ديربان ـ 2 والهولوكوست: امتياز الضحية أم التمييز ضدّها؟
صبحي حديدي
لعلّ المرء، إذا أفلح قليلاً في التحرّر من ضجيج القصف الإعلامي الغربي المكثّف الذي استهدفت خطبة الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد أمام قمّة ديربان ـ 2 حول العنصرية، التي انعقدت في جنيف واختُتمت سريعاً قبل أوان انتهاء اعمالها، سوف يجد الرجل على غير عادته: هادئاً، غير متشدّد، لا ينذر بالويل والثبور، ولا يهدّد بمحو الدولة العبرية من الخريطة، بل يعفّ عن استخدام مفردة ‘إسرائيل’، مفضّلاً تسميتها بـ ‘النظام الصهيوني’.
وباستثناء صياغة لغوية خاصة، وجدانية وعاطفية في العموم، هي الحدّ الأدنى المنتظَر من مسؤول مسلم، وهذا المسؤول الإيراني المسلم تحديداً، هل جانب الصواب في توصيف السياقات التاريخية التي اكتنفت إقامة إسرائيل بوصفها كياناً صهيونياً، وخاصة سياقات النكبة بكلّ ما انطوت عليه، في الجانب الفلسطيني، من مجازر وتهجير وسلب أراض ومحو قرى بأكملها من الخريطة؟
لافت، من جانب آخر، أنّ طلائع الوفود الأوروبية المنسحبة أخذت في مغادرة القاعة بعد أن مسّ أحمدي نجاد أحد الفصول المعروفة في التاريخ الكولونيالي للقوى الغربية العظمى، وقال: ‘بعد الحرب العالمية الثانية لجأوا إلى العدوان العسكري لتشريد أمّة بأسرها تحت ذريعة المعاناة اليهودية. وأرسلوا المهاجرين من أوروبا والولايات المتحدة وأجزاء أخرى من العالم، لإقامة حكومة عنصرية تماماً في فلسطين المحتلة’… فهل جانب الصواب، هنا أيضاً؟ التاريخ يقول إنّ الغرب سهّل، وشجّع مراراً وتكراراً، عمليات الهجرة اليهودية إلى فلسطين؛ وكان مجرّد التركيز على العنصر اليهودي بمثابة خيار تمييزي، ديني أوّلاً، ثمّ عنصري استطراداً.
وأمّا أن تكون الوفود المنسحبة قد ‘صُدمت’ لاستخدام الرئيس الإيراني تعبير ‘حكومة عنصرية’ في توصيف دولة إسرائيل، فإنّ الأمر مردّه الذاكرة الخبيثة، لا الحسيرة، التي تناست أنّ منظمة الأمم المتحدة كانت تعتبر الصهيونية شكلاً من أشكال العنصرية، بموجب قرار رسمي اتخذته الجمعية العمومية أواخر العام 1975، ونهض على تعليلات سياسية وقانونية وحقوقية وأخلاقية. وإذا كانت متغيّرات العالم بعد سقوط جدار برلين، وانحطاط النظام العربي إلى حضيض جديد بعد ولادة تحالف ‘حفر الباطن’، قد أتاحت إلغاء ذلك القرار أواخر العام 1991، فإنّ جميع مسّوغاته ما تزال قائمة، بل ازدادت وتضاعفت بعد أن انفلتت إسرائيل من كلّ عقال في ممارسة البربرية العارية ضدّ الشعب الفلسطيني.
الهولوكوست كانت المفردة الغائبة تماماً عن خطبة أحمدي نجاد، بل تردّد في أروقة مؤتمر ديربان ـ 2 أنّ نصّ الخطبة الأصلي كان يتضمن تلميحاً سلبياً إلى الأمر (يقول ما معناه إنّ الغرب استغلّ قضية الهولوكوست، ‘الغامضة’ و’الملتبسة’، لإقامة دولة إسرائيل، فوافق الرئيس الإيراني على شطبه تماماً، بعد لقائه مع بان كي مون، الأمين العام للأمم المتحدة). ومع ذلك فإنّ معظم الحكومات الغربية استخدمت أقسى العبارات، وأقذعها جاءت من البيت الأبيض، في نقد خطبة أحمدي نجاد، واعتبارها معادية للسامية ونافية للهولوكوست، من جهة أولى؛ كما استغلّت مناخات التأثيم هذه للتعمية التامة على ما جاء في الخطبة من نقاط أخرى لا تخصّ إسرائيل بالضرورة، ولكنها تصف مختلف أنساق التمييز، وليس العنصرية منها فقط، من جانب ثانٍ.
ولقد اقترن انعقاد مؤتمر ديربان 2، المكرّس لمناهضة العنصرية أياً كانت أشكال ممارستها وهوية ضحاياها، مع اليوم السنوي الذي تخصصه الدولة العبرية لاستذكار ضحايا الهولوكوست، وكأنّ المصادفة المحضة شاءت التشديد على ثلاث حقائق: أنّ هذه الذكرى ليست ملكاً خالصاً للضحايا اليهود، وينبغي أن تخصّ الجميع دون أيّ تمييز؛ وأنها لم تعد رهينة الذاكرة الوجدانية وحدها، بل باتت تاريخاً تجب دراسته واستخلاص الدروس منه؛ وأنها، ثالثاً، ليست حكراً على الدولة العبرية وحدها لأنّ تراث الهولوكوست ـ وعلى نقيض من التبشير الصهيوني ـ يخصّ الإنسانية جمعاء. ولهذا فإنّ كتاب ‘في ظلّ الهولوكوست: الصراع بين اليهود والصهاينة في أعقاب الحرب العالمية الثانية’ لأستاذ الألسنيات في جامعة تل أبيب يوسيف غرودزنسكي، ينصف ضحايا الهولوكوست من زاوية غير مألوفة أبداً: دور المؤسسة الصهيونية في صناعة الهولوكوست، وكيف انطوى ذلك الدور على تواطؤ مباشر صريح بين بعض القيادات الصهيونية وكبار ضبّاط الرايخ الثالث المسؤولين عن تصميم وتنفيذ ما عُرف باسم ‘الحلّ النهائي’ لإبادة اليهود.
ليست الوقائع التي يذكرها غرودزنسكي جديدة، ولكنه هذه المرّة يتناولها وقد وُضعت في سياقات ملموسة تخصّ هذا الجانب تحديداً: كيف جرى ويجري تسويق الهولوكوست لأسباب سياسية صرفة تطمس، وأحياناً تشطب تماماً، سلسلة الوقائع الإنسانية التي تسرد عذابات الضحايا، وآلامهم وتضحياتهم؟ وكيف جرى ويجري الضغط على ضحايا الهولوكوست، وأحفادهم من بعدهم، للهجرة إلى فلسطين المحتلة رغم إرادتهم غالباً؟ وكيف استقرّ دافيد بن غوريون على الرأي القائل بضرورة تضخيم حكاية سفينة ‘الخروج’ الشهيرة، سنة 1947، لكي تشدّ أنظار العالم إلى مأساة اليهود، وتستدرّ العطف عليهم، والتعاطف مع الوكالة اليهودية التي كانت تقوم مقام دولة إسرائيل آنذاك؟ وكيف أنّ الحقيقة الفعلية خلف حكاية سفينة ‘الخروج’ لا تنطبق أبداً على التمثيلات الملحمية البطولية كما جرى تلفيقها في رواية ليون أوريس الشهيرة، وفي فيلم أوتو بريمنغر الأشهر…
وغرودزنسكي يتوقف مطولاً عند ‘قضية كاستنر’، التي بدأت فصولها سنة 1945 حين نشر اليهودي الهنغاري مالكئيل غرينفالد (البالغ من العمر 71 آنذاك سنة، وأحد الناجين من الهولوكوست) كرّاساً صغيراً يتهم فيه اليهودي الهنغاري رودولف كاستنر (القيادي الصهوني البارز وأحد أقطاب الـ ‘ماباي’، حزب بن غوريون) بالتعاون مع النازيين خلال سنتَيْ 1944 و1945. والوقائع التي سردها غرينفالد يقشعرّ لها البدن حقاً: لقد وافق كاستنر، بعد تنسيق مباشر مع الضابط النازي المعروف أدولف إيخمان قائد الـ ‘غستابو’، على شحن نصف مليون يهودي هنغاري إلى معسكرات الإبادة، بعد أن طمأنهم كاستنر وبعض معاونيه إلى أنّهم سوف يُنقلون إلى مساكن جديدة، حتى أنّ البعض منهم تسابقوا إلى صعود القطارات بغية الوصول أبكر والحصول على مساكن أفضل! وكان الثمن إنقاذ حياة كاستنر وبعض أقربائه، وغضّ النظر عن هجرة 1600 يهودي إلى فلسطين.
وهذا الكرّاس تحوّل إلى قضية حين رفع كاستنر دعوى أمام القضاء ضدّ غرينفالد، بتهمة تشويه سمعته، وبعد أخذ وردّ أصدر القاضي بنيامين هاليفي حكمه بأنّ كاستنر تعاون بالفعل مع النازيين و’باع روحه للشيطان’. المثير أنّ كاستنر قرّر استئناف الحكم، لكنه اغتيل في عام 1957 ضمن ظروف غامضة، تشكك فيها المؤرّخة الإسرائيلية إديث زيرتال، في كتابها ‘الموت والأمّة: التاريخ، الذاكرة، السياسة’، وتعزو اغتياله إلى أجهزة الإستخبارات الإسرائيلية، لأنّ وجوده على قيد الحياة بات مصدر إحراج للدولة. صحيح أنّ المحكمة العليا برأت كاستنر بعد وفاته، إلا أنّ القضية كانت قد حطّمت ـ للمرّة الأولى منذ بدء فصول الهولوكوست ـ الحدود شبه المقدّسة بين الضحية والقاتل، وأسقطت الحصانة المطلقة التي تمتّع بها اليهودي في المسؤولية عن الهولوكوست.
هذا في ما يخصّ الوجه الآخر من حقوق الضحايا، وثمة حقوق تالية تدور حول الدروس التربوية التي يجب أن تتعلمها الدولة العبرية أوّلاً، وقبل الإنسانية جمعاء. ينبغي، بادىء ذي بدء، الكفّ عن تأثيم الأمّة الألمانية كابراً عن كابر، بحجة أنها أمّة يجري العداء للسامية في عروق أبنائها، وبالوراثة البيولوجية. وهذا لا ينفي التبصّر في السؤال الكبير: ‘كيف أتيح لأمّة عظيمة، أنجبت غوته وشيللر، أن تنفّذ هذه المجازر’؟ وينبغي التخلّي نهائياً عن ذلك التأويل اليهودي الديني الأصولي الذي يردّ الهولوكوست إلى فكرة تهديم الهيكل، والكراهية الأزلية بين اليهودي والوثنيّ العام. وآن الأوان، بعد هذه الذكرى الستين، أن تُطوى نظرية إيلي فيزل التي ترفض أي وجه للمقارنة بين الهولوكوست وأيّ وكلّ مآسي الإنسانية قديمها وحديثها: من إبادة الهنود الحمر (قرابة 70 مليون قتيل) إلى مذابح رواندا ربيع 1994 (قرابة مليون قتيل) لكي لا نتحدّث عمّا يجري كلّ يوم في فلسطين المحتلة. وفي المقابل، لا بأس البتة في مناقشة مختلف الآراء الأخرى التي درست الهولوكوست على أسس تاريخية موضوعية، وتتصف خلاصاتها بمقدار عالٍ، أو حتى بالحدّ الأدنى، من الحجّة العقلية. المؤرخ البريطاني أ. ب. تايلور، على سبيل المثال، أعاد جذور مواقف الرايخ الثالث من اليهود إلى مارتن لوثر، وذلك رغم أن الأخير كان وراء دمج ‘العهد القديم’ في ‘العهد الجديد’ بحيث توحّد اللاهوت الديني الغربي في صيغة تراث يهودي ـ مسيحي واحد. الألماني هانز أولريخ فيهلر رأى أنّ ألمانيا اختطت لنفسها طريقاً مختلفاً عن أمم أوروبا الأخرى (فرنسا وبريطانيا) منذ أواخر القرن التاسع عشر، وطوّرت بالتالي سلسلة خصائص تكوينية ذاتية مهدت الهياكل الاجتماعية والفلسفية والسياسية والإيديولوجية لولادة النازية. الماركسيون، من جانبهم، اعتبروا الهولوكوست مجرد مظهر من المظاهر الموروثة في الفاشية الأوروبية بصفة خاصة، والتي لا يمكن إلا أن تكون جزءاً من البنية الداخلية للنظام الرأسمالي نفسه. والمفكّرة الألمانية اليهودية حنّة أرندت اعتبرت الهولوكوست تفصيلاً صريحاً فاجعاً، ولكنه أتى ضمن تراث توتاليتاري عريض يضمّ النازية كما الشيوعية الستالينية والرأسمالية الوحشية، سواء بسواء.
مارك إيدلمان، القائد العسكري اليهودي الوحيد الذي نجا من غيتو وارسو، أعلن أنه سئم المقابلات الصحافية والتصريحات الجوفاء في أيام إحياء الهولوكوست: ‘ما جدوى غربلة الماضي إذا كنّا قد فشلنا في تعلّم دروسه؟ الغرب ما يزال يضع المصالح في المرتبة الأولى، ويفضّلها على الأرواح البشرية. ما يجري في يوغوسلافيا اليوم هو انتصار لهتلر وهو في قبره، والغرب يكرّر أخطاء الماضي، مثل تكراره بلاغته الكاذبة ونفاقه الفاضح’! كان الرجل يدلي بهذا التصريح النزيه وهو يعرف أنّ بعض الألمان العنصريين يتبادلون فيما بينهم هذه النكتة: ‘ما هو الفارق بين اليهودي والتركي؟ الفارق أنّ الأوّل نال ما يستحقّ، وأمّا الثاني فسيحين دوره قريباً’!
ولقد انشغل الأوروبيون بتأثيم خطبة الرئيس الإيراني، وتضخيم الإمتياز الأعلى الواجب إسباغه على الضحية الهولوكوستية اليهودية بعد أن غابت عن المؤتمر مظاهر التمييز ضدّها، ثمّ وصمّوا الآذان عن التحذيرات الجدّية التي أطلقها عشرات الخطباء، وبينهم الأمين العام للامم المتحدة، حول انقلاب الخوف من الإسلام إلى مرض رهابي، وصيغة للتمييز العنصري. كذلك بدت الذاكرة الخبيثة إياها مزمعة على محو التحذير السابق الذي أطلقته ماري روبنسون، مفوّضة الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان، من منصّة ديربان ـ 1، من أنّ العنصرية متأصلة الجذور ‘في كلّ مكان حولنا’ و’في كلّ منطقة’ و’داخل جميع البلدان’، في المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية. ولكن، في الأساس والمنطلق، مَنْ سوى السذّج كان ينتظر من الغرب أن يأتي إلى ديربان الثانية في حال أرقى، سياسياً أو أخلاقياً أو حتى فلسفياً، من مجيئه إلى ديربان الأولى؟
‘ كاتب وباحث سوري يقيم في باريس
خاص – صفحات سورية –