صفحات ثقافية

لـم ينقـرض العـرب والثقافة العربية تقاوم

null
فواز طرابلسي
ليست المناسبة مناسبة لإطلاق شعارات، انما هي توكيد يلبي ضرورة الرد على ما يشوه ويظلم.
نقلت «وكالة فرانس برس» في 28 نيسان الجاري ان الشاعر ادونيس في محاضرة له امام «عدد كبير من المثقفين الاكراد» نفى ان يكون وصف الحضارة العربية بأنها «جثة نتنة»، لكنه اكد ما يعادل ذلك اذ قال «ان الحضارة العربية انقرضت والعرب ينقرضون». ورجا ان لا تصيب عدوى العرب الوسط الثقافي الكردي.
لم نلق ما يبرر الحكم بالاعدام على حضارة وشعب الا قول الشاعر ان الثقافة العربية «ثقافة مؤسساتية وليست ثقافة حرة ومستقلة»، وتبرمه من مزج الدين بالسياسة، الذي دفعه الى ترك العمل السياسي، حسب قوله.
الحال ان الثقافة العربية المعاصرة، مثلها مثل أي ثقافة اخرى، تحتوي ثقافة سلطوية وثقافة في خدمة السلطات، وادونيس لم يكن دائما بعيدا لا عن هذه ولا عن تلك. وهي تحتوي في المقابل على ثقافة حرة مستقلة ومقاومة (وهي ليست تماما «ثقافة المقاومة» التي يتحدث عنها البعض). طبعا، السؤال هو دوما عن منسوب هذا اللون الثقافي وذاك من الثقافة الاجمالية. مهما يكن من امر النسبة، نستطيع القول ان نقطة الضوء في الوضع العربي الراهن، الذي يرزح عليه الاحتلال والاستتباع والقمع السلطوي والاستغلال الاقتصادي والطغيان النفطي على الاعلام والثقافة، هو النزر اليسير من انتاجه الثقافي، المستقل عن السلطات وعن الاصوليات السياسية الدينية معا، الذي يوسع في آفاق الحرية والامل.
المدهش ان عين الانا المتضخمة لا تستطيع ان تلاحظ ما بات يشكل فورة ثقافية مقاومة ومعارضة، تستطيع ان تتبينها من الاصغر عمرا بين كتّاب الـ«بلوغ» على الانترنت (بعضهم في السجون، والبعض يحرك الملايين للنزول الى الشارع) الى اخر رواية نسائية ضد الطغيان البطريركي والذكوري في الجزيرة العربية. ولا ترى عين الانا المتضخمة العدد المتسع من المثقفين يقبعون في السجون، بما فيها سجون بلده سوريا، لانهم يرون الى الثقافة على انها «وجهة نظر» ولانهم يقاومون «السلطات» ولا يرتضون الاذعان لوزارات الثقافة وينادون فوق ذلك كله بفصل الدين عن الدولة.
«العرب»: استخدام للجنس ينتمي الى استشراقية ذاتية تزعم امكانية تنميط 300 مليون إنسان في نمط واحد وجوهر واحد وثقافة واحدة، فيه من الاطلاق الصبياني ما يدعو الى التقزز. فكيف لهذا الاستخدام ان لا يقع في عدمية خالصة وعبثية. والعدمية عند ادونيس مفرد بصيغة الجمع، تنم عن تيار يتسع في صفوف انتلجنسيا الردة العرب. هو تيار قوام مصاب بمرض عضال يمكن تسميته «الغراب»، وهو لون غريب من الهوس المرضي بالغرب، يتساوى فيه هؤلاء المثقفون تماهيا مع ذاك الغرب او نفورا منه وكرها له.
يقول ادونيس: نخطئ اذ نقارن اوضاعنا بأوضاع الغرب.
من قال ان علينا ان نقارن انفسنا بالغرب اصلا؟ ان منطق المقارنة هذا هو ابن ثقافة «حداثة الحسد» التي لم تورثنا الى الان غير شهوة استهلاك ما ينتجه «الغرب» وخيبات التماهي معه والمراوحة في امكنتنا بانتظار حداثة تأتينا من الخارج فوق دبابات الاحتلالات، ناهيك عن الديموقراطية. فماذا لو قارنا أنفسنا بأنفسنا، مثلا، فنقيس ما اذا كنا نتطور او لا نتطور، قياسا على ما كنا عليه من قبل وعلى ما وضعناه من خطط وأهداف وسعينا الى تحقيقه من مصالح وامال وطموحات.
مهما يكن، فأدونيس، الذي ينهي العرب عن قياس أنفسهم بالغرب، هو نفسه لا يملك من مقياس الا المقارنة… بالغرب. ها هو يسأل، في محاضرته اياها، ما قد كرره علينا حد السأم: «لو اجتمع الأميركي والأوروبي والعربي على سبيل المثال الى طاولة واحدة ترى ماذا يمكن ان يقدمه العربي؟ لا شيء».
لا. يستطيع العربي ان يقدم الكثير والكثيرين. في الثقافة، طالما ان هذا هو الحقل المعني، يمكن العربي ان يقدم الشاعر علي أحمد سعيد، الملقب بـ«أدونيس»، وإن يكن لم يعد غزير «الابداع» (كلمته الاثيرة) في الآونة الاخيرة. ولعل لذلك صلة ما بانقراض «حضارته». وله ان يقدم معه، ان لم نقل قبله، كوكبة من الشعراء والادباء في المقدمة منهم محمود درويش وسعدي يوسف ومحمد الماغوط وقاسم حداد وعبد اللطيف اللعبي. ومن الروائيين، نجيب محفوظ وعبد الرحمن منيف وصنع الله ابراهيم وجمال الغيطاني والياس خوري وليلى بعلبكي وحيدر حيدر وسليم بركات والطاهر وطار ورشيد ابو جدره وغادة السمان، على سبيل المثال لا الحصر من ابناء الجيل المخضرم. ومن الكتاب في اللغات الاخرى، ادباء الثورة الجزائرية محمد ديب وكاتب ياسين ومولود فرعون واتيل عدنان وامين معلوف ودافيد معلوف وربيع علم الدين وغيرهم. ولا اتردد في ان اضيف اليهم شاعر كرد العراق الكبير شيركو بيكه س، لا من اجل تعريبه وانما توكيدا على ان العالم العربي ليس حكرا على جنس او اثنية او قومية او دين او مذهب وانه يتسع لكل مكوناته، والاهم من ذلك للتذكير بأن الثقافة العربية المعاصرة، مثلها مثل الحضارة التي تنتسب اليها، اغتنت وتغتني من روافد من كل مكوناتها ومن كل من جاورها او تفاعل معها من الشعوب والثقافات والحضارات المجاورة.
آثر ادونيس في محاضرته التملق للكرد للتملص من تهمة تلاحقه بمهاجمته الشعب الكردي، بهجاء ذاتي للحضارة التي ينتمي اليها. وكان الاحرى به ان يحفر في العمق في ما بين العرب والاكراد من تاريخ مشترك وثقافة مشتركة ومصير مشترك.
وللمناسبة، لو ان الشاعر ادونيس يصدر عن حضارة تنقرض، وقوم منقرضين، لماذا يقدم نفسه باسم هذه وذاك، الى العالم مرشحا محترفا لجائزة نوبل للآداب؟ ولماذا قدم ويقدم في سبيل نيل تلك الجائزة عددا لا متناهيا من التنازلات السياسية البشعة وغير الضرورية، كمثل ان يوقّع عرائض مشتركة مع المنافق الصهيوني العالمي إيلي فيزل (وعالميته في النفاق لا في الصهيونية، منعا لأي التباس!)؟ ام ان صاحب «اغاني مهيار الدمشقي»، بعد جولات وجولات فاشلة في نيل الجائزة، قرر ان «يلصق آخر طينة في جدار» هيئة تحكيم الجائزة، فيرمي لها بـ«الصولد» الثقافي ناعيا انقراض «حضارته» والشعب الذي ينتمي اليه!
على حد ما نعلم، تمنح هيئة تحكيم جائزة نوبل جائزتها لا تكريما لاديب وحده بل للثقافة التي يصدر عنها، وتقديرا لدور ذاك الاديب في احياء تلك الثقافة وتطويرها، ناهيك عن اسهامه في الثقافة العالمية. فلو قررت اللجنة منح جائزتها للعام المقبل الى ادونيس، ترى كيف لها ان تبرر قرارها؟
السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى