لماذا 1 أيار / مايو..؟
فاضل الخطيب
8 ساعات عمل، 8 ساعات راحة، 8 ساعات تسلية.. ماذا يعني 1 أيار في القرن 21 ؟..
أكثر من مائة مرة توقف دولاب العمل في الأول من أيار في عشرات – وربما في مئات الدول، توقف دولاب العمل كي ترتفع قامات العمال، كي ينظرن في عيون مضطهِديهم بدون خوف، لهذا السبب تركوا أدوات عملهم في هذا اليوم كي يستطيعوا الإمساك فيها أفضل.. لكن عمال سوريا ارتاحوا، ومرحوا وتمددوا في هذا اليوم، فهو يومهم، ولم ينسوا رفع اللافتات التي يوزعوها عليهم ، أما الشعارات فقد حفظوها كما حفظناها نحن هنا في الغربة عن ظهر – وبطن – قلب..
ويمكن أن يصادف الأول من أيار، في 6 منه – وهذه الـ 6 تذكرنا بالسفاح جمال باشا – ومن أجل كلمة السفاح وحرصاً على علاقات حسن الجوار مع الحديقة الخلفية الشمالية للوطن قمنا بتعليق ذكرى شهداء 6 أيار من أجل قضية اسكندرون.. ويمكن أن يكون عيد العمال في 7 مايو أو 9 مايو عيد الانتصار على الفاشية والنازية ـ تعبير الفاشية في سوريا الأسد خط أحمر ـ…
الشيء الأكيد أن عيد العمال في سوريا قبل ظهور اللواء حافظ الأسد وزير الدفاع ـ ونعم الدفاع الوطني ـ كان يختلف عنه الآن، على الأقل خريطة سوريا تغيرت سواء في الشمال أو الجنوب..
ولكون عمالنا ومع كل شعبنا يعيشون في بلدٍ “إشتراكي” لذا سنتذكّر مقدمي الأخبار”جماهير غفيرة انطلقت في مسيرات في مختلف مدن القطر”.. طبعاً المدارس لم تكن خارج الطقوس، وينظم الأول من أيار كغيره من الأعياد، بمنتهى الدقة والنجاح، كحسابات مهندسين دقيقين أمام مخططاتهم الفنية..
والحقيقة أن الأول من أيار هو تاريخٌ يشير بوضوح كم هو أخلاقي ونزيه، يشير إلى فكر وأخلاق وروح “شعب”، لكن مع الأسف مثل كل الأشياء الجميلة تمّ تشويهه في بلدي، في وطني سوريا، صار يوماً مثل أيام الوطن تابعة وملحقة لأيام “أمجاد” رأس النظام، صار واحد أيار هو احتفال بالحركة التصحيحية المباركة، صار امتداداً لعطاءات القائد، صار يوماً لتجديد البيعة…
في المعامل حيث أصحاب العيد والمكافآت وزيادة الأجور، اللوائح ونقابات السلطة.. إنه يوم عطلة إجباري، لكنه عملياً فقط الإنتاج توقف وليس العمل.. إن الاحتفال بأي عيدٍ في سوريا بشكل حر هو شيء من النكتة، ولا يخرج عن هذا حتى أعياد الزواج..
والأول من أيار لا بدّ أن يذكّر بما كان يسمى “السبت الشيوعي” في الدول التي كانت تسمي نفسها “إشتراكية”، والذي كان من الناحية النظرية يوم عمل شعبي تطوعي مجاني، لكنه كان يكلّف الدولة أكثر من المردود بكثير – لأنه للاستعراض..
هذا كان في الماضي عندما كان إجباري في الأنظمة التي حكموها باسم العمال، أما عندنا في سوريا حيث يحكم فعلياً، العمال والفلاحون، والمثقفون الثوريون، والجنود العقائديون، ويحكم كذلك صغار الكسبة وذوي الدخل المحدود، وكل النساء والشباب، طبعاً لم ننسى أن الأطفال الذين سيولدون أيضاً هم جزء من الحكم، كما كان أطفالٌ قبل قرابة أربعين عاماً وقبل ولادتهم ـ كانوا جزءً من الحكم، وللتذكير فقط أن حزبين شيوعيين عمر الواحد منهم ثمانية عقود يشارك في الحكم ومنذ أربعة عقود بسبب صمود وممانعة الأسرة التي نذرت نفسها وأبت إلاّ أن تخدم كل الأسر العمالية في وطننا..
محظوظ الأول من أيار لأنه بَعيدٌ قليلاً عن ميلاد الحزب القائد، بَعيدٌ عن الحركة التصحيحية المباركة، بَعيدٌ عن يوم الجلوس المقدس، وبَعيدٌ عن عيد طهور مولانا الرضيع – ولي عهدنا وأملنا..
محظوظ الأول من أيار، وليس مثل المسكين ـ قليل الحظ عيد الجلاء، والذي يرفض إلاّ أن يكون قريباً من عيد ميلاد الحزب القائد، حيث كان كاليتيم على مائدة “الكريم”، عندما جمعوهما في هنغاريا و”طقعوا” عيد واحد للحضور الكريم..
وهل يحق لنا السؤال أيكون واحد أيار نصف عيد، في عصر الكسور؟..
الأول من أيار يبقى شامخاً وحيداً وربما “ذليلاً”، صحيحٌ أن اللافتات والشعارات تكون “مجعلكة شوية” من الاحتفالات ومسيرات التضامن والاحتجاج والابتهاج، لكن الخطابات تكون طباعتها جديدة وغير “مجعلكة” احتراماً للعيد..
في هذا العالم الذي تتشوّه فيه صورة الحياة أكثر، تتشوّه فيه الرؤية أكثر، هذا العالم مليءٌ بقصر النظر. لهذا يجب على المعارضة الوطنية، أولاً تنظيف الطريق التي تعيق المعرفة، التي تعيق التفكير، التي تعيق الرؤية.. حواجزٌ عديدة على طريقنا أشبه ما تكون بالحواجز القائمة الموضوعة بيننا وبين الوطن المحجوز..
الشيء المخيف اليوم أن معاناة الوطن بما يمثله من إرث مادي ومعنوي، أصبح يعيش في خطر أكبر مما كان أيام الاستعمار، وأي جانب من جوانب الحياة الاجتماعية أو الاقتصادية أو الأخلاقية أو غيرها، يعطي الأمثلة التي تؤكد ذلك..
إذا استعرت هذا المصطلح الذي صار عندنا يمثل القمع، مصطلح – التصحيح -، لكن بشكل صحيح، يمكن القول أن تجمعات المعارضة الوطنية السورية بحاجة إلى تصحيح في الفكر والممارسة، بحاجة إلى حوارات جدية بعيدة عن التشنج والابتذال، بعيدة عن ابتكار حجج واهية لرفع أعلامها البيضاء..
من أول مطالب 1 أيار كان 8 ساعات عمل، أما اليوم يعتبر من المطالب التي يسعى لتحقيقها العامل أن يحصل على بضع ساعات عمل أخرى – طبعاً إذا كان عنده عمل -..
بعد هذه المقدمة والتي هي أطول من الموضوع ذاته، قد يكون مشروعاً السؤال التالي: هل نحن بحاجة إلى الأول من أيار؟
وقبل أن يبدأ أهل الدار – دار الإيمان – بشحذ القشرة المخية الرمادية – قد تكون حمراء مخملية -، المهم يجب التأكيد أن ذلك لا يغيّر موقفي القريب من العمال والمدافع عن حقوقهم..
ومما لا شك فيه أن بعض أهل الدار يستطيعون التنظير عن الأول من أيار وبنفس الهمّة الثورية عن 8 آذار أيضاً، ولكل مقامٍ رومانيّ بروليتار، قد يكون البعض لا يتقن أكثر مما أتقنه البروليتاري في ذلك العصر الإغريقي والروماني..
والحقيقة أن الأول من مايو عيدٌ قديمٌ من قَبل الميلاد ـ حسب باحثي التاريخ ـ، ويعود للرومان القدماء ويمثل بركات آلهة الأرض المعطاءة ” مايا “، وقدموا حينها الأضحية في هذا اليوم كبداية لموسم احتفالاتهم في الطبيعة الخلابة..
والكنيسة اعتبرته أيضاً عيداً للعمل والعمال، وربطته باسم القديس يوسف النجار – الزوج الرسمي لمريم العذراء -..
وعاد من جديد، لنحتفل بالعمل والعمال، أيار/ مايو، هو زقزقة العصافير وتغريد الطيور، هو الأشجار المزهرةٌ، هو الشباب العاشق. ألوان الربيع وعطر الكون، بهجة الطبيعة الأم. هو عمال وطني وعمال العالم، أيار، هو هذا الجمال الذي تُكرّمنا فيه الطبيعة، وصار أيضاً رمزٌ لصراع الطبقات كما وصفوه منظري الحركة العمالية العالمية..
تغيّر العالَم في العاَلَم، تغيّرت الشعارات، الثياب، الأغاني، الرقصات والموسيقى، وتغيّرت الناس أيضاً، إلاّ أنتِ يا سورية عصيةٌ على التغيير.. فقط الأول من مايو/ أيار لم يتغيّر، قديمٌ ـ جديدٌ يحمل النشوة، معطاءٌ كالآلهة ” مايا “..
وعيد العمال مرتبط قبل كل شيء باليسار بشكل عام، ولقد كان من أسباب تراجع نفوذ اليسار في أوربا وانحسار تأثيره الاجتماعي، هو التناقض بين الطبقة العاملة وبعض المجموعات المضطَهَدَة الأخرى وعدم قدرتهم على هدم الهوّة ومحاولة استيعاب وفهم التطورات الحاصلة. بين البيض والملونين، بين العاملين والعاطلين عن العمل، بين الشباب والمتقاعدين، بين أبناء البلد والمهاجرين الأجانب، بين العمال المهرة وغير المتخصصين، بين المسحوقين هنا والمسحوقين هناك، بين العمل التقليدي والعمل عن بعد(بالانترنت)….
لم يستطيعوا النضال معاً ضد مستغِلِيهم، أو كانت نتائج نضالهم المبعثر مبعثرة هي أيضاً، كان انقطاع للنخبة اليسارية – الممثلة في البرلمان مثلاً – عن القاعدة العمالية فعلياً، ولم يعد هناك تواصل مباشر..
وبالنسبة لنضال النقابات، فهو مقتصرٌ على أعضائها، وفي أحسن الأحوال على المصالح القريبة منها، وبهذا تكون ذات نشاط ضيق محدود، ويزداد عدم الاهتمام بباقي الفئات المضطهَدَة، كذلك الأمر بالنسبة للموقف من المهاجرين والأقليات الاجتماعية، والذين هم أصلاً جماهير اليسار، لكنه يخسرهم ويبتعدون عنه..
اليسار الذي اعتاد الدفاع عن العمال، إما هو في دور المعارضة البرلمانية وتأثيره محدود، أو اضطر إلى تقديم تنازلات أمام القوى اليمينية من أجل البقاء – أو المشاركة في السلطة.. وبالتالي بقي شيءٌ واحدٌ، أن الرأسمالية هي التي تساعد..
لهذا نجد اليسار قد صار يحتضن المحافظين والليبراليين وكثير من أفكار القوميين اليمينيين، وبالمقابل يتناسى أن المحافظين والقوميين هم أساساً يمينيون وأقرب لليمين منه لليسار..
وإن نظرة متفحصة لتاريخ الحركة العمالية في القرن الماضي وما قبله، تبيّن أن التعصب القومي كان من كبار أعداء الشغيلة..
لهذا نرى أن اليسار الأوربي في حالة دفاع ويحاول تحصين خطوط دفاعه فقط، ويحاول الدفاع عن المكتسبات الاجتماعية التي تحققت، إنه عاجزٌ أمام الثورة التي لا يمكن تسميتها صناعية، ثورة المعلوماتية والاقتصاد والمال العابر للقارات..
اليسار بحاجة إلى إعادة بناء، وإعادة البناء تحتاج إلى قيم الثورة، وشروط الثورة التقليدية غير متوفرة أبداً، خصوصاً أنه لا يوجد ثوريين، وعقدة ربطات عنقهم مشدودة جيداً، وغالباً تضيق أو تتسع حول العنق حسب الظرف، وطبعاً استحضار شروط القرن التاسع عشر والعشرين – الماركسية اللينينية – الخاصة بالثورة ما عادت ممكنة وما عادوا يفكرون فيها، لأنها ما عادت الحل في هذا العصر وتخطاها الزمن، وحتى الذين يتباكون على ما سميّ “النظم الاشتراكية”يدركون أنه لو عاد ماركس من جديد فالأرجح أنه يسميها نظم “رأسمالية الدولة” وليس إشتراكية، تلك الأنظمة سقطت أخلاقياً واقتصادياً واجتماعياً، ولم تجد من يرفع إصبعه للدفاع عنها من الشعب، لقد كانت اشتراكية للفقر وللأمن..
ونعرف جيداً أن البروليتاريا البولونية كانت أول من انتفض ضد ما سميّ زوراً نظام إشتراكي عمالي، لأنه لم يكن للبروليتاريا من مكافأة فيه سوى البؤس والقضاء على استقلاليتها وثقافتها ونقاباتها. وهذا ليس بعيداً عمّا ورد في البيان الشيوعي “لا تخسر البروليتاريا سوى قيودها”.
اليسار الموجود في الديمقراطيات الأوربية – وباستثناءات قليلة – ما عاد عدواً للرأسمالية وثقافة الراسمالية، وهويتبع نهج (خطوات قصيرة – نتائج قصيرة أقل سوء).. ويعتقد البعض أن هذا اليسار لا يحتاجه الكثير، وحتى الرأسمالية لا تحتاجه..
بعد هذا، هل يمكن القول، أن الأول من أيار هو رمز إذلال العمال؟، والتجارة السياسية باسمهم؟
إذا استطاعوا تجنيد الفقراء والمستغَلين(بفتح الغين) والبؤساء ضد الأكثر فقراً، فإن ذلك قد يكون بوادر انتعاش شيء من الفاشية، إن تجاهل حقوق الإنسان من قبل اليسار الأوربي وعدم المطالبة بتجريم الديكتاتوريات المتبقية القليلة في العالم، مثل سوريا – إن ذلك هو مؤشرٌ يدعو للوقوف وإعادة التقويم لامتلاك وسائل جديدة للنضال ضد القمع والاستغلال والفساد.. ومن أجل يسار تكون همومه الأولى، الإنسان وحريته وكرامته ولقمة عيشه…
المجد للأول من أيار.. ونسأل من جانبنا، يا ترى مع كل هذا أين غابت البروليتاريا؟، أين الأول من أيار؟ ..
، 30 / 4 / 2009.
خاص – صفحات سورية –