دروس مُستفادة في الحرّيات المدنية والعامّة
بسّام حجّار
لم أدرِ أنّ لواحدنا أسلوباً أو إنشاءً، بحسب الظروف، قبل أن يُنبّهني إلى الأمر أستاذٌ لنا كبيرٌ في الأمرين معاً، هو غسّان تويني.
قال لي حين أعطيته ترجمتي لمقالة كان كتبها، على غير عادته، بالفرنسيّة، إنّه لا يعترض على الترجمة فلربّما اهتدت الترجمة إلى أسلوب القول في حدّ ذاتِه، غير أنّها، بحسبِه، لم تهتدِ إلى “إنشاء غسّان“.
طبعاً لم يعترض على نشر الترجمة آنذاك ولكن ظنّي أنّه لم يقرأها، عقب نشرها، كمقالةٍ له، أو في الأقلّ، كمقالة تعبّر عن “إنشاء” المؤسّسة الصحافية، التي طبعها، وربّما لحسن الحظّ، بطابعِه، على مرّ العقود والأعوام. وإنّما قرأها كمقالة، ذات إنشاء غريب، تعبّر، ما أمكن لغة أجنبية التعبير، عن افكارِه ومقولِه، غير الأجنبيين، من دون إنشائه.
أحسب الآن أنّ القصد من اعتراض الاستاذ غسّان تويني آنذاك كان أشبه بالموازنة بين ما هو قابل للتغيّر وبين ما ينبغي أن يظلّ ثابتاً في تدليله على إقامةِ المرء في صورة لذاته لا يبرحها، خصوصاً إذا كانت الصورة المعنية تُلابسُ تاريخَ مؤسّسة وهيبتها.
الأسلوب، وهو ما كان في ظنّي أمارة التميّز في صنعةٍ، كسواها، هي الكتابة، لم يكن كذلك.
والإنشاء، وهو ما كان في ظنّي أمارة النسج على منوال أو محاكاة نموذج، بارع أحياناً، مكتَسَب، لم يكن أيضاً كذلك.
وعلى الرغم من خيبة الظنّ التي آلمتني، فإنّ عزائيَ نفسيَ حملني على الاعتقاد بأنّ ما يُخاطَبُ به الناس، وعلى الأخص إذا كانوا جمهرةً أو حشداً أو جماعةً من القرّاء والناس، هو إنشاء، أمّا ما تُخاطَبُ به النفس ذاتها، أي بما يُعتَبَر نقيض التخاطب السياسيّ وغريبَه، فهو أسلوب.
أي أنّ الإنشاء هو الأقرب إلى مقول السياسة ودعواها. والأسلوبُ هو ما عدا ذلك. أي هو أنا وأنتَ وسوانا إذا اقمنا على فرديّاتنا غير النموذجية، حتماً، في القولِ، وحمّالة العيوب.
ولعلّ الأسلوب، بالمعنى الذي ألمح إليه أستاذنا، هو ما يُكتَسب باختبارٍ شخصيّ، فرديّ، خاص، للعيش. فيما الإنشاء هو ما يُكتَسَبُ بالمراسِ والتمرين، والقليل، أو الكثير، من الاجتهاد.
قد لا يوافق غسان التويني على بعض أو كلّ ما سبق وما سوف يلي. غير أنّ الإشارة إلى بناء الفروق الدقيقة في تفريقه بين الإنشاء والأسلوب، لا بدّ، وهنا المفارقة، أن تستوقف مشاهدي تلفزيوناتنا ( لا قرّاء صحفنا) في هذه الآونة.
حتّى أنّ المُشاهِد، لفداحة عجزِه عن التأثير فيها، وطولِ لامبالاته حيالها، يقف بإزائها موقف المَيْت. فإذا كنت لا تؤثّر في ما حولك، ولا تستهلك ما تستخدمه كلّ يوم، ولا يؤثّر ما حولك فيك، فلا محالةَ أنتَ المَيْت وإن كانت السهرة على جثمان الميت تُقام على شرفك أنت.
الدرس الأوّل
وهو المُستفاد من توسّل المتحدّثين باسم حزب الله في لبنان الخطابة في التمرّسِ على تغليب الإنشاء.
قلّة قليلة منهم تلجأ إلى التدوين، وبلغة أجنبيّة في الأغلب لمخاطبةِ ما بعد (بعد) الجوار الأجنبي، والغالبية الغالبة (أليس أنّهم الغالبون؟) منهم تؤثر مزاولتها وفقَ شروط فنّ الخطابة، وإن قصّرت أحياناً في الأداءِ لتهدّج أو بحّة في الصوت، وفي اللغة حين تستخفّ باللسان الحماسة، من على منبر، ووراء ميكروفون أو أكثر.
فالخطابة فنّ قديم، قِدَمَ العقل الذي يتوسّلها لغرضٍ بعينه، تُقحِمُ الإيماءَ والمظهرَ في احتمالات المعنى، وخاصّةً إذا جاء هذا المعنى مبثوثاً، منتثراً، لا بل مبعثراً، في سياق بثّ تلفزيوني.
وهؤلاء، على قِدمهم القديم، يدركون جيّداً أن الصورة التلفزيونية حلّت محلّ واقعهم وواقعنا منذ أمدٍ طويل، فأحلّوها محلّ المعنى المُرتجى من كلّ قولٍ حتّى جُرّد، تقريباً، من جلّ مضمونه، وصارَ سَنَداً (حاملاً) للنبرة (حتّى أنّ البعض يتفنّن في تنويعِ اللهجة) ليس إلاّ.
وما يتحدّثون عنه في الأغلب لم يحدث. فالحدَثُ في متنِ الإنشاء في حالٍ من العطالة التامّة. لأنّك فيما تنشئ العبارة إنّما تنشئها لغرض استقامتها كَجَرْسٍ ومبنىً (وهذان من لزوم ما يلزم في الخطابة)، أي أنّك تنشئ العبارة لذاتها ولوقعها على الأسماع لا للمعنى أو لوقعها على الأفهام. فالأمر الغائب فيمن تخاطبهم الخطابة هو، في الأغلب، الفَهم الذي يُستبدَل بتضامن الجماعة، وحماستها، ولحمتها، وكتلتها الصمّاء.
حدث الخطابة إذاً لا يحدث. تماما كالصورة التلفزيونية في البثّ المباشر التي لا تنقل الواقع بل تحلّ محلّ الواقع.
نجوم المرئيّ المسموع هؤلاء، يمتازون بإنشاء من طرزٍ فريد. وخطبهم، يُقال اليوم “إطلالاتهم المتلفزة”، كيلا نحرف المصطلَح، متاحة لجمهور الناس في تسجيلات وسيديّات تُباع لدى الباعة الجوّالين وجميع المخازن الكبرى. ولعلّها التسجيلات الوحيدة التي لا يُمانع أصحابها في قرصنتها ونسخها على نحوٍ غير مشروع.
هذه الـ “أولترا حداثة”، على ما يقول الفرنجة، قد تبدو متعارضة، في الظاهر، كلّ التعارض مع المظهر ونبرة الخطاب، غير أنّ التعارض هنا شكليّ محض، أمّا في المضمون، فكلّ الوسائل، بما فيها “النووي” (ليس الإمام الجليل بل المادة المشعّة)، مُباحة لبلوغ الغاية.
ولعلّ أول دروس الحريّات المدنية والعامّة المُستفادة من نجوم تلفزيون المنار، على سبيل المثال لا الحصر، يتطرّق إلى الصلة الوثيقة بين الطهارة والدساتير. وبين الصفات الإنسانية بين صيغها العادية وبين صيغ أفعل التفضيل، التي تقدّم بعض الناس، من حيث المكانة والصدقية، على بعضهم الآخر، لغرض الحذفِ لا الإضافة. فالأشرف يحذف الشريف في سباق الناس المستميت نحو الطهارة.
ما أبهى صورةُ الخطيب الإلهيّ (ألا تجوز التسمية عقب تسمية أحمدي نجاد جيشه وترسانته التدميرية بالجيش الإلهي؟) على شاشة التلفزيون وهو يكشح، عن وجهه الطاهر، وبحركةٍ طاهرةٍ من ظاهر يده، أو باطنها الطاهرين، وإذا اقتصدَ الجهد: بحركةٍ عصبية من إصبعه الطاهرة أيضاً، قراراً اتخذته الحكومة غير الشرعية وغير الميثاقية، وطبعاً، غير الطاهرة.
فالطهارة شرط استقامة الحكومات في شرعيّتها، فإذا خَلَت من الطهّار (ومن “أشرف الناس”) فقدت شرعيّتها. أمّا الدساتير والقوانين الوضعية، فهذه بدع صهيونية هي الأخرى!
الدرس الثاني
ثاني دروس الحرّيات بحسب الخطيب الإلهي (ولا ندري من أين يستمدّ خبرته بالحريات المدنية والعامة؟) يُختَصَرُ بتوحيد المصطلحات والمعاني في تناول أمرَين لا يبدو التماثل بينهما واضحاً أو مفهوماً.
إذ ما وجه الشبه بين (قضية) الأسير اللبناني في السجون الإسرائيلية منذ ثلاثين عاماً، سمير القنطار، وبين (قضية) الجنرالات اللبنانيين الأربعة “الموقوفين” في قضية اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري؟
سلسلة مهرجانات متزامنة نقريباً أقيمت إحياءً أو نصرةً للمناسبتين.
إنشاء الشيخ نعيم قاسم في مهرجان سمير القنطار جاء، مطابقاً، حرفياً، لإنشاء الشيخ إبراهيم أمين السيّد (؟) في تكريم الجنرالات الموقوفين الأربعة.
فهنا الأسير يأسر آسِرَه، وهناكَ يسجن السجين سجّانَه في تأويل يشطحُ في استدعاء عرفانيات تليق بإنشاء الخطابة.
فليكن.
ولكن ما هو الطاهر والأشرف، أو لنقل بلغتنا العلمانية المبتذلة، ما هو الأخلاقي في هذا الخلط المتعمّد بين أمرين لا صلة لأحدهما بالآخر، أللهمّ إلاّ ضرورات الخطابة الشكلية وإنشائها.
المُستفاد إذاً من خطابة الخطيبين المذكورين في أصول الحريّات العامّة هو بيان التماثل بين اعتقال مقاوم في السجون الإسرائيلية وتوقيف جنرالات على ذمة التحقيق في جريمة اغتيال سياسية كبرى.
ووفق هذا التماثل فإنّ آسِر القنطار شبيهٌ بمحتجز الجنرالات الأربعة. أو هو عينه في صيغيتين مختلفتين في الظاهر لا في الجوهر.
إسرائيل والقضاء اللبناني (ومعه القضاء الدولي).
التعليل بسيط والنتيجة لا تخفى على عينِ مبصر. وواجب الشيخين (بحسب تكليفهما الشرعي) يرفعا الظلامة عن المظلومين، لأنّهم، في آخر، معتقلون سياسيون، أي أنّهم، بصريح العبارة، وبلغة اللبنانيين الممانعين اليوم، مقاومون.
والخشية من إقامة التماثل بين إسرائيل والقضاء اللبناني أن يُخلَص إلى تماثلٍ في ما ينبغي اللجوء إليه لرفع الظلامة الموصوفة: فللتذكير فقط، كان الاقتراح الشهير من قبل القيادة الإيرانية (وقد تبنّاه حزب الله بلسان أمينه العام، مؤخراً) بشأن إسرائيل هو شطبها من الخريطة.
فالمشكلة أنّ القضاء اللبناني ليس مخوّلاً كسلطة مستقلة أن يوقّع ورقة تفاهم مع حزب الله. فأين موقعه بين الأخيار والأشرار ؟
كلام الشيخين بليغ بهذا المعنى، ولا يحتاج إلى تفسير.
حاشية على الدرس الثاني في الحريات المدنية والعامّة:
(جاء في التقارير الجنائية أنّ الصحافية الكندية من أصل إيراني المعتقلة لدى السلطات الإيرانية قد أصيبت إصابة قاتلة جرّاء ما يُرجّح أنّه “صدمة” بكعبِ حذاء أحد محقّقي البسدران.
كان حادثاً مؤسفاً مسرحه أحد المعتقلات الإيرانية.
نتائج التحقيق لم تكن جازمة، ولم تُستبعَد فرضيّة أن تكون المرأة قد اصطدمت عَرَضاً بكعب حذاء مأمور المخابرات الذي كان يقوم بواجبه).
الدرس الثالث
لا يجوز التنوّع (لأنّ التنوّع هجنة وفرقة) في إنشاءٍ صادرٍ عن الحشد، عن الجموع، ما يوصَف بتعبير ستاليني دقيق بالـ”الكتلة”، أو “العتاد البشريّ”. العتاد واحد للمجموعة منه طرز أو لقب أو رقم، ولكن لا يُسمّى.
ففي منطق المجتمعات الحربيّة ( أي الممانعة هنا ) هناك نمط للحياة ينقادُ إلى معايير السرّ، والتخفّي، والكتمان، والظنّ، والوشاية، والمراقبة… وغير ذلك. وهذه كلّها تناقض الأسماء بما هي علامات فردية، شخصيّة، خاصّة، كما تناقض الحريّات أو استعمالها.
فالمقاوِم، أو الممانِعُ، يُجرّد من اسمِه حتّى ما بعد الوفاة. يظل منصهراً بالكتلة الصمّاء، وعليه أن يموت لكي يستعيد اسمه.
عليه أن يموت لكي تستعيده حياته التي فارقها، ولكي يستعيده أهله وصحبُه.
وطبعاً، الموتُ، في الإنشاء العرفانيّ، هو درسُ الحريّة الأوّل.
عليك ان تموت أولاً لكي تغدو حرّاً في حياتك.
المستقبل – الاحد 27 نيسان 2008