ضحايا الاستعراض التلفزيوني
محمد علي الأتاسي
يقع العديد من مراكز الأبحاث والشخصيات الفكرية والسياسية تباعاً في إغراء التلفزيون، فيقومون من حيث يدرون أو لا يدرون بخدمة هذا التلفزيون بدل من أن يخدمهم، وبنصرته بدل من أن ينصرهم. تبقى هذه الآلة بعيدة عن تأثير أيّ فكر نقدي قادر حقيقة على التعامل معها من دون الخضوع المطلق لشروطها وقواعد عملها، وهي لا تفعل شيئاً آخر سوى الإعلاء من شأن الاستعراض والميل إلى التبسيط والاختصار والنقل على حساب التمحيص والبحث والعقل. هنا قراءة في واحدة من هذه التجارب التلفزيونية.
في العام 2001 تم الإعلان عن إنشاء مؤسسة الفكر العربي، ومقرها بيروت، بمبادرة من الأمير السعودي خالد الفيصل بن عبد العزيز لتكون بحسب عباراته “مبادرة تضامنية بين الفكر والمال تتبناها مؤسسة أهلية عربية، وتستهدف الإسهام في النهضة والتضامن العربي”. وفقاً لبيان التأسيس فإن للمؤسسة أهدافاً عدة من بينها تفعيل التواصل مع العقول العربية المهاجرة والعناية بمختلف المعارف والعلوم وتكريم المبدعين العرب وإقامة المؤتمرات…إلخ.
إلا أن ما يهمنا هنا، أن واحداً من أهداف المؤسسة المصرح عنها كان آنذاك “استحداث البرامج الإعلامية والثقافية، التي تساهم عالمياً في نشر الفكر العربي، وتصحح المفاهيم المغلوطة عن الأمة العربية لدى الغير“.
تطلب ذلك انتظار منتصف العام 2007 من أجل أن تطلق مؤسسة الفكر العربي برنامج “حوار العرب” بالتعاون مع قناة “العربية”، التي خصصت له مقدّم البرامج الصحافي طالب كنعان وراحت تبثه في يوم الخميس من الأسبوع الأول من كل شهر. وكان من المفترض بحسب ما جاء على لسان القائمين على البرنامج في موقع “العربية نت”، أن تتم استضافة “نخبة من الضيوف العرب من أكثر من بلد عربي”، للبحث في عدد من القضايا العربية السياسية والثقافية والاجتماعية والفكرية وبأسلوب اعتبروه جديداً ويقوم على التفاعل الحي مع الجمهور من خلال عملية التصويت الإلكتروني والمداخلات، هذا بالإضافة إلى ما سمّوه “الجمع بين الأسلوب التفاعلي الجديد والمتابعة الصحافية، حيث يتم تدعيم مواضيع النقاش والحوار المطروحة في كل حلقة بالتقارير الصحافية الحية من الشارع العربي ومن مختلف الدول العربية“.
بدأ البرنامج بثه بتاريخ31-5-2007 وتوالت الحلقات تباعاً وتعددت مواضيعها من الشباب إلى واقع الترجمة ومستقبلها إلى تحديات التعليم العالي وأزمة الديموقراطية وفكرة الصمود والتصدي وموضوع العولمة، مروراً بما سمّي ازدواجية الشخصية العربية، وصولاً إلى فتوى تبادل القبلات بين الجنسين!
التفاوت في مستوى المواضيع المعالجة في الحلقات المتتابعة، رافقه تفاوت في مستوى الضيوف المشاركين في حلقات البرنامج. فمن الأمين العام للجامعة العربية إلى وزراء حاليين أو سابقين إلى رجال أعمال وأساتذة جامعيين ومفكرين وشعراء وفنانين فإلى رجال دين ودعاة فإلى ضيوف لا هم لهم إلا الإثارة والاستعراض حتى لو كان الثمن تكفير الناس بكل بساطة واستسهال، كما فعل الشيخ المصري التكفيري يوسف البدري في الحلقة الأخيرة من البرنامج المخصصة لما سمّي فتوى تبادل القبل!
من فتاوى القبل إلى فتاوى القتل
الشيخ يوسف البدري أشهر من أن يعرَّف، وخصوصاً للعاملين في وسائل الإعلام، بسبب حضوره الإعلامي الطاغي والقائم أساساً على الإثارة والاستعراض. من يدعوه إلى برنامجه، عليه أن يعرف ماذا ينتظر من داعية لا همّ له منذ أعوام سوى رفع دعاوى التكفير والحسبة في القضاء المصري ضد المفكرين وأساتذة الجامعات والكتّاب والشعراء. فإضافة الى دعواه الشهيرة بتفريق الدكتور نصر حامد أبو زيد عن زوجته الدكتورة ابتهال يونس بحجة ارتداد المفكر المصري عن الإسلام، أقام يوسف البدري دعاوى تكفير ضد الشعراء من مثل محمد عبد المعطي حجازي وحلمي سالم وعبد المنعم رمضان، إضافة إلى دعاوى قدح وذم في حق جمال الغيطاني وجابر عصفور وغيرهما من المثقفين. هذا فضلاً عن دعواه ضد منع الختان في حق الفتيات المصريات.
على رغم كل هذا الماضي الحافل بدعاوى التكفير، فإن القائمين على برنامج “حوار العرب” قرروا دعوة الشيخ يوسف البدري والمفكر الإسلامي جمال البنّا إلى جانب بعض المثقفين ورجال الدين لمناقشة ما سمّي فوضى الفتاوى، بناء على ما صرّح به البنا حديثاً، وهو في المناسبة شقيق حسن البنّا مؤسس “جماعة الإخوان المسلمين”، من أن تبادل القبل بين الشباب والفتيات ليس من كبائر الآثام والفواحش، بل يمكن إعتباره من اللمم، أي صغار الذنوب وفقاً للنص القرآني.
النقاش الذي دار بين الحاضرين حول القبل، سرعان ما انتقل إلى موضوع إصدار الفتاوى والأشخاص المخولين ذلك ودور التلفزيون في ما سمّي فوضى الفتاوى. وإضافة إلى مشاركة جمهور الحضور في الحوار من خلال التصويت وبعض المداخلات، فقد تم بث مقابلة من بضع دقائق أجراها معّدو البرنامج مع الدكتور نصر حامد أبو زيد في جامعة ميشيغان الأميركية حيث كان يعمل كأستاذ زائر.
الدكتور أبو زيد الذي لم يكن يعرف بنوعية الضيوف الذين سيشاركون في هذه الحلقة، تحدث باقتضاب عن الكيفية التي تمت فيها فبركة القضية ضده، بدءا من موضوع الترفيع في الجامعة المصرية وشركات توظيف الأموال وصولاً إلى دعوى الحسبة أمام القضاء المصري، وأصر أبو زيد على أن هذه القضية صارت وراءه وأنه نسي الموضوع، إلا أن بعض أجهزة الإعلام لا همّ لها في رأيه إلا إعادة إظهاره من جديد والنظر إليه من هذا المنظور.
وحال انتهاء الريبورتاج القصير مع الدكتور أبو زيد، توجه مقدّم البرنامج طالب كنعان بالكلام مباشرة إلى الشيخ يوسف البدري طالباً منه التعليق، فما كان من هذا الأخير إلا أن بدأ وأمام ملايين المشاهدين حفلة من الشتائم والسباب والاتهامات الكاذبة والملفقة التي تتهم نصر حامد أبو زيد بالكفر الصريح وبالإساءة الى القرآن الكريم. فبالنسبة الى شيخ التكفيريين فإن أبو زيد “ظل يدرس الإلحاد في كلية الآداب قسم اللغة العربية 11 عاماً”، كما أنه ألّف كتاب “مفهوم النص” وقال فيه “أن القرآن منتج ثقافي وأن الذي أملاه جاهل“.
أمام هذا الكلام المنفلت العقال، حاول مقدّم البرنامج طالب كنعان أن يهدئ من روع الشيخ يوسف البدري وأن يذكّره بأن الدكتور أبو زيد غير موجود معهم في الاستديو ليردّ على هذه الاتهامات. فما كان من الداعية الشيخ إلا أن أمعن في كيل الاتهامات الرخيصة والباطلة التي لا أساس لها من الصحة، من مثل قوله مستنكراً الآتي: “هل يجوز أن يقول إيماننا بالله خرافة؟ هل يجوز أن يقول ندوس القرآن تحت أقدامنا! هل يجوز أن يقول إن الله جاهل…”؟!
المؤسف والمحزن، أن المفكر الإسلامي جمال البنّا الذي قيل هذا الكلام في وجوده، الذي لم ينبر للتصدي لقائله، ليس دفاعاً عن أبو زيد ولكن دفاعاً عن الحقيقة في وجه هذا الكذب الصريح والمباح أمام ملايين المشاهدين، تعرض هو الآخر بعد أيام من هذه الواقعة إلى حادثة مشابهة، إذ دعا أحد الشيوخ من على شاشة التلفزيون المصري وفي برنامج “خليك في البيت” الشهير، إلى ذبح جمال البنّا.
الرابح هو الاستعراض التلفزيوني
لا شك أن هذه الوقائع التلفزيونية على خطورتها، إذا دلّت على شيء فعلى أن الرابح الأكبر من مناظرات كهذه هو الاستعراض التلفزيوني نفسه، الذي لا ينفك يثبت لنا قدرته كآلة جهنمية على ازدراء الفكر النقدي وإعلاء نفسه عليه وعلى تطويع الجميع وفرض منطقه الخاص عليهم.
من هنا فإن المسؤولية عن وقوع مثل هذا الاستعراض التلفزيوني التكفيري على مرأى الملايين من المشاهدين، يتحمل مسؤوليته جميع الأطراف القائمين عليه أو المشاركين فيه أو الراضين بشروطه.
فالمسؤولية تقع على عاتق مؤسسة الفكر العربي التي رضيت بأن ترعى وتدعم برامج حوارية كهذه، تحت حجة المساهمة عالمياً “في نشر الفكر العربي، وتصحيح المفاهيم المغلوطة عن الأمة العربية لدى الغير”، في حين أن النتيجة هي تقديم برامج من مثل الحلقة عن “فتاوى القبل” وإفساح المجال لأمثال الشيخ البدري لبث أكاذبيهم. المسؤولية هي على عاتق قناة “العربية” التي سمحت ببث هذا البرنامج على رغم أنه مسجل، وتالياً كان يمكن تدارك الأمر وتعديل موضوع الحلقة بالكامل بدل السماح لمثل هذه الأفكار التكفيرية المرعبة بالمرور إلى ملايين المشاهدين. والمسؤولية تقع على عاتق مقدم البرنامج الذي لم يحسن اختيار ضيوفه ولم يعرف كيف يدير النقاش ويضع حداً في اللحظة المناسبة لهلوسات الشيخ البدري. والمسؤولية تقع على عاتق الضيوف المشاركين في هذه الحلقة الذين ارتضوا المشاركة فيها من دون أن يضعوا شروطهم المسبقة ومن دون التحقق من طبيعة الأسئلة ونوعية المشاركين وكيفية إدارة النقاش. والمسؤولية تقع على عاتق الدكتور نصر حامد أبو زيد الذي ارتضى بطيبة قلب زائدة أن يسجل مع قناة “العربية” هذا الريبورتاج القصير من دون أن يسأل أو يتقصى كيف وبأي طريقة وضمن أي حلقة سيتم استخدامه وبثه.
وإذا كان صحيحاً ما يقوله البعض من أن التلفزيون أصبح جزءاً لا يتجزأ من عالمنا المعاصر، وأنه لا يمكن أي مفكر أو باحث أو مبدع أن ينقطع بالكامل عن الشاشة الصغيرة، لأنها في النهاية تبقى أحد أكثر الطرق فاعلية في التواصل مع الجمهور الواسع، فإنه يبقى من الضروري أن يتمعن أي مثقف طويلاً في ظروف مشاركته، وأن لا يتردد في فرض شروطه الخاصة للقبول بالمشاركة، وإلا فإنه، ومهما علا شأنه، سيخسر أمام منطق الاستعراض التلفزيوني، وسيبقى الخاسر الأكبر هو الثقافة النقدية والفكر الموضوعي، في حين أن الرابح الأكبر هو الاستعراض التلفزيوني نفسه بكل مكوّناته بما فيها نجومه الاستعراضيون من أمثال الشيخ يوسف البدري ¶