غناء أيار
صبحي حديدي
دشّن يوم الأوّل من أيار (مايو) ذكرى المئوية الأولى لولادة الشاعر اليوناني الكبير يانيس ريتسوس (1909 ـ 1990)، الذي أعطى الشعر اليوناني، والإنسانية جمعاء، حفنة من القصائد الخالدة، الرفيعة في التزامها بقضايا الحقّ والحرّية والجمال، الجسورة تماماً في خياراتها الفنّية الطليعية أو التقليدية، والمنصتة عميقاً إلى أصفى ما تختزنه النفس الإنسانية من مزيج الغنائية والشجن، الفرح والرثاء، والحسّ والتأمل. ولعلّنا نتذكّر، على الفور، أن ريتسوس كان أوّل مَنْ استخدم تعبير ‘الملحمية الغنائية’ في توصيف شعر محمود درويش، من باب امتداحه، هو اليوناني العريق الذي كان يدرك أقدار اقتران الملحمة بالغناء، في حياة فلسطيني كُتب عليه أن يكون بطولياً كلّ يوم، شاء أم أبى، وأن يعيد إنتاج ولادته الإنسانية المحضة كلّ يوم أيضاً.
كذلك نتذكر أنّ قصيدة ‘شاهدة’، وهي واحدة من أبكر وأبهى قصائد ريتسوس الطويلة، كانت قد استثمرت عدداً من أشكال الشعر الشعبي الغنائي، وحرّكت شرارة ثورة ثقافية عارمة في اليونان مطلع الستينيات، خاصة بعد قيام الموسيقار الكبير ميكيس ثيودوراكيس بتلحينها، من منفاه في باريس آنذاك. وكان ريتسوس قد تعمّد اختيار شكل إيقاعي تقليدي في بعض تفاصيله، رغم أنّ الميل الجمالي العامّ ـ في اليونان، وفي العالم أيضاً ـ كان أقرب إلى التجريب والتطوير وتثوير أشكال الشعر بصفة خاصة. ‘أردت من خلالها أن أحصّن روح شعبنا، وأن أشدّد على هويته الوطنية، من خلال اختيار أوزان تقليدية’، قال ريتسوس سنة 1978، مستذكراً أنّ القصيدة ألحّت عليه في أيار (مايو) 1936، وهو يرقب مشهد أمّ تبكي ولدها المضرّج بدمائه على الاسفلت، في أحد شوارع ثيسالونيكي، خلال الإضرابات العمالية وحركات الإحتجاج الشعبي. ولم يكن غريباً أنّ القصيدة تعرّضت للإحراق العلني في الساحات والشوارع، على يد زبانية الجنرال ميتاكساس وطغمته العسكرية الدكتاتورية.
هذه السطور تحية عابرة لذكرى ريتسوس، بالطبع، إذْ يضيق المقام عن توفير مقدار الحدّ الأدنى في تثمين تجربته الشعرية الفذة، وإنْ كان يسمح ببعض الإستفاضة في وضع تلك التجربة ضمن النطاق الأعرض لتراث الشعر الغنائي في اليونان الحديثة، والمعاصرة. فالموضوع الغنائي عند جورج سيفيريس (1900 ـ 1971، نوبل الآداب لسنة 1963) يأخذ صيغة صراع بين المعنى واللغة، من أجل تثبيت القصيدة المكتوبة باللغة الشعبية، المنطوقة في الحياة اليومية للبشر العاديين، الطيّعة أمام غنائهم ورقصهم وأساطيرهم. وهذه اللغة العامية جزء من اليونانية المحكيّة، وقد تنامت واغتنت وتطوّرت على الدوام، حتى باتت لغة الكلام والكتابة عند شعراء كلاسيكيين كبار، من أمثال ديونيسيوس سولوموس ويانيس مكريانيس.
وليس الأمر أن سيفيريس كان أوّل من استخدم اللغة الشعبية لكتابة الشعر في الأدب اليوناني الحديث. نعرف، مثلاً، الكثير من القصائد ذات اللغة الفولكلورية الغنائية عند قسطنطين كافافيس، وعند معاصري سيفيريس من أمثال كوستيس بالاماس، أنجيلو سيكليانوس، وكوستاس كاريوتاكيس. سيفيريس امتاز على هؤلاء في أنه استخدم اللغة الشعبية من أجل ابتكار الصوت الحيّ القابل للغناء في قصيدة رفيعة الأسلوب، دون التضحية بالموضوعات المعقدة، والهموم الوجودية، وربما حتى الأزمات الميتافيزيقية والروحية. كان سيفيريس يبحث عن ‘صوت أوضح، وأنقى، وأبسط’، وكانت الأغنية تستولي عليه وسط هذا البحث الشاقّ عن العلاقة بين الكلمة والصوت، وبين الشعر والموسيقى.
والموضوع الغنائي أساسي عند شاعر يوناني كبير آخر هو أوديسيوس إيليتيس (1911 ـ 1996، نوبل الآداب لسنة 1979)، امتدت حياته على معظم عقود القرن العشرين، وكان بين آخر كبار حداثيي القرن، ولعلّه صنع في اللغة اليونانية ما صنعه دانتي في اللغة الإيطالية. وقصيدته العظيمة Axion Esti، التي يتكئ عنوانها على عبارة ‘جدير بالوجود’، المستمدة من طقس ديني بيزنطي عتيق، تنبض باللغة الحديثة الحيّة، ولكنها تستحضر صفحات حافلة من التاريخ الإغريقي، وتعبر الجُزُر والمناظر الطبيعية والحقول والأقاليم، قبل أن يتحوّل مزيجها الساحر إلى أغنية واحدة طويلة، طافحة بالموسيقى والشجن والكبرياء.
ولا بدّ أن ثيودوراكيس وقع تحت سحر هذه القصيدة الغنائية الكبرى، بدورها، حين استمدّ منها مقطوعات موسيقية، وأغنيات مؤداة على أنغام البوزوكي، وترانيم بيزنطية، وإيقاعات رقص فولكلوري، وموسيقى كلاسيكية أيضاً. وبسبب من شعبية هذا العمل (الذي قُدّم في مناسبة حصول إيليتيس على جائزة نوبل)، فإن قلّة فقط من اليونانيين لم يحفظوا عدداً من أبيات القصيدة، أو أنغامها، لأنها نموذج فريد على نصّ يمكن أن يجمع مختلف أساليب الشاعر، والكثير من أساليب ثقافته الوطنية، وأساليب عصره، دفعة واحدة. ونحن هنا أمام الغنائية الحارّة التي طبعت منطقة بحر إيجة وميّزت أعمال إيليتيس الأولى، وأمام اكتئاب سيفيريس، ونزق كافافيس. ونحن نتذكّر غنائيات سافو، وملحمية هوميروس، وترانيم الكنائس، والأغنيات الشعبية، والإيقاعات الراقصة…
وكنت أشاكس محمود درويش هكذا: دعك من صاحبك ريتسوس، فأنت أقرب إلى سيفيريس وإيليتيس! ولكنه كان يعرف، كما كنت لا أجهل بالطبع، أنّ وقائع مماثلة لما شهدته شوارع ثيسالونيكي، أوّل أيار (مايو) 1936، تكرّرت وتتكرّر في مدن وبلدات وقرى فلسطين المحتلة، أشدّ بربرية وأفظع همجية، ولم يكن في وسع درويش أن يزعم رفاه النأي البعيد عن خيارات صاحبه، في أخلاق الشاعر قبل جماليات الشعر.
خاص – صفحات سورية –