دمشــق الأخـرى
نجـاتي طيـارة
قبل حوالي السنتين، كتب الصديق فايز سارة في صفحة قضايا السفيرمقالا تحت عنوان ( وداع الأصدقاء 4/4/2006) ) استعرض فيه حال بعض الأصدقاء من المثقفين والكتاب السوريين، الذين كانوا يتعرضون بشكل أو بآخر إلى استدعاءات وتغييبات مفاجئة ومتكررة، الأمر الذي أشاع في أوساطهم وأوساط عائلاتهم وأصدقائهم مناخا من القلق وفقدان الشعور بالأمان والخوف لا على المستقبل الشخصي فقط،
بل على مستقبل البلاد والعباد أيضا. نظرا لما حمله ذلك المناخ من ذاكرة (الداخل مفقود والخارج مولود) التي عرفتها حقبة الثمانينيات المؤلمة، فضلا عن تحوله مناخا عموميا ودوريا في العديد من المحافظات السورية، بعكس ماكان يأمله ويحاوله الكثير من الأصدقاء الذين أشار إليهم المقال المذكور، في مبادرات متكررة لإشاعة جو من الحوار المجتمعي والمشاركة السلمية الهادفين إلى إصلاح وطني، طالما أعلن عن طلبه الجميع خلال بضع السنين المنصرمة، ورغبوا فيه سلطة ومعارضة معا.
كان (فايز) قد ذكرني في أكثر من مكان من مقالته المذكورة، واستشهد بماحدث معي في تلك الفترة كمثال على تلك الحالة أو ذلك المناخ.
المفارقة اليوم، أنني أتبادل الدور معه، فأكتب من جهتي قلقا على فايز الذي خرج ولم يعد! هو وبعض الأصدقاء ذاهبين بدورهم إلى مثل ذلك الغياب أوالفقدان غير المفهوم ولا المبرر، في وقت تشعر فيه أنك والبلد بحاجة له ولزملائه ولمساهماتهم. بحاجة لجميع جهود أبنائه، خاصة أؤلئك الذين استمروا باقين ( ولا أقول صامدين أو ممانعين) فيه ولم يهاجروا، فخبروا كل محنه وأزماته وخرجوا منها إلى رؤية مفتوحة على مشاركة جميع مواطنيه بدون تمييز ولا استثناء على جري عقائد انتهت فترة صلاحيتها. وهي رؤية تقبل الاختلاف والتعدد، بل تغتني بهما، ولم تعد ترى نجعا لرؤية أحادية مصمتة، ترى في أي اختلاف تهديدا للوحدة الوطنية، وثقبا أسود في جدار الصف الوطني الصامد في وجه الخارج خصوصا، وفي وجه البقية الباقية من أعداء الأمة على وجه العموم.
هكذا، لم تنفع مساهمات فايز ولا غيره من كوكبة المثقفين السوريين المستقلين، على الرغم من مرونتها وسلميتها وسقفها المتدرج، في تخفيف هواجس أهل الثقة. وسرعان ما بادرمسؤولون سابقون( كان أبرزهم نائب سابق لرئيس الجمهورية) ولاحقون ومقربون أشبه بناطقين رسميين، سرعان ما بادروا إلى دمغها باتهامات الجزأرة وإشاعة الفوضى والإندراج في مشاريع مشبوهة وعميلة . وبطبيعة الحال لم يعدموا أدلة على تلك الاتهامات وأمثلة على مثل ذلك التطرف، كان من السهل توفرها هنا وهناك، في سياق يقظة مجتمع طال هجوعه، إذ شارك في تدريب عمومي على الحوار لم يكن على عهد به منذ ما يقارب نصف قرن.
وفي ظل توتر اقليمي ودولي محيط، كان من الأسهل التضحية بتصورات وأفكار وحلول مختلفة حول الإصلاح الوطني، لكنها جميعا غير خلاصية، مقابل حاجة مفترضة لتوحيد الصف حول رؤية جامعة مانعة وتمامية، أساسها التوحيد بين السلطة والدولة، والمماهاة بين العقيدة والوطنية!
هكذا غاب فايز وفداء وعلي وأكرم وآخرون ، وسبقهم ميشيل وزملائه، ومن قبلهم رياض وغيره، فانقطعت حلقة أخرى من حلقات حوار مجتمعي، سيشهد له تاريخ سوريا المعاصرة بالجدية وحرارة البحث المخلص عن الجامع والمختلف، وعما يناسب العصر ومركزية ثقافة حقوق الإنسان والمواطن فيه.
واليوم، هاهي دمشق قد انعقدت فيها القمة العربية العشرون، وتزدهي فيها أنشطة عاصمة الثقافة العربية وتجلياتها. فماذا لواحتفت بالاختلاف والتعدد، ووجدت فيهما قوة وغنى بدلا عن ضعف وتفرق؟ وماذا لو سعت من أجل قواسم عربية مشتركة لاتنفي الألوان والسياقات المتعددة، بل تستفيد منها، على غرار مثال أوروبا الموحدة، والتي لايستطيع أحد أن يزعم أنها واحدة؟ وماذا لو بحثت عن حلول مركبة لوقائع عنيدة ليس من المفيد إنكارها، أوتجاهلها، إن لم يكن من الضروري الاعتراف بها والانطلاق منها، أليس ذلك هو واقع الحال السياسي والثقافي العربي حقا ؟
مع مثل هذه الرؤية يمكن أن يذهب الجميع إلى دمشق، التي تعصم حقا، لا العرب فحسب من القلق على وحدتهم المركبة من أخطار مزعومة للتعدد والاختلاف ، بل تعصم السوريين أيضا من القلق على وحدتهم الوطنية التي تقوى بالراي والرأي الآخرا، وعلى ماجاء في خطاب القسم الأول الذي غاب ولم يعد يتذكره أحد بعد.
وتلك دمشق عاصمتنا التي نعرف وننشد، والتي يذهب إليها العرب ويعودون، ونذهب إليها ونعود نحن السوريين ، وكلنا أقوى وأغنى مما سبق. بعكس دمشق الأخرى، التي اختصرها تعبير مدهش لحفيد د.فداء الحوراني المعتقلة، الطفل غازي ذو السنتين ونصف. وذلك عندما تمكنت من الاتصال به، فألح عليها بالعودة من غيابها الذي طال، وكانت تبرره بسفرها إلى الشام ، فقال غير مصدق: (هذه ليست الشام ) فالشام يرجعون منها، بينما هذه لايرجع منها أحد