أسعد عرابي: أبناء جيلي فقدوا روح المغامرة وهويتي ما زالت تؤثر في المحترف السوري
راشد عيسى
عَرَضَ مع فنان شاب ويرى النشاط التشكيلي والثقافي من أكبر ضحايا الأزمة الاقتصادية
لم يتطرق الفنان أسعد عرابي في عمله التشكيلي من قبل إلى الطبيعة الصامتة، غير أنه أخيراً، في معرضه الدمشقي في «أيام غاليري» حمل مفاجأتين إلى جمهور اللوحة، أولاً هذا الانتقال المفاجئ في موضوعه، ثم المعرض المشترك مع فنان شاب هو عثمان موسى، عمل على الموضوع نفسه. الأمر صدم عدداً من جمهور الفن التشكيلي، حيث تساءل كثر عن سرّ هذا الانقلاب لدى عرابي، وبعضهم أجاب عن السؤال بأن الأمر ليس سوى انصياع لمتطلبات السوق. فماذا يقول عرابي، وكيف يصف التجربة المشتركة، وتجربة الانتقال المفاجئ في موضوعات عمله؟ هنا حوار معه:
في معارضك الأخيرة أجريت انتقالات في موضوعات أعمالك وأسلوبك قال عنها فنانون إنها انتقالات تستجيب لمطالب السوق؟
} أقل ما يقال عن هذا الرأي المتسرع إنه متعسف، ومألوف في عصاب المحترف السوري، لأن الواقع عكس ذلك، بدليل أني لم أبع أي لوحة في المعرض، اللوحة اليتيمة التي بيعت اشتراها صاحب الغاليري كنوع من ترميم هذا الفشل التجاري. أنا بدوري أتهم الفنانين، خاصة زملائي القريبين الذين يعرفون مدى صدق رهاني الثقافي، أنهم غير موضوعيين، وأكثر من ذلك لا يتكرمون بوقتهم (غير الثمين، لأنه مكرس للنميمة) ليتأملوا ماذا جرى وتطوّر في أهم من جانب الموضوع في لوحاتي، وهو الأداء. أقول بالنتيجة إنها ليست المرة الأولى التي أقفز فيها من موضوع إلى نقيضه منذ استهواني العالم الأسطوري لمدينة الطفولة دمشق. فقد تحولتُ إلى الحيوانات الأسطورية، وبلغت في الثمانينيات حدود التجريد، وذلك بنيّة تعويم الأساسي في الأسلوب وهو الأداء لا الموضوع، أي تجريد اللوحة لا دلالتها، بمعنى أدق مراقبة سلوك الفرشاة ومزاج المادة السيالة وطبوغرافيا توزيع العناصر في الفراغ، والأهم من كل ذلك موسيقية اللون، وهو الجانب الذي أبدو فيه أشد وثوقية من أسلبة الموضوع. بالعكس إن الاحتفاظ بالموضوع وأسلبته وتنميطه ما هو إلا نوع من الإلحاح على الختم الاستهلاكي أو التجاري. أنا لست الوحيد في تاريخ الفن، النموذج هو بيكاسو، الذي لم يفتْه أي موضوع وظلّ مع ذلك بيكاسو. ومثال آخر أشد قرباً منا وهو نيكولا دوستايل، فالعلاقة بين تجريداته وزجاجات الطبيعة الصامتة وآلاته الموسيقية، هي أنها كلها تمثل وطناً إبداعياً ذاتياً جعله يستحق مكانه في تاريخ الفن المعاصر. أنا بطبعي ضد الرتابة بصفتي مغامراًَ ومسافراً في المكان والزمان، لكن هويتي الصلبة المتميزة ما زالت تمارس تأثيرها في الكثيرين، خصوصاً في المحترف السوري. وستشهد بعد فترة تأثير التجديدات التي قمتُ بها في موضوع الطبيعة الصامتة في لوحات موهوبة أخرى محلية. وبالعكس فأنا ألوم أبناء جيلي، أو بعضهم، على أنهم فقدوا روح المغامرة والشجاعة في تغيير لبوسهم المضموني والدخول في مغامرة تطوير مختبرهم الأدائي.
تفاحة سيزان
أنت تتتبّع إذاً حركة اللوحة السورية وتطورها، هل يمكن أن نقتفي معك أثر بعض هذه اللوحات المتأثرة بأعمالك؟
} أخصّ بالذكر من يملكون الاحترام الأكبر وهم الشباب، خصوصاً في كلية الفنون. هم أنفسهم يصرّحون بأني أمثل النموذج الحداثي المتحرر من كل القوالب النمطية في المحترف السوري. أذكر أن أحدهم تخصص في تكبير جزء من لوحتي ليراقب سلوك الفرشاة ورفيف المادة الصباغية، وهو معروف اليوم بتجريده كابن بار وغير جحود لمختبري الصباغي. لأذكر أمثلة بعيدة، لا يهم فيها ذكر الأسماء؛ إن توزيع أو طبوغرافية الفراغ، الذي أسميه شطرنجي أو مدماكي، أسستُه، دون اعتراف من أحد مع فاتح المدرس، والسبب بسيط: أن الواجهات المعمارية الدمشقية التي كنت أنجزها، والتي عانت من التقليد مئات المرات لم يدرك هؤلاء المقلدون أن تأثيري أشد من الموضوع السياحي وهو دمشق، لأني الأشد عقيدة وتعصباً لنظام المنمنمات الإسلامية. أصوّر بدون ظل، وبدون منظور، وبدون بؤرة ضوئية أحادية. أعتبر أن العالم ورقة أو قماشة أو مرآة مجازية، لا علاقة لها بالواقع المرئي، بل إن اللوحة ذريعة لمعراج لوني روحي موسيقي تصوفي، لدرجة أني بدأت أقرأ هذه الأفكار في تصريحات بعض الشباب، رغم أنها غير مألوفة ودقيقة وخطرة إلى درجة الالتباس أحياناً. ابحث عن خرائط تموضع الملاءات السود في تجربتي السابقة فستجد لها ظلالاً وتأثيرات ببغائية في العديد من لوحات المشهورين في سوريا. هو النظام الذي دعوته بالشطرنجي، بالفراغ الذي يسمح لي بتطبيق قيم التنزيه كما هي في الثقافة الصوفية، والاستقالة من التشبيه الواقعي الاشتراكي.
لماذا ينبغي أن يعود الفنانون التشكيليون دائماً إلى الطبيعة الصامتة؟
} لأن موضوع الطبيعة الصامتة موضوع محايد، أو يكاد يكون أقرب إلى التجريد. والأهمية فيه هي أهمية تشكيلية أكثر منها سردية أو أدبية، وتاريخ الفن شاهد على ذلك. إن أعمق الفنانين وأشدهم تطويراً لتاريخ الفن فهموا خطأ بشكل ملتبس بسبب هذه الموضوع، ابتداء من شاردان، وانتهاء بموراندي، ومروراً بسيزان. إن تفاحة سيزان قلبت تاريخ الفن وأسست أبرز اتجاهاته في فرنسا وهي التكعيبية. إذاً حياد موضوع الطبيعة الصامتة يمنحه فرصة أكبر لدور التشكيل البصري أو التخييلي. أنا شخصياً أجده من أصعب الموضوعات، فالقماشة البيضاء في معرضي كانت فرصة لعربدة الفرشاة ومسلكها التعبيري المأزوم، ناهيك عما تمنحه للوحة من نور على نور.
أشرتَ في معرض حديثك عن اللوحة الصامتة إلى أن لديك تجديدات فيها سيقتفي الآخرون أثرها، هل يمكن الحديث عن هذه التجديدات؟
} الملاحظة الجوهرية هي طبوغرافيا التكوين، أو بالأحرى تشريح الفراغ. فقد استبدلت صيغة الطوابق المعمارية بتعددية مستويات الطبيعة الصامتة، وذلك من أجل إلغاء فكرة المنظور، فالصحن مثلاً يُرى من الأعلى لترسيخ مكانه في التكوين، بعكس العناصر الأخرى التي يُرى بعضها بشكل جانبي. هذه التعددية في المناظير ما هي إلا نوع من التحية والاحتفاء باختراعات سيزان في مناظره، فهو الأول الذي دمر قواعد منظور عصر النهضة الإيطالي، ليرسم بديلاً منه طريقاً يوازي مسطح اللوحة، أي أنه سلك سلوك الفن الإسلامي دون دراية به، أي تعددية المناظير بحيث نرى المشربية والبركة من شتى الأطراف. والشرح بسيط، نجده لدى الإمام الغزالي في كتابه «مشكاة الأنوار» ينتقد فيه أوهام البصر لمريده، ليصل إلى أفضلية البصيرة التي ترى العالم من شتى جوانبه، مثل عين الطائر، أو العنقاء في قبة السماء. هذا غيض من فيض، فتعددية نقاط النظر إلى الطبيعة الصامتة يجب ألا نستهين بها، لأنها تمنحه حرية مطلقة للرسام في توزيع عناصره داخل الفراغ. ثم إن حساب اللون المرصع في رحابة الضوء يؤكد نورانية هذا اللون، تماماً كما نرصع العقيق الأحمر في خاتم فضي محايد، وقس على ذلك من مثال تحرر الخط من المساحة، فالخط لا يرسم المساحة، بل يولّف مركباً بصرياً معها، أي أن العين ترى المساحة متحررة من الخط، والخط المتحرر من المساحة، بنفس الطريقة التزامنية، فتتناول مزيج الاثنين، ما يمنح للرسم واللون حرية ضوئية طازجة تشبه الطاقات الحدسية التي نعثر عليها في الرسم السريع أو الكروكي.
معارض العزلة
وضعتَ لوحاتك، في معرضك الأخير، جنباً إلى جنب مع لوحات فنان شاب هو عثمان موسى، هل كان لك الخيار في ذلك، وماذا تقول كناقد؟
} أنا بصراحة لم أقترح الشراكة مع عثمان، بل كان هذا اقتراحا من صاحب الغاليري، لكن بالنتيجة وافقت بحماسة كبيرة لأني رأيت أن الحق معه. فنحن الطرفين يخدم بعضنا بعضاً، أي أن لوحته تساعد على رؤية لوحتي، والعكس بالعكس. وبما أن من طبيعتي التعفف عن النرجسية والنجومية فأنا أشك بسلّم الشهرة وشروطه غير الطبيعية في بلادنا، ويزداد شكّي بالمؤسسة التعليمية، فأنا أرى أن شلبية ابراهيم كمثال أشدّ رهافة تشكيلية ولونية من الذين درسوا في كلية الفنون. عثمان من هذا النوع، يستجيب بالنسبة إلي لهذا الشك. كما أن القرار لم يؤخذ بسرعة، اطلعت في البداية على أعماله التي نجحتْ في مسابقة العام 2007 التي أقامتها الغاليري نفسها. كانت حماستي نحوه محدودة، ثم، قبل المعرض بأيام، أطلعني خالد سماوي على بعض لوحاته المتأخرة ففوجئت بمدى تطوره. وأذكر ثلاث لوحات ساحرة؛ واحدة تمثل أطلساً أزرق محتقناً، والثانية تمثل ثمرة القرع إلى جانب كأس أسود، والثالثة مجموعة ليمونات تذكّر بشكل صريح بأصالة بحث جان فيرمير. سألته في ما بعد عن علاقته به فأخبرني بأنه أسير هذا الفنان، وأنه يتأمله ليل نهار. ثم إنه رغم واقعيته شبه الفوتوغرافية لا يخفي منطق الحلم عن هذه الكائنات البليغة. كتبت عنه نصاً في البداية، ثم قبلت بحماسة الشراكة معه. لكن الذي خلق نجاح المعرض هو اهتمام خالد سماوي بتفرد الشراكة. فأؤكد أن أهمية المعرض ازدادت بطريقة ترتيب اللوحات. لأول مرة في دمشق يبدو الجدار أكبر من اللوحات، أي لوحات قليلة وجدار يحاصرها بالأبيض دون حدود، ثم إن خالد سماوي اختار من جناحي اللوحة الأشد تناقضاً معه وحملها إلى جناحه، والعكس بالعكس. ثم إن أهمية المعرض ازدادت بالكتاب المرفق الذي يقارن بين الطرفين بطريقة مفاهيمية، ما يثبت أن المعرض كان تجريبياً، ولا يملك أي هدف استهلاكي.
أقول بالنتيجة إن ما قدمتُه من نص نقدي في الداخل، أدّعي فيه أن هذه الشراكة تقوم في غالبيتها على التناقض في العمر والخبرة والأسلوب، لكنها تلتقي عند نقطة واحدة، هي تصوير عناصر الطبيعة الصامتة نفسها. توقعت أن هذا كافٍ لإثارة المشاهد وإخراجه من رتابة العروض، لكن عليّ أن أعترف اليوم بشجاعة بأن العديد من زملائي الفنانين لم يقتنعوا بهذا التبرير، رغم أني ما زلت على قناعة تامة بأن عثمان موسى، وستكشف الأيام ذلك، تستحق موهبته هذه الشراكة، وما زلت على قناعة بأن المعارض المشتركة هي التي صنعتْ تاريخ الفن، بعكس معارض النرجسية والعزلة في برج عاجي بدعوى الأستذة والفصل المفتعل بين الأجيال.
غياب الفرح الضوئي
نحن لا نرى اليوم خروجاً للفنانين إلى الطبيعة كما كان من قبل، إلام يشير ذلك برأيك؟
} السبب ببساطة أن دمشق وطبيعتها الغناء السالفة لم تعد تصلح للرسم، لأنها تحولت إلى مرأب سيارات وتخمة في التلوث بعدما اغتيل نهر بردى واجتثت الغوطة من جذورها مثل غابات الأمازون، وضمر الفرح الطبيعي حتى حدود الصفر، كي لا نقول حتى حدود المأساة اليومية. أنا أقول إن حال المدن اليوم لا يعكس في اللوحة إلا الغضب والاعتراض الإيكولوجي والصراخ في واد أصم، هذا يعني أن الفرح الضوئي الذي كان ينعم به أمثال ناظم الجــعفري ونصــير شــورى تحــوّل إلى غمامة سرطانية بهيمية لا تستحق فعلاً جهد حمل السيبة والألوان وتصوير الشارع والمنظر الطبيعي. هو ما سبّب في النتيجة شيوع الاتجاهات التعبيرية المنكفئة على ذاتها والمنطوية في مرسم بعيد، طوباوي يرجو الخلاص من قيامة العالم.
شاهدت معك منذ هنيهات اثنتي عشرة لوحة جديدة لك قلت إن فيها تطويراً، ولاحظت أنك تعمل على أكثر من لوحة في آن معاً دون أن تنهي أياً منها.
} أولاً إن غالبية الفنانين الذين أحبهم في تاريخ الفن يراجعون مراحل سابقة لم تستنفد في وقتها، هذا هو حال المجموعة الجديدة الأخيرة، فهي عودة إلى فكرة المرآة الميثيولوجية. صورتُ منذ حوالى ثلاثة أعوام نموذجاً عارياً أنثوياً لزميلة نبيلة قبلت أن تكون خلال هذه السنوات الثلاث نموذجاً للوحتي، عرضتُ قسماً منها في المركز الثقافي الفرنسي. فوجئت بأن البعض وجد فيها الكثير من الجرأة والتجرؤ بسبب تعري النموذج، نسي هؤلاء أن العاري ملون بالأحمر والأصفر وبخطوط أسعدية مأزومة. المشكلة، في كل لوحة معاصرة خاصة، ومثالها الألماني جورج بازيلتز أن المتفرج غير المدرب لا يرى فيها إلا فضيحة أخلاقية، وهو دليل على قصور فني وكبت جنسي شائع، وكأن الإنسان يحمل خطيئته وآثامه في جسده الذاتي، أو في جسد الآخر.
بما أن الاستفزاز يعتبر قيمة اليـوم في الفن المعاصر والحديث، فإن هذه القيمة تكاد تكون مخفية ضمن جحافل اللوحات الأخلاقية لأبناء جيلي. أؤكد أن الفن لا تتطابق أخلاقه الخاصة مع الأخلاق العامة. سأعـطي مثالاً صارخاً؛ أنا أرسم في كثير من الأحيان نساء محجبات رغم أني معاد للحجاب بشكل متطرف، ذلك أني أرى في هذه النسوة واقعاً معيشاً يتناقض مع مسلماتي الأخلاقيـة، وبالتالي تبدو ضرورة الملاءات السوداء ضمن إيقاع بؤرها في اللوحة ضرورة تشكيلية، لا يمكن أن تكون إلا كما هي عليه. في لوحاتي الجديدة جمعت هذه البؤر الملفحة بالأحجبة إلى جانب العاري بأشد حالاته الحميمية والطهرانية، حتى أن بعض النماذج تكاد تشبهني أنا نفسي، زيادة في رفع مسـتوى الإحساس بالخطيئة والاستفزاز الذي تعلمناه من التعبيرية المحدَثة بنموذجها بازيليتز التي أنتمي إليها كأسلوب وتفكير. لا شك بأن هذا الحديث لا يكفي في غياب اللوحات، لأنها حالة أعقد بكثير من هذا الوصف. فاللوحات تقوم على بداهة ظاهرة بأن كل عنصر يدخل في اللوحة تتبدى وظيفته التخيّلية فينقلب من المنهي عنه والعيب والإساءة إلى الآداب العامة، إلى كينونة تصوفية بالغة الطهرانية، لا تخجل من المرآة، بل تخجل من النفاق.
شهدت اللوحة السورية في السنوات الأخيرة انتعاشاً. هل أثرت الأزمة العالمية المالية في حركة اللوحة؟
} لعل أهم تجليات هذا الازدهار خروج اللوحة السورية من عزلتها إلى المزادات العالمية وسواها. هذا يفسر أنها أصيبت بالأزمة نفسها التي أصابت الآخرين عالمياً، فمن الواجب الاعتراف بالكساد وتراجع أسعار الأعمال الفنية، خصوصاً أن النشاط التشكيلي والثقافي عموماً يبدو من أكبر ضحايا أي أزمة اقتصادية، لأنه يقع في مساحة الحاجات المترفة أكثر من رغيف الخبز.
(دمشق)