح إلهة. لم تكتف قط بما أعطي لها، وضاق بها جسدها وقدرها. تركت مهنة التعليم وتفرغت لكتابة الشعر وهي مصممة على العيش من هذا العمل. بزواجها من تيد هيوز، ربما أرادت أن تقدم الرد العملي على القائلين باستحالة اجتماع شاعرين تحت سقف واحد. لم يمض وقت طويل على زواجهما حتى أنجبت سيلفيا طفلين، فوجب عليها إجراء تغيير كبير في نمط حياتها، أرادت أن تكون سيدة البيت وأم الطفلين وأن تواصل كتابة الشعر معاً. كانت تؤمن بأن تجربة الإنجاب ستضيف الكثير إلى تجربتها الإبداعية. لكنها بعدما أصبحت أماً لطفلين، اضطرت إلى مراقبة عالم الأدب من بعيد، فنمت لديها مشاعر الحسد أمام الأسماء الجديدة التي أخذت تبرز في الشعر والرواية، والنسائية منها خاصةً. في الوقت الذي كان تيد هيوز يتحرك خارج البيت ويكتب القصائد الجديدة ويكرس مكانته وشهرته، كانت بلاث منشغلة بطفليها وبشؤون البيت. هذا ما يفسر عدائية الحركات النسائية لتيد هيوز.
أدت سيادة بلاث في البيت إلى ابتعاد هيوز المتمادي عنه، إلى أن انتهى به الأمر إلى خيانتها ونهاية العلاقة بين الزوجين. هنا بدأت المرحلة الأصعب في حياة الشاعرة، وحيدة أمام مسؤولية رعاية الطفلين، لكن طموحها لن يسمح لها بالتخلي عن الكتابة. سوف تستيقظ في الرابعة صباحاً لتكسب الوقت لعملها الإبداعي قبل استيقاظ الطفلين. يرى النقاد أنها المرحلة الأكثر خصوبة في إبداعها الشعري. لقد رأت في طفليها وقصائدها معاً أشياء من خلقها. فهي تتحدث، في يومياتها، عن بعض قصائدها كما لو كانت أطفالاً، فتصف كيف “تبتسم” لها القصيدة، وكيف تنمو أو تحرك أصابع قدميها! وكثيراً ما استخدمت مجازات من هذا الباب، كالقول عن قصيدة إنها في طور “جنيني”.
كاتبات كرهن أسماءهن
لا يشعر الرجال عموماً بحاجة إلى تغيير أسمائهم، كما أنهم يورّثونها لأبنائهم وأحفادهم وزوجاتهم. أما النساء فلديهن مشكلة مع أسمائهن، فهي غير ثابتة، تولد المرأة بكنية، ترغم على تغييرها بعد الزواج فتنتحل كنية زوجها، فإذا طلقت عادت إلى كنيتها العائلية الأولى، وإذا تزوجت ثانية، انتحلت كنية ثالثة..
لدى كثير من الكاتبات مشكلة إضافية مع الاسم، تمثلت في انتحالهن أسماء ذكورية للتغلب على الشرط الاجتماعي غير الملائم. تذكر أليف شفق قصة رواية بعنوان “الفتيات” نشرت في تركيا، في منتصف القرن العشرين، حملت اسم كاتب غير معروف يدعى فنسنت إدويغ، المعلومة الوحيدة عنه أنه أميركي. لاقت الرواية شعبية كبيرة طيلة سنوات. انكشف بعد مرور سنوات أنه لا وجود لكاتب أميركي بهذا الاسم وأن الرواية غير مترجمة أصلاً، بل هي من تأليف الكاتبة التركية نهال يايين أوبالي. وقد اضطرت للتخفي وراء اسم كاتب وهمي بسبب الجرعة الإيروتيكية غير المقبولة في الشروط التاريخية لتركيا منتصف القرن الماضي.
جورج إيليوت وجورج صاند مثالان آخران لكاتبات انتحلن أسماء ذكورية لمقاومة الشرط الاجتماعي الصعب. لم تكتف جورج صاند بتغيير اسمها، بل كانت تخرج في ثياب الرجال وتدخن الغليون، الأمر الذي جعلها هدفاً للنقد العنيف، وتم تجريدها من لقبها الاريستوقراطي.
هل الكتابة إذاً مهنة ذكورية؟ الأمثلة المذكورة تفيد أن الشرط الاجتماعي غالباً ما أرغم حتى النساء على التسليم بذلك. نختم بهذا الاقتباس من نيتشه: “عليك أن تهرب من المرأة إذا تمتعت بصفات ذكورية. فإذا كانت محرومة من تلك الصفات، عليها هي أن تهرب من نفسها” ¶
ملحق النهار الثقافي