فتنة الشََّعر
بثينة سليمان
لم يتطلب الأمر وقتا لأصل إلى اقتناع مفاده أن الصورة التي تتشكل في المخيلة للأشخاص هي الأصل وهي التي تشحذ رغباتنا بقوتها ومدى استمراريتها. لا يعود الحبيب هو الذي نراه بل صورته التي نحفظها وتزيد من حلاوتها. رأيت شاباً هنديا منذ أيام فتن حواسي على نحو مفاجئ، بذلك العناء الذي بذله حتى يتجلى على صورته التي لم تبارح مخيلتي. كان شعره أسود داكنا وسميكا، يلمع بشدة بسبب الزيت أو الكريم الذي دهنه به. كان قد سرّح شعره وجعل له فرقا في المنتصف، فظهرت موجتان من الشعر اللامع السميك إلى اليمين واليسار تمتدان لتصلا إلى خط الشعر عند أسفل الأذنين حيث تتشابكا وتموجات صغيرة من الشعر تلفّ عنقه لتزيد من جمال تسريحته.
لم تستطع عيناي تجنّب ذلك اللمعان. أعرف أن شعر حبيبي فاتح وناعم. أحيانا أشعر بأنني أمسد شعر طفل صغير يستسلم لأناملي التي تبدأ رحلتها من هنا إلى مساحات الجسد الشهي. تجذبني لكنته وأنا أراقب الشفتين الرقيقتين وأرى عينيه الصغيرتين تبثان طفولة آسرة تثير شهيتي فلا تنتهي رحلة التمسيد عند طرف.
طالما اقترحت عليه أن يغيّر من قصة شعره. أن يقصّه قصيرا جدا، وبالقليل من “الجل” ينتصب شعره الفاتح مثل أعشاب برية تتفرق هنا وهناك فتزيد من شقاوته ووسامته. أحب أن ألامس هذه الأطراف الهشة وأن تتغلغل أناملي لأصل الى منبت الشعر. حينذاك ألامس جلدة الرأس فأتشمم رائحة حبيبي من دون معطرات. لن يطول به الوقت حتى تظهر صلعته كبيرة. أحرص في كل مرة نلتقي أن أمسد هذا الشعر وأن أتحسسه أو أن أنقضّ عليه فأحاول اقتلاعه. لكن صورة الشعر الرقيق التي تملكت خيالي اهتزت مع الكثافة والسماكة اللتين يحملهما شعر الشاب الهندي. فتنتني صورة الموج الأسود، وهذا اللمعان الشديد، وهذه الكثافة.
كان صباحا عاديا وكنت صحبة طيف الحبيب، أمشي وأتابع الأرض الإسمنتية المشبعة بالماء، تصلني رائحتها الممزوجة بالرطوبة والغبار. هي رائحة أحبّها. ثم ظهر قبالتي ذلك الشاب الهندي، المتوسط الطول، الفتي الجسد، العفي الهمة، بشوشاً. شدّتني تلك البشاشة، فراحت عيناي تتابعان بدهشة هذا الجمال المختلف كليا عن جمال حبيبي. حين تقابلنا وبتنا في أقرب نقطة تجمعنا لمرة واحدة وأخيرة، خرجت مني “Hello” طويلة ورأسي يميل إليه. كيف حملتني شياطيني أن أبثه غزلا واضحا لا أخجل منه ولا لبس فيه. أردت أن أحيي هذه الخصلات المتموجة، أن أشبع عيني من الشعر الكثيف والجميل، أن أحرره من الزيوت، لينساب بين كفيَّ. كانت رغبتي قوية أن أتعلق بهذا الفتى وأغرز أناملي في عتمة ليله الذي يغطي رأسه، وأن أغيّب وجهي في طياته السميكة، وأن أتيه عن صباحي، وأن أنسى حبيبي وخصلاته القليلة الناعمة.
ثم جاء صوته وهو يرد تحيتي بسعادة كبيرة وبدهشة لا تقل عن دهشتي.
أكملت طريقي وتابعت بعينيَّ الأرض الإسمنتية. عادت رائحة الماء المشبع بالرطوبة وبوادر الصيف تملأ رئتي وصورة حبيبي بشعره الناعم تصحبني على الهيئة التي أحبها.
عدت إلى فكرتي وإلى الصورة التي علقت في مخيلتي وإلى المشهد الذي هزّ صورة الحبيب، لأكتشف تلك النزوات التي تنتابني أن أحب رجلا من صنع أناملي، شعره يشبه شعري وفتنته تحرر شياطيني.
النهار