تمارين في اللوعة والاشتياق: في الطريق الى بغداد
فاروق يوسف
بغداد هناك. المدينة وحدها ترى إلى من يسافر إليها بخيال ماضيها. حاضرها تحت الاحتلال هو نوع من المجاز المؤلم. هل كانت تلك المدينة موجودة يوما ما؟ المعرفة تحلم هي الأخرى. تحت جسور بغداد مرّت مياه كثيرة. مرّت دماء وحبر ودموع أيضا. ما من أحد طاف بين دروب المدينة المدوّرة وعثر على ضالته. شيء ما اختفى أو مُحي فاختفت معه كل الاشارات التي تقود إلى قلب المتاهة. الغربة فيها نوع من الإلهام يعلو بزائرها إلى عليين. لا تشفّ المدينة عن ذاتها الجريحة لكي لا تحرج أحدا. فهي لا تزال هناك. لكن أين؟ لو عدت إليها ولم أجدها، فهل يكون في إمكاني أن اخترع سببا للحياة؟
1
منذ أكثر من عقد وأنا أعلّم قدميَّ المشي من جديد من غير جدوى. ألقي خطوات فلا تقع على الأرض. اين هي الأرض؟ لا أسمع ذلك الإيقاع الذي كنت أنصت إليه بلذة يوم كنت أسير في الطريق التي تصل بي إلى البيت. ما من بيت. كل البيوت التي سكنتها لم تستقبلني بالحفاوة التي كان ذلك البيت الذي تركته في بغداد يظهرها فرحا بمقدمي. أقسى ما يمكن أن يعانيه المرء أن يكون غريبا في بيته. الضيف الذي يتلفت فيما توارى أصحاب البيت. “الف روح مثل روحي أضحيلك. الف عين مثل عيني ابجيلك. انا ساكت وخل الناس تحجيلك”. لا أثر لقدمي. الفانوس الذي انطفأ في مكان عميق من روحي لا يزال يهتز. هناك يد خفية تمتد إليه بخشوع لتحركه، لتحييه: يد الأم التي تهرع دموعها إلى الباب كلما انزلقت ريح خفيفة عليه. يد الأخت الميتة التي لم أرها وهي توصيهم في احتضارها أن يبلّغوني سلامها. يد الشيخ التي تقرأ سورة يوسف بعيني يعقوب اللتين ابيضّتا حزنا. قدماي لا تأخذانني إلى مكان في عينه. التقي الحجلة كل صباح، تومئ اليَّ بذيلها الطاووسي الصغير: “ألا تزال ترغب في أن تتبعني؟”. يمكنها أن تقودني إلى منفى آخر، يمكنها أن تسلّيني بحكايات جديدة، يمكنها أن تُضحكني بقفزاتها، لكن المعنى الذي صار يهرب مني مثل لص لا يزال يتربص بي. عين في الطريق هي مرآة يأوي إليها وجهي ليمتزج بزئبق هلاكه. كان الحلاج يشكر ربه لأنه أخفى عن الناس ما كشفه له: المعرفة التي هي مصدر كل جنون. سبق الحلاج نيتشه إلى مصير النوارنيين. يصل وحده خير من أن يصل محمولا على اكتاف المهرّجين.
2
لا أحد وما من مكان. الساعات تضيق برملها والشاطئ لا يزال بعيدا. من المخجل أن تسأل عن الطريق. عيناك حائرتان غير أن قلبك لا يكفّ عن التثاؤب. لا يمكنك أن تكون آخر في هذه البلدة. ظلّك يسبقك بثقة. ظلّي لا يعاني مثلي من غياب الهواء. لقد انسكب من قارورة الضوء وصار وردة لعينيها، صار قمرا للكرخ، صار يدا لأبن مقلة. كنت أبحث عن الفراشة القديمة. ذلك الكائن الذي قفز عليَّ ذات فجر من إحدى شجرات الصفصاف هنا. في هذا المتر المكعّب من الهواء بالذات. ربما أزيل ذلك المتر. يمكنني أن أفهم حيرة قدميَّ وهما تسقطان في الفراغ ولا تصلان. ليس المتر وحده ما امحى. هناك الفضاء من حوله هو الآخر يعاني النقصان. أين هي المدينة التي يود المسافر أن يصل إليها؟ بل أين المسافر؟ في الحياة نحاول أن نعيش حياة نظن أننا لم نعشها حقا. في الشعر نسعى في اتجاه المحاولة نفسها: أن نكتب ما لم يكتبه أحد من قبل. لكننا في الحالين إنما نتمرن على ارتياد المكان نفسه الذي لم نغادره أبدا. الكلمة المفقودة هي بالضبط كالمكان المفقود. هل نرتجل وطناً في اللحظة نفسها التي يكون فيها ذلك الوطن قد التحق بغيابه؟ أتذكر أن منير بشير كان يحدّثني عن الموسيقى حين سكت فجأةً ونظر في عينيَّ متأملا وقال: “أحدّثك كمن يفهم شيئا في الموسيقى. فيما أنا منذ سنين أحاول ارتجال الصوت الذي يناسبني من غير أن أعثر عليه”. ليس في إمكان قدميَّ أن ترتجلا المتر الذي كانتا في ما مضى تهبطان عليه باطمئنان. تحدث منير عن شيء آخر له علاقة بالرياضيات الكونية وأنا أبحث عن متر لا يقيم على الأرض.
3
أفكر في الناجين. السلالة العاثرة الحظ التي خرجت من المنجم لتجد أن لا أحد يقف في انتظارها إلا القتلة. لم ينته الطوفان بعد. الأحياء يعنيهم أن يفتشوا بعد حين عن جثث الموتى، أحبّتهم أو أعدائهم. لا فرق. على الأقل لكي يكون لنا قبور. فكرة مترفة في عالم لا يزال يحترق. أعبث بالرماد لأتذكر أني عشت هنا أربعين سنة. هنا، أين؟ لست متأكدا. ربما تغيّر الاتجاه أو أنني أخطأت الطائرة. ربما خرجت من بيتي باسم آخر فوصلتُ إلى مدينة أخرى. كان هنالك وعد لم يعدني به أحد. وعد سلّمني إلى فتنة أن أكون موجودا في المكان الذي يمكّنني من احصاء خطواتي. “عين بعين على الشاطي تلاقينا/ غير القمر ما واحد درى بينا”. كنت أتوجس خيفة من تلك العين الكريمة والعذبة والشفافة غير أنها كانت دائما مستفهمة بحنان: “كم تغيرت. لك عينان غير هاتين. يدك قد بليت. شعرك لم يبيض كلّه غير أن خصلات كثيرة منه لم تعد سوداء. هل قصرت قامتك؟”. الرعية من حولنا لا تلتفت. كل هؤلاء نجوا إذاً. لا تجيب. غير أنها بعد وقت ليس بالقصير تقول لي: “لا تصدق ما ترى”. لم أهبط من الفضاء. لقد مشيت الاف الكيلومترات من أجل أن أصل. وأنت تعدينني بخسارة حواسي. “لا تفكر في من نجا”. كنت ألهو في مياه ذاكرتي. ليست دموعا لكنها ابتسامات شياطين. “بعد حين ستعود إلى منزلك. لا شأن لك بالمنسيين”. ليس لديَّ من الوقت ما يكفي لأشرح لهذه الجنية اسباب ضياعي. ألا يمكنني أن أذهب أبعد بخطوتي؟ أنا أفكر في شيء آخر. أن لا يكون حضوري حماقة. “لا تبالغ. ليس الألم حماقة”. أعود إلى الناجين فلا أجد أحدا منهم. شملهم الغياب برحمته. “هل عدت لأجد أنهم قد ذهبوا؟”. تضحك من تعاستي. “بعد الف سنة مما تعدون عد ثانية”.
4
مطعم “تاجران” على الزاوية. مقهى “المعقدين” على بعد خمسة امتار من الشارع العام. “مكتبة النهضة” قريبة من “ثانوية العقيدة للبنات”. “مستشفى الراهبات” في الكرادة. “سوق ابو قلام للخضرة”. قنينة بيرة وخبز يذكّر بالباغيت الفرنسي. “بار سرجون”. نصب الحرية. بناية كولبنكيان في الباب الشرقي. “باجة الحاتي” في شارع الشيخ عمر. “ابن سمينة”. “خان جغان”. “سوق الجوخ”. “مقهى التجار”. “المدرسة المستنصرية”. “شارع السموأل”. “ملهى ليالينا”. “جامع الحيدرخانة”. “سينما سميراميس”. “أحذية حراق”. “حلويات الرواد”. “شارع الاميرات”. “البيت الصيني”. “شربت حجي زبالة”. “اورزدي باك”. “مكتبة مكنزي”. “سيد سلطان علي”. “سينما روكسي”. “المصور الاهلي”. “عوينات آسيا”. “بار شريف وحداد”. “أنت تركض مسرعا”، يقول لي صاحبي. “اهدأ واغلق دفترك لأروي إليك ما حصل” .”ولكنني جئت لأرى”. “عينك الواقعية لن تنفعك في شيء. أما عينك الخيالية فدعها تحلّق عاليا”. قبل سنوات كنا نطوي المدينة مشياً، من ساحة الباب المعظم حتى ساحة الاندلس، ساعات من الغنج والتمرد والمعصية والصفير. الآن صرت واحدا من اهل الكهف. هل كانوا ثمانية وتاسعهم كلبهم؟ واحد من أولئك الثمانية المنتظرين يفشل في الذهاب إلى السوق. أما الكلب فانني أفكر في امكان استخراج جواز له لأنقذه من هذه المحنة. ينظر في عيني فيفجعه ندمي. الكلب يبكي من أجلي. لولا أنني أعرف أنه كان كلبا وهميا لبكيت من أجله. كلب جياكومتي لا يشاركني حيرتي بل يبتسم كما لو أنه ينظر إلى مراهق: “كن شجاعا وأسأل نفسك”. أنت في مدينة محتلة. سقطت عليها من القنابل ما لم يسقط على أي مدينة أخرى في العالم، في كل سنتيمتر منها معادلة كيميائية في طريقها للانفجار من خلال جسد بشري، وللخيانة رائحة عفنة. لن يستجيب أي جزء من الجسد الميت نداءك. “قاربك يسير على الجثث”، ولكن الفجر على شاطئ دجلة واقعة استثنائية. “الشمس أحلى في بلادي من سواها”، كم كان السياب محقا. الشعر على حق حتى لو أنني وصلت إلى مدينة أخرى. مدينة من نوع بغداد لا يختصرها غيابها ¶