صفحات ثقافية

سلمان رشدي مترجماً إلى العربية: الفتوى اذ توقع الأدب في أسرها

null
هيفاء شدياق
قبل أسابيع اهتم بعض الكتّاب بالذكرى العشرين لفتوى الخميني بإهدار دم الكاتب البريطاني من أصل هندي سلمان رشدي يوم “عيد الحب” 14 شباط عام 1989. قال الخميني يومذاك إن “مؤلف كتاب “الآيات الشيطانية” – الذي تم إعداده وتحريره وطباعته ونشره للاعتداء على الإسلام والرسول والقرآن- وكل من تورطوا في طباعته ونشره ممن كانوا على وعي بمحتواه ومضمونه، قد صدر في حقهم الحكم بالموت. وأنا أدعو كل المسلمين الغيورين والمتحمسين الى تنفيذ حكم القتل فيهم وبسرعة”. كثر فسّروا هذه الفتوى بأنها جزء من “الصراع على الاسلام” في العالم. المهم القول ان رشدي تلقى الفتوى وتوارى عن الانظار ووضعت له بريطانيا حراسة مشددة، واسفرت الفتوى الخمينية عن ازمة بين إيران والغرب الى جانب حصول تظاهرات كثيرة في بلدان اسلامية.
لا تزال الفتوى الخمينية عالقة، ولم تجد حلاً حتى في خضم ولاية الرئيس الايراني السابق محمد خاتمي الذي عرف بانفتاحه على الغرب. حاول خاتمي إيجاد حل للمسألة لكن “مرشد الثورة الايرانية” علي خامنئي متشبث بالإرث الخميني والعداء للغرب وثقافته. وكان اسم رشدي عاد ليلمع ثانيةً بعدما منحته ملكة بريطانيا لقب “السير” تقديراً وتثميناً، وهذا ما اعتبره بعض الكتاب استفزازا جديداً. في المقابل كان لافتاً ان داري “الجمل” و”التكوين” اصدرتا ثلاث روايات لرشدي مترجمة الى العربية، هي “أطفال منتصف الليل” (سبق ان صدرت في دمشق قبل فتوى الخميني) و”غضب” و”العار”. يفتح صدور هذه الروايات الباب من جديد للحديث عن الروائي “النجم” الذي لا يغيب عن الساحة، فقد حظي بشهرة لم يسبق لها مثيل في العالم، وصارت مواقفه تُسمع في الغرب سواء في حديثه عن الحجاب أو عن القضية الفلسطينية او عن الاصلاح الديني. انه الروائي الذي حوّلته الفتوى رمزاً لـ”حرية الرأي والتعبير” بالنسبة الى الغربيين، و”شيطانا” و”زنديقا” و”مرتدا” بالنسبة الى الكثير من العرب والمسلمين الذين لم يقرأوا رواية “آيات شيطانية”، بل سمعوا فتوى الخميني فحكموا على رشدي من خلالها.
بات سلمان رشدي نموذجا لثقافة العولمة او الثقافة العابرة القارات والثقافات. ولد في مدينة بومباي الهندية، ويعيش في بريطانيا، ويعتبر من أهم الكتاب الذين اعادوا الاعتبار الى الثقافة البريطانية او الانغلوساكسونية. ومن يراجع لائحة اهم الكتّاب البريطانيين راهناً، يلاحظ ان معظمها من أصل افريقي او آسيوي، من سلمان رشدي الى اهداف سويف وحنيف قريشي. في إزاء أصل الكتّاب وفصلهم، لا بد من ولادة روايات لها طابع تعددي او تتضمن عناصر كثيرة من الشرق والغرب أو من التاريخ والحاضر. سلمان رشدي من هذه اللائحة، اذ يكتب روايات معقدة الخيوط، لا يلمّ القارئ العادي بها، لعمق مخزونها الثقافي، ولا يستطيع إلا بعسر، أن يفكّ ألغازها العديدة، وتواشجاتها اللغوية، او ان يفصل بين مستوياتها السردية المتداخلة.
من صنع سلمان رشدي؟ كثر يقولون ان الفتوى الخمينية كانت سبباً في تلميع صورته وابراز شهرته في انحاء العالم، والبعض يقول انه كان مشهورا قبل الفتوى، اذ ترجمت احدى الدور السورية بعض اعماله الى العربية في منتصف الثمانينات من القرن الماضي، والآن يعاد اصدراها عن داري “الجمل” و”التكوين”، ولا نعلم هل تُحدث ضجة وتتعرض للرقابة لمجرد ان صاحبها اسمه سلمان رشدي؟!
لنقل ان رشدي بدأ بكتابة القصص الخيالية وتفرغ للكتابة. فشلت قصته الأولى المسماة “غرايمس” فشلاً ذريعاً، لكن روايته “أطفال منتصف الليل” جلبت له الحظ بعد فوزه بجائزة “بوكر”، ففيها كتب رشدي قصصا تدفقت كل منها داخل الأخرى، وأغوت خيال القارئ بأحلام مستحيلة، وثمة من يضعها في اطار ثقافة الاستشراق. تضمنت الرواية لوحة بانورامية لبلده الهند، بكل مآسيها وخرافاتها وأساطيرها واستيهاماتها عشية استقلالها، واستخدم راوي الرواية سليم، في إحدى النواحي، مجاز شاشة السينما ليناقش عمل الإدراك هذا: “افترض أنك في سينما كبيرة، تجلس أول الأمر في المقاعد الخلفية، وتتحرك بالتدريج، إلى أن ينضغط أنفك على الشاشة”، “تتحلل الوجوه إلى حلبة راقصة، تكتسب التفاصيل الصغيرة نسبا متنافرة. يبدو واضحاً أن الوهم بنفسه يبدو حقيقة”.
في روايته “العار” حاول أن يتوجه الى الكتابة السياسية مستغلاً الغليان السياسي في باكستان آنذاك، واستعمل شخصية ذو الفقار علي بوتو وشخصية الجنرال ضياء الحق كمحورين رئيسيين لموضوع هذا الكتاب. علينا ان نذكر هنا ان الروائي جون م. كويتزي، حامل جائزة نوبل، له رواية اسمها “العار” ايضا يحكي فيها عن أستاذ جامعي جنوب إفريقي حوكم بسبب علاقاته غير الشرعية مع عدد من تلميذاته اللواتي يصغرن ابنته الوحيدة. وهو بعد أن يجلله العار، يلجأ الى ابنته التي كانت تركته سابقاً وذهبت لتعيش في مزرعة تمتلكها في الريف الجنوب إفريقي حيث تكدح في أرضها بعيداً من أبيها الذي لم تكن راضية عن أسلوب حياته وتحلله الأخلاقي.
سلمان رشدي، الروائي المعولم في الثقافة، وفي جمع عناصر رواياته، اختص في استحضار عناصر هجائية وهزلية، وهو اذ يسخر من التاريخ والأنظمة والأديان في “آيات شيطانية”، فإنه يعرّي قوى التسلط المالي والإعلامي و”المريض الأميركي” في روايته “الغضب”، يقول: “سنصبح نحن المشهد والآلات ستصبح الجمهور. هي من سيشد خيوطنا ونحن من سنعمل من أجلها”. الرواية مثقلة بالرموز الميتولوجية، وأسماء المسرحيين والكتّاب والشعراء والفلاسفة والمخترعين من كل الأزمنة. يرسم رشدي لأميركا المعاصرة لوحة معقدة الوجوه، ومتشعبة الأشكال، ومتباينة الخطوط. في “غضب” يظهر وجه أميركا الفاتن،  الغرائبي. ويبذل رشدي كل ما في وسعه، من أجل تفكيك رموز الحياة الأميركية.
صادق جلال العظم
اهم ما في اعادة اصدار بعض كتب رشدي بالعربية انها تعطي القارئ العربي فرصة ان يقرأ هذا الروائي الذي سمع عنه الكثير وبقيت كتبه بعيداً من التداول. حين أصدر الباحث السوري صادق جلال العظم كتابه “ذهنية التحريم وحقيقة الأدب”، بدا مضمونه اشبه بـ”فضيحة” ثقافية لمعظم الكتّاب العرب الذين تناولوا رواية “آيات شيطانية” لسلمان رشدي. عرّى العظم كتاباتهم التي اختلط فيها الحابل بالنابل، الاسلامي بالعلماني، العاطفي بالمادي، وقامت في معظمها على رد الفعل، فهم كتبوا عن “آيات شيطانية” من دون أن يقرأوها. كتاب العظم هذا أثار عاصفة نقدية، وحرّض عدداً من المثقفين والمفكرين والنقاد البارزين على الرد والتعليق، كما أن ردودهم هذه أدت بدورها إلى تحريض المؤلف نفسه على مناقشتهم عبر القضايا الكبيرة التي أثاروها عن الأدب وعلاقته بالحياة والمجتمع والتاريخ والتراث والدين والسياسة والجمال إلخ، كما عبر المسائل المهمة الأخرى التي برزت تلقائياً في سياق ردودهم على المؤلف، في حمأة ما كُتب وما نُشر. وهذا جعل العظم يبتكر كتابا جديداً عنوانه “ما بعد ذهنية التحريم” على نسق “ما بعد الحداثة”، لعل ابرز ما فيه ليس السجال حول رشدي بل تعريف القارئ العربي ببنية روايات الكاتب البريطاني ومصادره التاريخية والمعاصرة. فالعظم قدّم تحليلا عميقا لطبيعة أدب سلمان رشدي حيث عقد في كتابه هذا مقارنات بين أدب سلمان رشدي ودوره، ودور كل من فرنسوا رابيليه، وجيمس جويس في القرن العشرين. كما ركز العظم في مناقشته، على الأبعاد الفكرية والنقدية التحررية، التي جسدها رشدي في إعماله الأدبية. على ان ابرز ميزة في أدب رشدي هي الفكاهة باعتبارها، الابتكار العظيم للروح الحديثة. وأعمال رشدي الروائية مليئة بعوالم فانتازية مثيرة، تضج بنقد العالم بضفتيه، شرقا وغربا، وبأسلوب مليء بصور وأخيلة مكتظة بالحكايات والأساطير والخرافات وروح الدعابة الشعبية.
السلمان رشدية
منذ فتوى الخميني بإهدار دم سلمان رشدي، صار هناك ظاهرة يمكن تسميتها بـ”السلمان رشدية”، موجودة منذ قرون لكن لم تكن على هذه الصعد في “الميديا”. فخلال القرن العشرين تعرض الكثير من الكتّاب للتعذيب او المضايقات، وأبعد بعضهم لكن لم تصدر فتوى اهدار دم على هذه الشاكلة. بعد فتوى الخميني، تعرض الروائي نجيب محفوظ لمحاولة اغتيال بسبب روايته “أولاد حارتنا” على يد شاب أصولي لم يقرأ الرواية، والكثير من الكتاب اغتيلوا في العالم بسبب الكلمة والقلم، من الجزائر الى لبنان الى مصر وايران.
السلمان رشدية هي الجانب السلبي الذي استقاه بعض الكتّاب من سلمان رشدي، فهم استنبطوا من كتاباته الجانب “الاستفزازي” وليس الابداعي. أصدرت التركية سيلين تامتكين رواية باللغة الإنكليزية باسم مستعار، تتحدث عن العلاقات الجنسية لبطلة الرواية (هي ابنة ديبلوماسي تركي أقام في الغرب مع عائلته)، مع ثري بنغلاديشي وسواه في شكل صريح يصل إلى حد الفضيحة. أحدثت الرواية هرجاً ومرجاً في تركيا حتى قبل أن تصدر ترجمتها التركية. أخذوا يتحدثون عن “سلمان رشدي الأنثى”، إذ احتلت الرواية الصفحة الأولى في الصحف الأكثر انتشاراً في تركيا. كان الاستهجان قاسياً وغير مسبوق، إذ كيف تتجرأ فتاة تركية على التحدث عن تجاربها هكذا؟ قبل ذلك، سمعنا كثيرا عن الروائية البنغالية المثيرة للجدال تسليمة نسرين التي حكمت عليها محكمة في بنغلادش بالسجن عاما واحدا بسبب تهجمها على الإسلام وإساءتها إلى مشاعر المسلمين وخصوصاً بسبب روايتها “لاجا” التي ترجمت الى العربية بعنوان “العار” (علينا ان نتذكر هنا رواية ” العار” لسلمان رشدي ايضا). الفتوى هي التي صنعت تسليمة نسرين، بينما ادبها يبدو في منتهى الرداءة. وفي ألبانيا قيل “إذا كنت تطمع بأن تكون سلمان رشدي جديدا، فلن تجد في ألبانيا خمينياً آخر”. بهذه العبارة رد مسؤولون في المشيخة الإسلامية في ألبانيا على الكاتب بين بلوشي في روايته “أن تعيش في جزيرة” التي يصف فيها الإسلام بأنه “كوليرا ظلت تنتشر لأكثر من ألف عام بحد السيف”. ومن روايات الموجة السلمان رشدية “جوهرة المدينة” لشيري جونز وقد سحبت من الاسواق بعد محاولة حرق الدار التي اصدرتها، فضلاً عن كتابات الفرنسي ميشال ويلبيك.
هذا غيض من فيض عن السلمان رشدية التي كانت الخمينية جزءا من صناعتها، وهي التي جعلت الشهرة تسرق الابداع من صاحبه. ربما علينا هنا ان نقرأ سلمان رشدي مترجما الى العربية من دون تذكّر الفتوى، وخصوصا ان رواياته هذه صدرت قبلها.
النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى