قضية فلسطين

مكونات الأزمة السياسية الفلسطينية

ماجد كيالي
ليست الأزمة الناشبة في الساحة الفلسطينية نتاج قصور في نظامها السياسي فحسب، وهي لا تتعلق فقط بالتصارع بين مشروعين سياسيين مفترقين، كما أنها ليست مجرد أزمة تداول للسلطة (بين فتح وحماس)، على أهمية كل ذلك.
وعلى الأرجح وإضافة إلى كل ما تقدم، فإن أزمة الساحة الفلسطينية هي على درجة كبيرة من العمق والتعقيد، وهي من النوع المستديم والعضوي، فهي أزمة موازين قوى ومعطيات إقليمية ودولية مختلة لصالح إسرائيل، وهي أزمة بُنى اجتماعية تعوق نهوض حركة سياسية، بالمعنى الوطني والحداثي. وأيضا، فهي أزمة شعب يعيش وضعا على غاية في التشتت والتشظي من كل النواحي، فالمجتمع الفلسطيني يفتقد الوحدة في إقليم جغرافي متعين.
عدا عن كل هذه الاستدراكات، فإن أزمة الساحة الفلسطينية متداخلة جدا مع الوضعين الإقليمي والدولي، بمعنى أن الظروف المحيطة يمكن أن تسمح بتعويم الأزمة، ويمكن أيضا أن تضغط لصالح وضع حد لها، ولو بشكل مؤقت، ربما إلى حين حصول تصدعات جديدة.
وإذا اقتربنا من العوامل الذاتية للأزمة، يمكن ببساطة ملاحظة أن الحركة الوطنية الفلسطينية نشأت ومعها تناقضاتها، ومحدّداتها، وأوجه قصورها وعطبها. فهذه الحركة انبنت على الشعارات والعواطف والمزايدات والتنافسات، بعيدا عن علاقات التنظيم والمشاركة والتداول والديمقراطية. والأنكى من ذلك أنها قامت على علاقات الاعتمادية على الخارج، أكثر من اعتمادها على شعبها.
واللافت أن هذه الحركة لم تعمل بالشكل المناسب على حل أو تجاوز هذه التناقضات والمحددات والمشكلات، بل إنها عملت على تجاهلها. ويكفي القول بأن الفصائل الفلسطينية لم تجر في تاريخها أي مراجعة نقدية مسؤولة للتجربة الوطنية الفلسطينية، من الأردن إلى لبنان إلى الأرض المحتلة، كما لم تراجع تجربتها السياسية ولا العسكرية ولا التفاوضية، ولم تجر مراجعة لتجربتي الانتفاضة الأولى والثانية، ولا لتجربة بناء المنظمة والكيان/السلطة، رغم كل التحولات والتطورات والتحديات التي واجهتها الساحة الفلسطينية.
العوامل العضوية
كما قدمنا، فإضافة إلى العوامل السياسية لأزمة الحركة الوطنية الفلسطينية الراهنة، ثمة عوامل تكوينية -من النوع العضوي- نشأت مع قيام هذه الحركة، يمكن تمثل أهمها في الجوانب التالية:
أولا- لقد تصرفت هذه الحركة بمجمل تكويناتها ومنذ قيامها، على أساس أنها سلطة (ولو في المنفى)، حتى لو كانت هذه السلطة معنوية أو مجرد سلطة مؤسسية، أي من دون إقليم جغرافي تسيطر عليه رغم أن هذه السلطة تعمّدت خلق حيز جغرافي لممارسة السلطة عليه، وفي محيطه (المخيمات والقواعد العسكرية ومكاتب الأجهزة خصوصا في لبنان).
ولا شك في أن هذا التصرّف الغريب جعل الحركة الوطنية الفلسطينية في موقع ملتبس، بين السلطة وحركة التحرر. وبديهي أن هذا الالتباس أدخل هذه الحركة في إشكالات واحتكاكات عديدة وخطيرة ومجانية، مع شعبها وفيما بين مكوناتها ومع محيطها (الأنظمة السائدة).
وهذا الوضع لم يختلف بعد قيام كيان السلطة بنتيجة اتفاق أوسلو(1993)، ذلك أن هذه السلطة ظلت تخضع لمحددات السيطرة الإسرائيلية، مما يثير الاستغراب بشأن التصارع على السلطة في وضع لا سلطة فيه فوق سلطة الاحتلال!
ثانيا- منذ البداية تأسّست الحركة الوطنية على تقديس الكفاح المسلح والإعلاء من شأن العسكرتارية في الفكر والممارسة السياسيين. وكان من نتائج ذلك أن الكفاح المسلح تجاوز توظيفاته الوطنية (ضد العدو)، وبات له وظائف داخلية، في تعزيز قوة الفصيل المعني، وضبط العلاقات الداخلية، والقيام بوظائف سلطوية في المجتمع، حيث أتيح المجال لذلك.
وكانت النتيجة تضخّم الأجهزة الأمنية والعسكرية على حساب العمل السياسي والتنظيم الجماهيري والمشاركة الشعبية. ولا شك أن هذا الواقع في ظل تدنّي مستوى الوعي السياسي وضعف علاقات الديمقراطية والمشاركة، أفسح المجال لنمو ثقافة العنف الداخلي، وإن ظلّ هذا العنف مسيطرا عليه من فوق، أي من الطبقة السياسية السائدة في الساحة الفلسطينية، في السلطة والفصائل.
ثالثا- منذ انطلاقها غلّبت الحركة الفلسطينية اللغة الشعاراتية-العاطفية على حساب الوعي السياسي الواقعي، في حين أن قضية على مستوى كبير وعميق من التشابك والتداخل والتعقيد مثل القضية الفلسطينية، لا تحتمل مثل هذه اللغة التي تخاطب غرائز الجماهير -البسيطة والمغلوبة على أمرها وواقعها المرّ- أكثر من عقلها، والتي تخاطب رغباتها أكثر من إمكانياتها، وتقدس بذل التضحيات للسماء أكثر مما تبحث عن تحقيق الإنجازات على الأرض.
رابعا- ما يلفت الانتباه في هذه الحركة أنها نشأت منذ البداية على أساس الاعتماد على الموارد الخارجية أكثر بكثير من اعتمادها على الموارد المتأتية من شعبها، وبذلك فقد تضخمت أجهزة هذه الحركة، واعتمدت على المتفرغين (المحترفين)، وطغت على منتسبيها قيم وعلاقات المحسوبية والزبائنية على حساب القيم النضالية.
ونتيجة ذلك أن قطاعات واسعة من الفلسطينيين باتت تعتمد على هذه الحركة بدل أن تعتمد الحركة الوطنية على شعبها. وفي ذلك تعززت روح الوصاية الفصائلية وعلاقات السلطة في الساحة الفلسطينية، بدل علاقات المشاركة والتفاعل بين الفصائل والشعب.
وعلى الصعيد الخارجي فإن هذا الوضع رسخ علاقات الارتهان بين الساحة الفلسطينية والنظام الرسمي العربي، بعدما باتت المنظمة وقيادتها معنية بالتماثل معه لتعويم دورها.
وكما هو معلوم فإن هذا الوضع استمر بعد قيام السلطة التي ارتهنت لمعونات الدول المانحة لتغطية موازناتها، وضمن ذلك تغطية رواتب 160 ألفا من موظفيها في السلكين الخدماتي والأمني.
خامسا- الاختلال في موازين القوى وفي المعطيات الإقليمية والدولية لصالح إسرائيل شمل الإدارة والتنظيم، فثمة فارق هائل بين الطرفين بالنظر إلى هشاشة مؤسّسات الحركة الفلسطينية وغياب الثقة بين أطرافها، وضعف الإجماع داخلها، وتدنّي مستوى وعيها وإدراكها للتحديات التي تواجهها.
ويبدو من الأزمة الفلسطينية الحاصلة أن إسرائيل نجحت في تحويل انسحابها (أو هزيمتها) من قطاع غزة إلى أزمة للفلسطينيين، وأنها استطاعت تحويل المأثرة الفلسطينية المتعلقة بالانتخابات والديمقراطية وتداول السلطة، إلى عبء عليهم. أما في مواجهة العمليات التفجيرية فأقامت إسرائيل الجدار الفاصل، ثم عملت على تحويل قطاع غزة إلى سجن كبير.
والنتيجة أن إسرائيل تمكنت -إلى حد ما- من تجويف الحركة الفلسطينية من ناحية الجدوى السياسية، وإفراغ مضمونها كحركة تحرر وطني، مستغلة حال التخلّف في بُنى هذه الحركة وترهّلها، واختلافاتها، وأيضا تدنّي مستوى إدارتها لأوضاعها وعلاقاتها (الداخلية والخارجية) كما إدارتها لصراعاتها ضد عدوها.
ولعل هذا ما يفسّر حقيقة أن حركة التحرر الفلسطينية هذه لم تحرز النجاحات المناسبة في مجمل الخيارات التي أخذتها على عاتقها، في المقاومة والانتفاضة، وفي التسوية والمفاوضة، كما في مهمات البناء، سواء كانت مهمات بناء الثورة أو بناء الكيان والسلطة، وذلك رغم كل التضحيات والمعاناة والبطولات التي بذلها الشعب الفلسطيني منذ ما يزيد على أربعة عقود مضت.
الأسباب المباشرة
أما بالنسبة للعوامل السياسية المباشرة للأزمة فيمكن تحديدها في التالي:
أولا- غياب إستراتيجية سياسية وميدانية واضحة ومتفق عليها بين أطراف الطيف السياسي الفلسطيني لصالح التنافسات والمزايدات الفصائلية، مما أدى إلى بلبلة الشعب الفلسطيني والتشويش على قضية فلسطين على المستوى الخارجي.
ثانيا- تغييب أو تهميش منظمة التحرير، وهي الكيان السياسي والمعنوي للشعب الفلسطيني. ومع غياب المنظمة كمؤسسة، يمكن الحديث أيضا عن تغييب المؤسسة عن العمل الفلسطيني بمجمله، على مستوى المنظمة، وعلى مستوى السلطة، كما حتى على مستوى الفصائل، لصالح القيادات الفردية (الأبوات)، أو القيادات والشلل الميدانية.
ثالثا- حرمان الفلسطينيين في مناطق اللجوء من المشاركة في العملية الوطنية، أو في القرار السياسي، لأسباب ذاتية وموضوعية في آن معا، ما يشكل شرخا موضوعيا في الجسم الفلسطيني، بما لذلك من عواقب سياسية واجتماعية، وتداعيات تتعلق بالوحدة والهوية والتطور السياسي للفلسطينيين.
رابعا- إخفاق مختلف الخيارات التي أخذت بها الساحة الفلسطينية، فلا عملية التسوية نجحت ولا عملية بناء الكيان أنجزت. كذلك فإن الانتفاضة الشعبية تبددت لصالح العمليات الفدائية المحترفة (وضمنها العمليات التفجيرية/الاستشهادية وعمليات القصف الصاروخي)، وحتى هذه الأخيرة فإنها أدخلت الفلسطينيين في مواجهات غير محسوبة استنزفت قدراتهم، وهو ما حصل في معاودة إسرائيل السيطرة على المدن الفلسطينية (2002-2003) واعتداءاتها المستمرة على قطاع غزة، وضمن ذلك شن حرب على القطاع كما حدث مؤخرا.
خامسا- انقسام الساحة الفلسطينية بين تيارين: أحدهما يمثل الوطنية السياسية (تقوده حركة فتح)، والثاني يمثل الإسلام السياسي (تقوده حركة حماس).
سادسا- المبالغة في ظاهرة عسكرة المجتمع، في وضع باتت فيه المليشيات الميدانية تتحكم بالشارع وبتوجهاته، وتقود عصبياته وتحسم في خلافاته.
سابعا- تفشي علاقات الفساد والمحسوبية في كيان السلطة التي لم تنجح في بناء مؤسسات الكيان ولا في جلب التسوية، مع تعزّز الأنشطة الاستيطانية ومصادرة الأراضي وتهويد القدس، الوضع الذي قوض صدقية السلطة.
رؤية نقدية أو ما العمل؟
على ذلك لم يعد كافيا توصيف أوضاع الساحة الفلسطينية بمصطلح الأزمة فقط، فهذا التعبير ربما بات يدخل في باب المجاملات السياسية، والمصطلحات المواربة، والأغراض الحاجبة، لقصوره عن مقاربة واقع الحال في هذه الساحة.
والحقيقة المرّة التي ينبغي التصريح بها هي أن وضع الساحة الفلسطينية على صعيد القضية والشعب والحركة الوطنية يكاد يقارب حد الانهيار الذي يطال بنى هذه الساحة، أي المنظمة والسلطة والفصائل، بدليل تراجع مكانتها التأطيرية والقيادية في المجتمع الفلسطيني، وبدليل التضاؤل الكبير في دورها وقدرتها على المضي بمشروعها الوطني، إن بالنسبة لبناء الكيانية الفلسطينية أو بالنسبة لمشروعها كحركة تحرر في مواجهة مختلف تجليات المشروع الإسرائيلي.
ومن مراجعة العوامل العضوية والسياسية يمكن القول بأن الساحة الفلسطينية بحاجة إلى مراجعة نقدية جدية ومسؤولة لشعاراتها وبناها وأشكال عملها. هكذا فإن مجرد الحديث مثلا عن استعادة الوحدة الوطنية، أو توحيد شطري الكيان الفلسطيني، وتفعيل أطر منظمة التحرير، ومغادرة عملية التسوية، لم تعد -على أهميتها- تكفي لإعادة استنهاض حال الفلسطينيين.
بمعنى آخر، فإن المطلوب إعادة تأسيس الحركة الوطنية الفلسطينية على مرتكزات جديدة، بالاستفادة من التجربة الماضية، وبالأساليب الديمقراطية، وبالحفاظ على واقع التنوع والتعددية في الساحة الفلسطينية، بعيدا عن علاقات الهيمنة والاحتكار والإكراه والقوة من أي طرف كان.
الآن، ليس القصد من هذا الكلام إشاعة نوع من التشاؤم بشأن التقليل من الجهود المبذولة لحل الأزمة، ولكن القصد من ذلك التأكيد على ضرورة وضع الأسس اللازمة لتخفيف هذه الأزمة وتجاوزها، أو على الأقل وضع الأسس المناسبة للتعايش معها بروح من المسؤولية الوطنية.
وفي هذا المجال فإن الفلسطينيين معنيون في هذه المرحلة بالاتفاق على ثلاث قضايا: توضيح خطابهم السياسي، وتعيين إستراتيجيتهم النضالية، وتحديد شكل علاقاتهم الداخلية.
في الجانب الأول وبغض النظر عن مشروعية الطموحات الوطنية وعدالة القضية، فإن المرحلة السياسية الراهنة بمعطياتها الدولية والإقليمية والفلسطينية أيضا، تفرض على الفصائل التوافق (أقلّه) على إستراتيجية سياسية قوامها دحر الاحتلال وإقامة الدولة الفلسطينية.
لكن ما يجب أخذه بعين الاعتبار ضرورة عدم الانحصار بخيار واحد وحيد، أي خيار الدولتين، لأن هذا الهدف لا يقدم شيئا ملموسا على صعيد حل قضية اللاجئين، ولا يسهم في توليد رؤية سياسية تساهم في تعزيز وحدة الشعب، وطرح تصورات لمستقبله السياسي ومستقبل المنطقة.
ومعنى ذلك أنه ينبغي توسيع هدف الدولة المستقلة، وفتح آفاق جديدة لنضال مستقبلي يسهم في استعادة الحقوق الفلسطينية، بطرح حل وطني ديمقراطي علماني للقضية الفلسطينية، على شاكلة حل الدولة الواحدة (ثنائية القومية أو دولة المواطنين).
في الجانب الثاني المتعلق بوسائل النضال فإنه من الخطورة بمكان تقديس شكل نضالي بعينه، كما أن ثمة خطورة من إظهار الفلسطينيين العّزل من السلاح وكأنهم قوة عسكرية، بدلا من إظهارهم على حقيقتهم بوصفهم شعبا يخوض معركة التحرر الوطني وضحايا لاستعمار إسرائيل وإرهابها وعنصريتها.
فمع تأكيد مشروعية النضال بكافة الأشكال وضمنها المقاومة المسلحة ضد الاحتلال، فإن الفلسطينيين معنيون بدراسة جدوى أشكال النضال التي يخوضونها والتي تمكنهم من الاقتراب من أهدافهم وتحقق التكامل مع إستراتيجيتهم السياسية.
أما بالنسبة للعلاقات الداخلية وقضايا الإصلاح وهي الجانب الثالث، فثمة مشكلات كبيرة نابعة من طريقة إدارة القيادة الفلسطينية (قيادة منظمة التحرير والسلطة) للوضع ومن طريقة عمل المنظمات، الأبوية والسلطوية، وهي بحاجة إلى مراجعة للتخلص من العقلية الفردية والمزاجية، والتوجه نحو صياغة جديدة للبنى والمؤسسات والعلاقات الفلسطينية، بحيث تحترم النظم والقوانين والأطر الشرعية وتكرس العلاقات الديمقراطية، والتعددية، والقيادة الجماعية، والمؤسسية، على مستوى المنظمة والسلطة والمنظمات.
الجزيرة نت

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى